كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
هل من صداقة في عالم السياسة؟
من قيصر وبروتوس إلى جيفرسون وآدمز تناقضات تاريخية وقصص واقعية
أحد أهم الأسئلة المطروحة على دائرة النقاش في عالمنا المعاصر هو ذاك المتعلق بالعلاقة بين السياسة والصداقة، وهل هناك مجال في عالم السياسة لضرب من ضروب الصداقة بوصفها علاقة اجتماعية وإنسانية تربط شخصين أو أكثر على أساس من الثقة والمودة والتعاون بينهما؟ أم إن السياسة بوصفها فعلا براغماتيًّا ذرائعيًّا نفعيًّا، لا يمكن أن يكون لها سبيل إلى معنى الصداقة اليوتوبي المنزَّه عن الدسائس والمؤامرات التي تزخر بها سياقات السياسة وأفعال الساسة؟ ربما نكون في حاجة مبدئية لإعادة تعريف كل من السياسة والصداقة على حدة أول الأمر، ثم نحاول تبيان إمكانية نشوء وارتقاء علاقة ما بينهما، وبخاصة في ظل بعض المصطلحات الحديثة، التي طرأت على مسامع العالم مؤخرًا من عينة «النيران الصديقة»، و«الدول الصديقة».
الصداقة وماهيتها بداية
الشاهد أن فكرة الصداقة المجردة قد حظيت باهتمام بالغ عند معشر الفلاسفة والمفكرين والمثقفين، وكذا علماء النفس منذ زمن طويل، ومردّ ذلك، إلى أنها الجسر الذي يمر من خلاله الآخرون في علاقاتهم الاجتماعية، ويتواصلون نفسيًّا وفكريًّا، اجتماعيًّا وأخلاقيًّا، إيمانيًّا وروحيًّا، كسمات أساسية رئيسية في حياة الكائن البشري. عدَّ أفلاطون الصداقة علامة محبة متبادلة بين الأنا والغير، وعلى هذا فهي أساس التكامل في الحياة. أما أرسطو فعدَّ الصداقة الحميمة من الأمور الإنسانية المهمة لتحقيق حياة مليئة بالهناء والأفراح والسرور، حيث الصداقة عنده تعني علاقة التفاعل والانسجام المتبادل بين طرفين، ويدل من ناحية أخرى على الرغبة والألفة والمعاشرة في التعاون مع الآخرين في مختلف مجالات الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية. والشاهد أن التعريفات تطول وليس هنا مقام تفصيل الكلام عنها، وإنما التعريف فقط يقودنا إجمالًا إلى ثلاثة أشكال من الصداقة هي:
الصداقة المبنية على أساس المنفعة: وقد تكون هذه بالفعل أقرب الأشكال للصداقات السياسية، وأبعدها من النماذج المثالية للعلاقات الإنسانية؛ لأنه تُحدَّد قيمتُها في نظر الأفراد بمقدار ما يستطيع الفرد أن يحصل مقابل ما يعطي غيرَه.
الصداقة من أجل المتعة: وهذه قد لا تتسق كثيرًا مع موضوع البحث، أي علاقة الصداقة بالسياسة، اللهم إلا إذا كانت الحروب والدسائس، المكر والخديعة، متعة عند البعض، وهذه تظهر قيمتها بدرجة الشعور بالسعادة عند ملاقاة الآخر.
الصداقة من أجل الفضيلة: وهي التي تنشأ بين العناصر الصالحة في مجتمع بعينه، يدفع بعضهم دفعًا في معارج المجد الأدبي، وسلم الأخلاق والفضيلة، وهو منبت الصلة بعالم السياسة.
