كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
بالصداقة نواجه غربتنا واغترابنا في الحياة
رغم أهمية حياة العزلة بالنسبة للموجود البشري الأصيل، فإن هذا الموجود لا يمكن أن يحيا أيضًا بدون الأصدقاء.. لا أقول بدون الآخرين؛ لأن الأصدقاء ليسوا هم الآخرين، وإنما هم جزء أساسي من الوجود الحميم. فما الوجود الحميم؟ إنه الوجود الذي نشعر فيه بالألفة.. نشعر أنه يتخللنا ويمتزج بكياننا كما لو كان جزءًا منا، أو كما لو كنا جزءًا منه. هكذا أيضًا يكون الصديق الحميم.. إنه يشكل جزءًا من عالمنا؛ لأنه يشاركنا في جزء من رؤيتنا لهذا العالم، واهتمامنا أو همنا به. حينما لا تجد من يفهمك أو يستوعب ما يشغلك ويؤرقك، يبقى هناك الصديق الذي يستطيع أن يفهم ذلك، وينصت إليه كما لو كان يمثل همه الخاص. الصديق الحق هو الوجود المهموم بهمِّك؛ ومن ثم فإنه يكون أقرب الناس إليك.. إلى عالمك الأليف أو الأثير.
الصديق الحق هو الموجود الذي يريد أن يسمع منك، من دون حاجة إلى تنويه أو أية شروط مسبقة! ذلك أن الحوار الذي يحدث من دون مكاشفة أو مصارحة، والذي يضع في اعتباره شروطًا مسبقة، ليس في حقيقة الأمر بحوار، وإنما هو أقرب ما يكون إلى التفاوض الذي يريد فيه كل طرف أن يحصل على أكبر قدر ممكن من المكاسب على حساب الطرف الآخر. إن الحوار في هذه الحالة الأخيرة يفقد مصداقيته ومشروعيته كحوار؛ إذ يصبح انتهازيًّا مفتعلًا، ولا يمكن لأي حوار حقيقي-بحكم ماهيته- أن يكون كذلك: فالحوار انفتاح على فهم الآخر أو تفهمه، من دون إخضاع له في مقولات جاهزة معدّة سلفًا.. هكذا يكون فهم الآخر.
ولهذا يحتل الصديق في نفس المرء مكانة سامية، لا ينافسه فيها إلا الحبيب أو المعشوق. وهذا أيضًا هو السبب في أن الإساءة التي تصدر عن الصديق يكون وقعها من نفس المرء كبيرًا بقدر منزلته عنده. ولكن الأصدقاء في النهاية بشر لهم أخطاؤهم وطباعهم التي لا تخلو من صفات قد تكون مرذولة أحيانًا؛ ولذلك لا مناص من أن يتقبل المرء صديقه كما وُهِب له، مثلما وهب له محبوبه. والصداقة نعمة لا توهب إلا لأولئك القادرين عليها، المؤهلين لها بحكم فطرتهم، وطبيعة تربيتهم وتكوينهم الثقافي. الصداقة قدرة على الألفة، من يفتقر إليها لا يصبح قادرًا حتى على الشعور الأليف تجاه الأشياء والحيوانات نفسها، وعلى رأسها الكلاب؛ ومن ثم يكون فاقدًا لإنسانيته ذاتها. فمن أين تأتي الألفة؟ ربما يفهم كثير من الناس الألفة على أنها الاعتياد، من دون أن يلحظوا أننا نعتاد كثيرًا من الأشياء والأشخاص كجزء من سياق حياتنا اليومي من دون أن نألف أحدًا منهم، بل إننا كثيرًا ما نود أن نقدر على التخلص مما اعتدناه! أما شعور الألفة فهو شيء آخر؛ لأنه شعور مبني على الحب… حب شيء عايشناه وفهمنا أو عرفنا شيئًا من حقيقته؛ ولذلك فإننا نرغب في أن نَبقى بقربه؛ ومن ثم فإن الصداقة هي شعور دائم بالاحتياج إلى هذا الوجود الأليف الذي ينبغي أن نكون بقربه؛ كي نواجه غربتنا واغترابنا في الحياة.