ماذا قالوا عن السياسة؟
تأتي لفظة سياسة في اللغة العربية على وزن «فعالة»، وساسَ الأمرَ أي تدبَّرَ أمرَه، وساس الرعيةَ أي تولَّى شؤونَها، وعليه فهناك علاقة بين طرف وأطراف، بين الواحد والجماهير، واصطلاحًا تعني رعاية شؤون الدولة الداخلية والخارجية وتعبر عن عملية صنع قرارات ملزمة لكل المجتمع، تتناول قيمهم مادية ومعنوية، وترمز لمطالب وضغوط وتتم عن طريق تحقيق أهداف ضمن خطط أفراد وجماعات ومؤسسات ونخب حسب أيديولوجيا معينة على مستوى محلي أو إقليمي أو دولي.
ولعل أبرز التعريفات السياسية التي تظهرها الموسوعات الدولية إنما تشير إلى أن السياسة هي العلاقة بين الحكام والمحكومين من جهة، وإنها الدولة وكل ما يتعلق بها من شؤون مختلفة، وهي بالقدر نفسه السلطة الكبرى في المجتمعات الإنسانية وكل ما يتعلق بظاهرة السلطة.
ولعله من المثير حين نصنف أنواع السياسة ألّا نجد أي حديث موصول بينها وبين الصداقة، فهناك على سبيل المثال السياسات المرتبطة بنوازع أيديولوجية ونظريات فكرية كالشيوعية أو الرأسمالية، وكل منها يسعى لتوجيه الإنسان إلى طريق بعينه، وهناك سياسة التكتلات كما الناتو ووارسو في زمن الحرب الباردة، ومن بينها سياسات الاحتواء والردع، وسياسات اقتصادية وأخرى إستراتيجية، غير أن البعد الإنساني، وجزئية الصداقة تكاد تتوارى إلا عند رجالات الفلاسفة المُسَيّسين أو الساسة المتفلسفين.
الصداقة والسياسة والمصلحة المشتركة
أحد أهم عمالقة الفكر والفلسفة الذي توقف طويلًا عند الإشكالية التي نحن بصددها هو الفيلسوف العلامة «توما الأكويني» (1225 – 1274م)، الذي عَدَّ المصلحةَ المشتركةَ ينبغي أن تكون غاية ما هو سياسي، وحديث المشترك يفتح الباب فلسفيًّا واسعًا لمعاني ومباني الصداقة… لماذا؟ لأنه دائمًا ما نجعل الحياة السياسية موضع تفكيرنا من حيث إنها صراعات تخاض وتنتهي بالغلبة لطرف على الآخر.
وإذا نظرنا إلى السياسة من زاوية الفيلسوف الألماني «جورج هيغل» سنجد أنها جدلية «السيد والعبد»، وليس الصديق وصديقه، بل أكثر من ذلك يبدو لنا ما هو سياسي كموضوع للنزاع على أتم وجه، وصراع محتدم إلى ما لا نهاية إلى أن تتجذر، من دون إمكانية لفضها، وكأن في التعارض بين الصديق والعدو تجميعًا لكل تلك التعارضات التي هي بين ما هو طبيعي وما هو غير طبيعي، وبين الخير والشر، وبين ما يعود بفائدة وما لا يعود بفائدة. يضع الأكويني أيادينا منذ ثمانية قرون تقريبًا على إمكانية أن تكون هناك صداقة في عالم السياسة، وعنده أن تعيين المصلحة المشتركة كغاية لما هو سياسي، يقودنا للإيمان بأن لقاء الآخر ضرورة حتمية، واللقاء بداية طريق الصداقة حتى في عالم السياسة، فهو وحده الذي يتيح للإنسان أن يتخذ موضعه حقًّا، وبالتمام.
يعرف الأكويني الصداقة السياسية بأنها أرقى أشكال السعادة الأخلاقية، غير أنها لكي تتحقق لا بد من توافر شروط، منها وجود فعلي للسعاة الأخلاقية، ومفادها أن الناس عندما يشعرون بالصداقة، لا يكونون في حاجة إلى العدالة، فهي قائمة في نشيد الصداقة كما يقول عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي «روبير مونتاني»، ومنها المواطنة، بمعنى أن الذي يتخلى عن مواطنته لا يمكنه أن يصنف نفسه من الذين يمكنهم أن يكونوا أصدقاء في السياسة. والشاهد أن الأكويني عاش متأثرًا جدًّا بأفلاطون وأرسطو، والأخير يقول: إن الصداقة بين المواطنين هي أحد الشروط الأساسية للرفاه المشترك، لكن كيف تستقيم الصداقة في عالم مليء بالدسائس والشرور غير الأخلاقية، تلك التي تبطل فعل الصداقة في المبتدأ والخبر؟
العلاقة الدولية ومفهوم الصداقة: لا يمكننا بحال من الأحوال تناول مفهوم الصداقة والسياسة في القرن الحادي والعشرين بمنأى عن مفهوم ومعنى العلاقات الدولية؛ ذلك أن تطور الكيانات السياسية في حاضرات أيامنا، اختلف اختلافًا جذريًّا عما كان عليه المشهد السياسي قبل ألف عام أو ألفي عام، فوقتها ربما كان البعد الشخصي للحكام هو الذي يحدد علاقات الأمم بعضها ببعض، فيما تغير المشهد اليوم، استنادًا إلى رؤى مغايرة للحياة المتطورة بشكل متسارع. بات من غير اليسير الحديث عن صداقة مجردة في عالم معقد، توجد فيه فواصل وحواجز بين الأمم والشعوب، ويتطلب التعاون بينهما تمييزًا واضحًا له مرجعياته في القانون والشرائع الدولية، ومن ثم تبدو الشؤون الدولية كأنها تتعلق بأحداث منفصلة في طبيعتها، ولا رابط بينها، فهذه الأحداث قد تكون ذات طبيعة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية أو رياضية، ولكل منها مجال خاص وميدان مستقل تتحرك فيه، وبالتالي له آلياته وقواعده الخاصة.
السؤال هنا: من الذي باتت مسألة الصداقة معلقةً في رقبته في هذا الكون الواسع المترامي الأطراف؟ باختصار غير مخلّ لم تعد المسألة فقط متعلقة بالرؤساء أو الزعماء، بل بات هناك فاعلون دوليون جدد، أصبحت أصابعهم تحرك العالِم، وتأثيرهم في مجمل التفاعلات الدولية لا يقل أهمية وخطورة عن دور الحكومات وتأثيرها، بل أصبح للمبادرات الفردية والخاصة، وتحركات الأفراد والجماعات العابرة للحدود، والدوافع السياحية أو الثقافية أو الهجرة أو غيرها، دور فاعل ومؤثر على نحو متزايد في التفاعلات الدولية.
الصداقات السياسية في زمن العولمة
تطرح السطور المتقدمة السابقة علامات استفهام عن أزمنة العولمة والأبعاد الشخصية لهؤلاء الفاعلين اليوم على الساحة الدولية، بمعنى أنه حال المقارنة بين زمن الأمبراطورية الرومانية، والصداقات التي كانت تربط القيصر مع من سواه من حكام دول العالم، وبخاصةٍ التابعون له، وبين رؤيتنا على سبيل المثال اليوم لدولة مثل الولايات المتحدة الأميركية التي ينظر إليها على أنها روما العصر مالئة الدنيا وشاغلة الناس، فإن تغيرًا جذريًّا لا بد أن يطرأ على شكل ومفهوم العلاقة في الصداقة السياسية.
كان المشهد في زمن القيصر سلطويًّا بالدرجة الأولى، بمعنى أن الأضعف يخضع لسيطرة الأقوى والأكبر والأفعل عسكريًّا واقتصاديًّا. لكن اليوم وفي الحق منذ نشأت عصبة الأمم المتحدة بدأت لوائح الصداقة الأممية وتوجهاتها تأخذ منحى جماعيًّا، له ميثاق وآليات، ولم تعد المسألة –ولو بشكل نسبي- شريعة غاب، حتى إن شذ بعضٌ عن القاعدة في بعض الأحيان. في هذا الإطار لم تعد الصداقة فكرة مجردة بين حاكمين أو بين دولتين بل أضحى المفهوم أوسع ويتصل بما نعرفه اليوم بالنظام الدولي، أي مجموعة الوحدات التي تتفاعل فيما بينها، فمن ناحية يتكون النظام من هيكل أو بنيان، ويتكون من ناحية أخرى من وحدات تتفاعل معها، والنظام الدولي كذلك نمط للعلاقات بين الوحدات الأساسية الدولية.