وللصدافة شروط أخرى: فعلى الرغم من أن الشعور بالألفة يمكن أن ينشأ بين الإنسان والحيوانات، بل حتى بين الإنسان والأشياء، فإن الصداقة بمعناها الحقيقي هي قدرة إنسانية خالصة؛ لأنها تفترض القدرة على معرفة المرء لذاته، وعلى أن يتعرف إلى ذاته في الآخر. وهذا أمر يحتاج إلى إيضاح:
يتحدث أرسطو في كتابه «الأخلاق النيقوماخية» أو «الأخلاق إلى نيقوماخوس» (نسبةً إلى ابنه نيقوماخوس الذي يهدي إليه أرسطو كتابَه)- يتحدث عن صداقة المرء مع نفسه، وهي صداقة لا يمكن أن تنشأ إلا على أساس من «وحدة الروح»، أي على إدراك وحدة الذات مع نفسها، وهو أمر لا وجود له في عالم الحيوان (فيما يرى الفيلسوف الكبير غادامر). وهو في حديثه هذا كان واعيًا تمامًا بمعتقد أفلاطون في أن المرء يجب أن يكون صديقًا لنفسه كي يمكن أن يصادق شخصًا آخر. شرط الصداقة هذا يعني أن المرء يجب أن يكون قادرًا على أن يتعرف إلى ذاته في وحدتها؛ ومن ثم أن يكون قادرًا على أن يُصادِقَ ذاتَه ويحبها. ويجب أن نفهم هنا مقصود أفلاطون من مفهوم «حب الذات» self-love؛ لأن الشائع عند الناس أن حب الذات يجعل المرء غير قادر على الصداقة. ولكن الحقيقة أن مقصود أفلاطون هنا بعيد تمامًا من ذلك المعنى الدارج. ذلك أن حب الذات هنا لا يعني الأنانية أو اقتفاء المرء لمصالحه الخاصة على نحو أناني، وإنما يعني التصالح مع النفس التي تكون لها هوية أو وحدة واحدة، لا تضارب فيها بين العقل من جهة وبين النوازع والعواطف من جهة أخرى. فالقدرة على التعرف إلى هذه الذات وفهمها، ومن ثم مصاحبتها، هي أصل الحاجة في التعرف إلى الآخر الذي نرى فيه ذاتنا، وهذا هو الأصل العميق لمعنى الصداقة وضرورتها في حياتنا. ولهذا فإن اكتفاء الذات بنفسها غير ممكن، فتلك حالة غير إنسانية؛ ولهذا السبب عينه؛ فإن الصداقة تظل خاصية إنسانية أصيلة لا يمكن نسبتها إلى عالم الألوهية؛ لأن الإله بحكم ماهيته يجب أن يكون دائمًا مكتفيًا بذاته (وهذا المعنى للإله يبلغ ذروته في الإسلام، من خلال التشديد على وحدة الرب باعتباره واحدًا لا شريك له). ذلك هو تأويلي لأرسطو وأفلاطون في تلك المسالة.
* * *
ولَكَمْ عرفتُ في الحياة ما لا يحصى من البشر، وازدادت معرفتي بهم حينما توليت منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة بمصر. عرفت كثرة من الأشخاص والمثقفين المزيفين، وعرفت قلة من المثقفين الحقيقيين. ولكن حتى الأشخاص الحقيقيون يظلون عندي أشخاصًا جديرين بالحب والتقدير والاحترام، من دون أن يعني ذلك أنهم أصدقاء؛ فالصداقة شأن آخر، تاريخ مشترك أكثر عمقًا من مجرد العلاقة بين الأشخاص التي يسودها الحب والتقدير. ومن النادر أن يتحول شخص نحبه ونقدره إلى مرتبة الصديق الحميم. على الرغم من أننا كثيرًا ما نصف هؤلاء -في لغة الخطاب المتداول وفي إهداءات الكتب التي نؤلفها- بوصف «الصديق»؛ إذ إن هذا الوصف يكون غالبًا على سبيل المجاملة، على نحو يعبر عن مكانتهم عندنا.