هنا ينبغي علينا الإشارة إلى اختلاف مفهوم النظام السياسي الدولي، عن مفهوم المجتمع الدولي، من عدة نواحٍ، فالمجتمع الدولي هو المجتمع الذي تنتظم الدول كافة في عضويته، وهو الذي يمنحها الاعتراف، كما أنه يتعامل معها جميعها على قدم المساواة من دون تفرقة أو تمييز، وهو الذي يقر لها بصلاحيات السيادة الوطنية الكاملة وغير المشروطة على أراضيها، وهنا فإن وحدات المجتمع الدولي يمكن أن تنشأ بينها وبين بعضها صور متباينة من الصداقة ذات الدرجات المختلفة.
أما النظام السياسي الدولي فإنه أكثر تحديدًا في مفهومه وكذا في الأسس التي يرتفع فوقها بنيانه، وعليه فمسألة الصداقات الثنائية فيه غير ممكنة عبر التجريد المطلق.
صداقات دائمة أم مصالح متصلة: في سياق البحث والتنقيب عن جذور قضية الصداقات في عالم السياسات، يجد المرء عبارة تكاد تكون من قبيل المصكوكات الفكرية إن جاز التعبير وهي: «أنه في عالم السياسة لا توجد صداقات دائمة أو عداوات دائمة بل مصالح دائمة مشتركة». وفيما ينسب بعضٌ هذه المقولة لرئيس وزراء بريطانيا الأشهر ونستون تشرشل، يرى بعض آخر أن قائلها هو الرئيس الفرنسي مؤسس الجمهورية الخامسة «شارل ديغول». ومهما يكن من أمر قائلها، فإن ما يهمنا هو المحتوى أولًا وقبل كل شيء، ولا سيما أن نخب البراغماتية السياسية حول العالم، أولئك الذي مضوا بعيدًا في عالم تسليع الإنسان ضمن أطر الرأسمالية المعولمة المتوحشة، وكذا النيوليبرالية بما جرته على العالم من ويلات، جعلوا منها مرجعية مقدسة لما يجري حول العالم، وبهذا المفهوم انتفت الصفات الأخلاقية من المجتمعات البشرية، وفي المقدمة منها، صفة الصداقة ورباطات الأخوة، وبات الإنسان «ذئبًا لأخيه الإنسان» كما يشير الفيلسوف الإنجليزي «توماس هوبز» (1588- 1679م)، أو بات الآخر هو الجحيم، بحسب توصيف الفيلسوف الوجودي الفرنسي الأشهر «جان بول سارتر» (1908– 1980م).
والثابت أن المصالح تختلف اختلافًا جذريًّا عن أخلاقية الصداقة فالمصالح قائمة على إستراتيجيات واضحة كل الوضوح في أعين أصحابها، قد يذهبون إليها مباشرة لتحقيق أهدافهم، أو أنهم يلتفون من حول التضاريس الجبلية الوعرة ويبقى الهدف باقيًا ماثلًا أمام أعينهم. أما الصداقة ففيها شيء كبير من التسامح والتصالح مع الآخر ومع الذات، وعادة ما تكون بعيدة كل البعد من تلك الدائرة الجهنمية المعروفة باللعبة السياسية
أو الألعاب حال الجمع، تلك البعيدة كل البعد من الملهاة، وبعيدة أيضًا من البراءة، ولا تمت بِصِلَة من قريب أو بعيد إلى الرهان الشفاف، إنها لعبة يصفها بعضٌ بأنها شيطانية، لعبة ذكاء ورهان ومصير، ربما تسبب أنهارًا من الدماء، وربما تغير مسار التاريخ، تهدم دولًا وتبني غيرها، وربما تشلّ الحياة، ولكن ليست ككل الألعاب، لعبة قد تكون أداتها القنابل الذرية، أو أرقى المعادلات الرياضية، لعبة قد تكون في علوم الأولين والآخرين، لعبة قد تكون أدواتها الانحلال والإباحية.