حسن طلب كم عاش وحيدًا من أجل الشعر
ولكني أريد أن أتوقف هنا عند معنى الصديق كما عرفته في خبرة الحياة، وما يجسد لي معنى الصديق الحق الذي قلما ينعم الله به علينا، فلعل هذا يجسد الكثير من المعاني التي عرضتها بشكل نظري خالص. وسوف أتوقف هنا عند واحد من أصدقائي المخلصين القليلين الذين تركوا في نفسي بصمات عميقة ظلت قابعة في الروح، وهو الشاعر المتفرد حسن طِلِب:
عرفت في حسن طلب طبائع راسخة مما أجده في نفسي على نحو ما: عرفته مولعًا بالشعر، محبًّا للفلسفة، غيورًا على الحق، نافرًا من كل الأشياء الوضيعة، ومن صغائر الأمور وتوافهها. عرفته جادًّا صارمًا في كل تلك الأمور إلى حد التشدد والإفراط. وكم كنت أنصحه أن يخفف من حدة انتقاده للبشر المزيفين من النكرات والإمعات الذين ينالون مكانًا أو تقديرًا لا يستحقونه في عالمنا العربي. كنت أنصحه، لكي يتجنب سهامهم؛ فليس كلهم بأصدقاء أخيار أو قادرين على التسامح والتفهم وانتقاد الذات، ولربما كان موقفه هذا مدعاة لتكالب الأشرار عليه. فكان يقول لي دائمًا: إن ما تعلمناه من الفلسفة هو أن القيم تتصارع، وأن بعضها ليعلو على بعض: فالصداقة قيمة، ولكن إذا تعارضت قيمة الصداقة مع قيمة الحق، ينبغي أن ندافع عن الحق غير عابئين بأن نخسر الأصدقاء من أجلها. لم أكن أردَّه في مثل هذا القول؛ لأني أعرف -كما يعرف هو- أن فيّ شيئًا من طبعه، وإن كنت أقل منه اندفاعًا. كلانا نفس الشخص.. نفس الروح، ولكن روحه هي روح الشاعر التي تهيم وتندفع، وروحي هي روح الفنان المندفعة التي يكبحها دائمًا العقل المتمثل في طبيعة الفلسفة. جمع هو بين الفلسفة والشعر، فغلبه الشعر؛ وجمعت أنا بين الفلسفة وحب الشعر (الذي هو روح الفن عمومًا، كما فهمه اليونان)، فغلبتني الفلسفة. وكلانا بذلك يسير على الدرب ذاته، أحدنا إلى جوار الآخر، تمامًا مثلما علمنا هيدغر الصلة الحميمة بين هذين المسارين بين الشعر والفلسفة.
كم عاش صاحبنا وحيدًا من أجل الشعر، ومن أجل الكلمة! كم من مرة هاتَفَنِي في غسق الليل ليُلقي عليَّ شيئًا من شعره الذي سوف يخلده التاريخ، وليخبرني كيف أمضى الليل في صياغة مطلع قصيدة، وليستأنس برأيي فيما تمخضت عنه قريحته الشعرية، وأنَّى لمثلي أن يعقب عليه في ذلك، إلا قليلًا! كم تعلمت منه.. كان مرجعي وملاذي في اللغة. لم تكن نصائحه اللغوية كتلك التي يرددها الذين تعلموا اللغة باعتبارها قواعد صماء: كان يجد تخريجًا من القرآن ومن أساطين الشعر، ليعلمني أن الغلبة ينبغي أن تكون للأسلوب، وإن جار على قاعدة أو صياغة نحوية ليست صحتها مطلقة دائمًا.