هذه المقدمة تقودنا إلى أن هناك احتمالات لأن تحوي السياسة في طياتها عداء وصداقة معًا في الوقت نفسه، صداقة في ضوء مصلحة معينة، وعداء في ضوء تنازع وتصارع مصلحة أخرى مناهضة ومقاومة في اتجاه مضاد، لقاء هنا بسبب مصلحة مسماة، وفراق هناك من جراء مصلحة مسماة أخرى، توافق هنا بضغط، ثم مصلحة مشخصة، وشجار هناك بضغط من مصلحة مشخصة، تبادل خبرات سياسية وعسكرية وأمنية واقتصادية هنا لضرورات براغماتية دقيقة، وتمويه وتضليل سياسي وعسكري وأمني ومخابراتي هناك لضرورات مغايرة… هل يفهم من هذا الطرح أننا أمام ما جرى بعضٌ على تسميته مؤخرًا النيران الصديقة؟
النيران الصديقة عسكريًّا وسياسيًّا
تخبرنا الموسوعة العالمية ويكيبيديا أن النيران الصديقة هي رمي بالأسلحة بين جند الجيش الواحد أو بين الجيوش المتحالفة بقصد إلحاق الأذى بالعدو، وتتسبب النيران الصديقة في سقوط عدد من الجرحى ومن القتلى، غير أنه في العلوم العسكرية، لا يصنف هؤلاء القتلى على أنهم قتلى معركة ولا جرحى حرب، والسببان الرئيسان لحوادث النيران الصديقة هما، الموضع الخاطئ، وتحديد الهوية الخاطئ.
حديثًا تحفظ الذاكرة عدة حوادث جرت بها المقادير في الحروب المعاصرة، فخلال الغزو الأميركي للعراق في مارس 2003م حدثت معارك أطلق فيها الأميركيون نيران أسلحتهم على جنودهم، وهو الأمر الذي تكرر في أفغانستان أيضًا.
المشهد نفسه حدث في صفوف القوات الإسرائيلية خلال عدوانها على غزة عام 2012م، ومثله في ليبيا حين أوقع الثوار الليبيون طائرة من طراز ميغ 23 تابعة لسلاح الجو الخاضع للثوار. قبل ذلك وفي زمن الرئيس السوداني الراحل جعفر نميري اشتبكت فصيلة من المظلات مع قوة من الهجانة ليلًا، والسبب كان سماع قوة الهجانة لإطلاق أعيرة نارية من بندقية الكلاشنكوف، التي لها صوت مميز يختلف عن بنادق الجيم 3 التي كانت تستخدمها معظم وحدات الجيش. هل في إشكالية النيران الصديقة ارتدادات ما لها صلة بعالم الصداقة مع الآخر أم إنها مفاهيميًّا تنسف فكرة الصداقة من الأصل في عالمي السياسة والعسكرية؟ أهم الأبعاد التي تجعل النيران الصديقة واقعًا معاصرًا معيشًا، هو الإنسان نفسه، أي أن المقاتل في ساحة المعركة هو السبب الرئيسي في ارتكاب هذا الفعل؛ ذلك أن جو المعركة ذاته وحالة التوتر والقلق والخوف التي يعيشها هذا المقاتل، والتشويش الفكري والنفسي، تجعله عرضة للتصرف العشوائي والمتهور فيطلق النار أحيانًا من دون تمييز، وعند أقل حركة دفاعًا عن نفسه، وخصوصًا في الليل.
هل غياب الإحساس بالآخر دافع رئيسي في تكرار مثل هذه الحوادث؟ المؤكد أنه عند غياب الحس بالآمان، الذي تولده الصداقات الإيجابية العميقة والخلاقة، يضحى البديل هو الخوف من الآخر، ويصبح بالفعلِ الآخرُ هو الجحيم وهو العدو.
قيصر وبروتوس.. نيران الأصدقاء
لا يقتصر مصطلح «النيران الصديقة» على أرض العمليات العسكرية وميادين ضرب النار فحسب، بل هناك أيضًا نيران صديقة في عالم السياسة المدنية، بمعنى وجود طغمات من السياسيين الذين يذكرهم التاريخ، قد سارعوا إلى قتل أصدقائهم، أو خيانتهم، إما بدعوى أن هناك بلادًا تحتاج إلى بناء بقتلهم أو خيانتهم، أو بدعوى أن هناك ثورة تنتظر صنعها، أو تحت ذريعة وجود حرب ما لا بد من ربحها أو أحيانًا حتى من دون دعوى، فقد تحدث صراعات داخلية في عالم السياسة تفسد سنوات طوالًا من عالم الصداقة. ولعل حدثين بعينيهما في العالم العربي يدللان على كارثية النيران الصديقة التي جرت بعيدًا من ميادين ضرب النار. أما الحادث الأول فقد عرفته مصر الكنانة في أعقاب حرب الخامس من يونيو حزيران من عام 1967م.
ذلك أنه بعد الهزيمة القاسية التي تعرض لها الجيش المصري، حدث خلاف عميق للغاية بين القيادة السياسية المتمثلة في جمال عبدالناصر رئيس الجمهورية، وبين قائد الجيش المصري، وزير الحربية، صديق العمر لجمال، المشير عبدالحكيم عامر، ورغم أن الرواية الرسمية تشير إلى أن عبدالحكيم قد انتحر، إلا أن أسرته، وكثيرًا جدًّا من روايات المسؤولين المصريين، تؤكد أنه لم ينتحر.
المثال الثاني للنيران الصديقة في عالم السياسة العربي، حدثت به المقادير في عام 1971م في العراق، عندما قام صدام حسين بحملة تصفية لمعارضيه وخصومه داخل حزب البعث بدعوى خيانتهم؛ لينفرد بمقدرات السلطة في العراق، وليبدأ مسيرة من الحكم المنفرد التي قادت العراق والمنطقة العربية إلى حالها الأليم. هل النيران الصديقة المدنية لم تعرف طريقها للإمبراطوريات القديمة، هادمة بذلك هياكل من الصداقة بين السياسيين دامت طويلًا جدًّا؟ المؤكد أن ما جرى في قصة القيصر الروماني الأشهر «غايوس يوليوس قيصر (عام 100 ق.م)، يؤكد أن الظاهرة كامنة في أضابير التاريخ، فيوليوس قيصر الذي كان من أبرز الشخصيات العسكرية في التاريخ، وصاحب ثورة تحويل روما من جمهورية إلى مملكة، كان لديه صديق مقرب، ويقال أن له ابنًا ولو بصورة غير شرعية يدعى بروتوس، هذا قدم له القيصر يوليوس في حياته العديد من المناصب والألقاب، وعينه حاكمًا لمقاطعة «غاليا»، غير أن هذا كله لم يمنع بروتوس من أن يشارك في حملة لاغتيال القيصر.