ولكن لماذا نقول: إن حسن طلب هو المبدع حقًّا أو نموذج المبدع؟ لا أقول ذلك لأنه أكثر من أحببت من الأصدقاء، بل لأنه يجسد نموذج المبدع عندي، وليس مجرد الشخص الصديق. بل ربما كان عمق الصداقة هنا يتأصل، لا في خصال الشخص وسماته، بل في تجسيده لنموذج المبدع الذي أومن به. والواقع أن حسن طلب يعمل مدرسًا جامعيًّا في قسم الفلسفة بجامعة حلوان، ظل مدرسًا دون أن يحصل على الأستاذية؛ لأنه كان منشغلًا بالشعر وبالفلسفة ذاتها، التي لا شأن لها بالدرجات العلمية التي لها طابع وظيفي في جامعاتنا. كان هذا أيضًا هو حال صديقي الحبيب الفيلسوف الراحل محمود رجب، الذي سبق أن كتبت عنه أكثر من مرة في كتابي «الخاطرات». لم يحصل على الأستاذية إلا بعد إلحاح مني ومن الأصدقاء المقربين؛ لأنه لم يكن مشغولًا بالتقدم لنيل هذه الدرجة.. كان مشغولًا بالفلسفة ذاتها. كان يقول لي: هل أتقدم إلى هذه الدرجة التي حصل عليها فلان وفلان من الأقزام في جامعاتنا؟! كنت أعرف حقيقة ما يقول، ولكني كنت أريد ألا يتجاوزه الصغار في الأمور الوظيفية والإدارية التي تحكم منظومة العمل في جامعاتنا المتخلفة. كذلك كان حسن طلب، فهو لم يعدّ مهمته الأكاديمية هذه سوى مهمة ثقيلة لكسب قوت الحياة اليومية… همه الأكبر هو الشعر، مثلما كان ذلك هو هم الشاعر العظيم هيلدرن الذي عدَّ الشعر «أخطر النعم»؛ لأنه أخطر الهموم في الحياة. كان حسن طلب يَغفُل عن مطالب الحياة ومتعها، حينما تستولي عليه ربة الشعر كما صورها اليونان القدماء، وهي الحالة التي صورها أفلاطون نفسه. هذه الحالة الشعرية التي طالما تستولي على كيان حسن طلب، هي الصورة الشعرية المدفوعة بحالة من التوهج الوجداني الشعوري، الذي حفزته حالة معينة أو موقف عابر من مواقف الحياة وأحداثها، وهي حالة يستغرق في صياغتها سنوات عديدة.
تلك الجدية والإخلاص والإتقان فيما نعكف عليه ويشغل همنا واهتمامنا، هي ما جمعني بهذا الصديق باعتبار أن كلًّا منا صدى لروح واحدة في الفهم والتأمل والشعور. ولهذا دامت صداقتنا عبر الزمان إلى يومنا هذا، وهذه حال قد تنال منه تقلبات الزمان حينًا، ولكنها ليست بقادرة على أن تطمسه؛ لأنه مؤسس على المعنى الحقيقي للصداقة.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب في الوطن العربي
صورة النخب وجدل الأدوار محمد شوقي الزين - باحث جزائري مثل المنطوق الأوربي (elite)، تنطوي مفردة «النخبة» في اللسان...
الإبل في الثقافات: شراكة في الحضارة قفْ بالمطايا، وشمِّرْ من أزمَّتها باللهِ بالوجدِ بالتبريحِ يا حادي
آفاق السنام الواحد عهود منصور حجازي - ناقدة سينمائية منذ فجر التاريخ، كان إدراك الإنسان لتقاسمه الأرض مع كائنات أخرى،...
تجليات الفن في العمارة… رحلة بصرية عبر الزمن
العمارة والفنون البصرية علاقة تكافلية مدهشة علاء حليفي - كاتب ومعماري مغربي منذ فجر الحضارة حتى يومنا الحالي، لطالما...
0 تعليق