قصة بروتوس والقيصر تظهر لنا التضادات والإشكاليات المعقدة التي تلف قضية الصداقة في عالم السياسة؛ إذ تدور تفاصيل المؤامرة على أن يوليوس قيصر حاول تحسين ظروف حياة المواطنين الرومان، وزيادة فعالية الحكومة، وجعلها تتبنى مواقف تنم عن صدق وأمانه، وأعلن في عام 44 ق.م، عن جعل دكتاتوريته المطلقه حكمًا دائمًا على روما. أفقد هذا التوجه يوليوس قيصر أصدقاءه من أعضاء مجلس الشيوخ الروماني، الذين دبروا له مؤامرة كانت نتيجتها اغتياله في مارس من عام 44 ق.م. تفاصيل الاغتيال وخيانة السياسة للصداقة نجدها ضمن ما جرى في ذلك النهار؛ فقد اتفق أصدقاء القيصر على انتظاره في المجلس، وما إن جلس حتى قاموا جميعًا بطعنه بخناجرهم في بطنه وصدره، وكان الاتفاق أن لكل شخص منهم طعنة حتى يموت على أيديهم جميعًا من دون أن تقع التهمة على شخص واحد، وتوالت الطعنات على القيصر، ويقول المؤرخون: إن الرجل الذي كان مقاتلًا صنديدًا، دافَعَ عن نفسه دفاع الأبطال، وقاوم قاتليه مقاومة شرسة، غير أنه حين جاء دور آخر الطاعنين انسحق يوليوس وانهزم في داخله، فقد كان بروتوس، ابنه السري، وصديقه العلني المقرب.
الحوار القصير الذي دار في تلك اللحظات الرهيبة بين الاثنين يبيِّن لنا بجلاء تام، كيف يمكن للصداقة في عالم السياسة أن تضحي وبالًا:
القيصر يوليوس وهو ينازع: حتى أنت يا بروتوس.
بروتوس في نشوة القتل: إني أحبك ولكني أحب روما أكثر منك، وجذب سلاحه من أحشائه ليموت القيصر بهذه الصورة البشعة.
يقول كتاب سيرة القياصرة الرومان أن يوليوس قيصر كان أحد أفراد أسرة من الأشراف الرومان برزت منذ عهد طويل اكتنفه الغموض، وكانت تتجلى فيه معالم ومواهب ومقدرات الشخصية الأرستقراطية الرومانية، فكلمة «شرف» غالبًا ما كانت على شفتيه، والشرف تطلب منه أن يكون مخلصًا وفيًّا إلى أبعد حدود الإخلاص والوفاء إلى أصدقائه ومعاصريه ومؤيديه حتى إلى أولئك الأوضع مقامًا ممن يردون له خدمة… فهل مات قيصر مغتالًا من جراء إخلاصه في صداقاته لسياسيين لا يقيمون وزنًا لمثل تلك الصداقة؟ مهما يكن من أمر الجواب فإنه يدفعنا إلى البحث عن نماذج أخرى ربما تكون أكثر حظًّا في علاقاتها، ورموزًا للوفاء والصداقة بين السياسيين.
عن توماس جيفرسون وجون آدمز
لم يخلُ التاريخ من قصص صداقات طيبة بين سياسيين كبار حول العالم، مثل توماس جيفرسون، وجون آدمز. أما الأول فهو السياسي والرئيس الأميركي الثالث (1743– 1826م)، الذي تجلَّت عبقريته في أنه امتلك تفكير الفلاسفة ودهاء السياسيين واستطاع استخدام هاتين المَلَكتين ببراعة، وهذا هو فن السلطة.
أما جون آدمز (1735– 1826م) فهو الرئيس الثاني للولايات المتحدة الأميركية، كان محاميًا ودبلوماسيًّا ورجل دولة ومنظِّرًا سياسيًّا وهو أحد الآباء المؤسسين، وكان زعيم حركة الاستقلال الأميركية عن بريطانيا العظمى، وكاتب يوميات ورسائل، وبالأخص مع زوجته أبيجيل. الذين لهم علم بتاريخ الولايات المتحدة يعرفون أن صداقة عميقة نشأت بين الاثنين وهما قد تقلَّدا منصب رئيس الولايات المتحدة الأميركية، وقد تعمقت تلك الصداقة خلال الحرب الثورية الأميركية عام 1770م، ورغم اختلافاتهما السياسية، فإن ذلك لم يزعزع تلك الصداقة، وظل جون آدمز وتوماس جيفرسون أصدقاء مقربين، وقد ساهمت تلك الصداقة في تقوية أركان الدولة الأميركية الوليدة في صورة جمهورية، ولا سيما أن جيفرسون هو الكاتب الرئيسي لإعلان الاستقلال، واليوم وفي ظل حالة الانقسام التي تعانيها الولايات المتحدة، والتي تبدت في نتائج انتخابات التجديد النصفي الأخيرة، يقول الثقات من الأميركيين: إنهم في حاجة لإعادة قراءة سطور قصة حياة جيفرسون الفريدة، ليس فقط لأنه قادَ الأمة في وقت التحزبات الشرسة والصراع الثقافي، والتغيرات الاقتصادية والمخاطر الخارجية، ولكن لأنها تجسد الكفاح من أجل قيادة أمة لتحقيق العظمة في عالم صعب ومعقد، وقد كانت الصداقة جسر جيفرسون إلى أغلبية السياسيين إن لم يكن كل سياسيِّي بلاده، ولهذا يبقى علامةً بارزة في تاريخ الولايات المتحدة حتى الساعة.
الحاجة إلى الصداقة دوليًّا: هل يمكن للحياة الإنسانية أن تمضي من دون صداقات إنسانية حتى على صعيد الحياة السياسية الدولية؟ عند الفيلسوف: إن العواطف جوهر الحياة والصداقة القلب منها، حتى إن تراكمت أغلفة البراغماتية السياسية، فمن دون المشاعر نضحي روبوتات حرفيًّا، ننتظر غيرنا ليبرمجنا كي نقوم بأفعال ميكانيكية. الأمر الآخر الذي ينبغي الإشارة إليه هو أن الاختلاف لا يجب أن يعني بالضرورة والحتمية التاريخية الكراهية أو العداء للآخر، وعليه فالذين قالوا بفكرة الحوار كأحد أسس العلاقات الدولية في ثوبها القشيب، خلصوا إلى أنها بداية الطريق لصداقة تجنب العالم والدول والأفراد كثيرًا من المتاعب، وتعود على الشعوب بالخير والنفع الكثير، بخلاف الدولة أو القيادة السياسية التي تستجلب العداء لشعبها، نتيجة سلوكياتها وممارساتها السياسية الخاطئة.
كذلك القائد والحاكم الذي يحسن التصرف بإدارته، ويحتوي الجميع بأسلوبه الإنساني، يكسب كثيرًا من الأصدقاء، وبذلك يكون قد جنَّب نفسه، ودولته الكثير من المشاكل والفتن الداخلية. في هذا الإطار كان من الطبيعي أن تخصص الجمعية العامة للأمم الممتدة في 2011م يومًا للاحتفال بالصداقة الدولية في الثلاثين من يوليو من كل عام. فكرة هذا اليوم العالمي هي أن الصداقة بين الشعوب والبلدان والثقافات والأفراد، يمكن أن تصبح عاملًا مُلهِمًا لجهود السلام، وفرصة لمواجهة أسّ صورة نمطية مغلوطة، والحفاظ على الروابط الإنسانية واحترام التنوع الثقافي… الخلاصة.. الصداقة بين السياسيين طريق مؤكد لتجنيب العالم ويلات الأسوأ الذي لم يأتِ بعد.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب في الوطن العربي
صورة النخب وجدل الأدوار محمد شوقي الزين - باحث جزائري مثل المنطوق الأوربي (elite)، تنطوي مفردة «النخبة» في اللسان...
الإبل في الثقافات: شراكة في الحضارة قفْ بالمطايا، وشمِّرْ من أزمَّتها باللهِ بالوجدِ بالتبريحِ يا حادي
آفاق السنام الواحد عهود منصور حجازي - ناقدة سينمائية منذ فجر التاريخ، كان إدراك الإنسان لتقاسمه الأرض مع كائنات أخرى،...
تجليات الفن في العمارة… رحلة بصرية عبر الزمن
العمارة والفنون البصرية علاقة تكافلية مدهشة علاء حليفي - كاتب ومعماري مغربي منذ فجر الحضارة حتى يومنا الحالي، لطالما...
0 تعليق