كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
صداقة الناقد والمبدع..
أي أثر تركته في الأدب العربي؟
كيف يمكن معاينة مفهوم الصداقة بين المثقفين والأدباء، وهل من حدود يمكن أن تتوقف عندها الصداقة بين هؤلاء، وما الأثر الذي تركته الصداقات وظلالها على الإبداع العربي، هل من صداقة حقيقية يمكن أن تجمع ناقدًا ومبدعًا أو مبدعة؟
تَعُدُّ الكاتبة الأردنية سميحة خريس الصداقةَ «أمرًا نادرًا جدًّا بين عموم الناس، وحين تكون هناك مصالح متبادلة يصبح الرهان عليها صعبًا، ولكن الأمر لا يخلو من حالات نادرة، هذا يعتمد على درجة وعي ونزاهة الأشخاص». وتتطرق إلى تجربتها الشخصية، فتقول: «من تجربتي الخاصة كنت أتجنب عرضًا إبداعيًّا على الأصدقاء من النقاد، وأتعامل بحساسية تجاه ما يكتبون وهم يتناولون إنتاجي، كأني أخاف من الانحياز العاطفي. والغريب أن النقاد الذين وقعت بيني وبينهم الصداقة تم ذلك بعد سنوات من تناول أعمالي لديهم؛ لأننا وجدنا أن هناك صفات شخصية تُحيي الصداقة. في كل الأحوال أحاول ألّا أخلط الأمر، ولا أفرض على ناقد أن يقرأني، ولا على صديق أن يلتفت لإبداعي، حتى لا يحدث هذا الوقوع في الشللية، ولكن أعتقد دائمًا أن الانحياز للجودة قد يشكل شلة محترمة». وتذهب صاحبة رواية «فستق عبيد» إلى أن الصداقات «بين النساء عمومًا أقرب إلى التحقق، نظرًا لكثير من الاهتمامات والهموم والحكايات التي تجمعهن، وأنه في حال وجود حالات مثقفة سينتج حراك جميل».
صداقات الكاتبات
وترى الكاتبة المصرية سلوى بكر أن الصداقة بين الكاتبات «تعد مناخًا إيجابيًّا، وليس به ما يلفت النظر إلى فكرة التكريس للنوع». وتقول صاحبة رواية «البشموري»: إننا نعيش في منظومة قيم يشوبها الكثير من التشوه والماضوية، وهو ما ينعكس على الحياة الثقافية. فالأسماء المكرسة لا تطيق التعامل مع الأسماء الشابة الجديدة، وظاهرة الجماعات والشلل صارت تسود مناحي الحياة، وهي جماعات لا تقوم على أسس جمالية وفكرية، ولكن علاقات ومصالح، وهناك العلاقات الإقليمية التي انتشرت في العمل الثقافي، كجماعة المحلة وجماعة حلوان وشلة الوراق وغيرها، نحن نعيش نوعًا من الازدواجية المعلنة في قيمنا». وتضيف سلوى بكر: «ليس عندي مانع من صداقة بعض الكاتبات لبعضهن، حتى لو على أساس إنساني، فغدًا أو بعد غدٍ ستكون صداقة على أساس فكري وجمالي». وتتأسف على أن الكتابة «لدينا عشوائية. ولعل السؤال الآن هو: هل نحن متفقون جماليًّا؟ للأسف الكتابة لدينا نمطية ومقولبة وعشوائية، ومشاكلنا القيمية الفظيعة لا تجعلنا نتقدم، وتجعلنا نفرح بمجرد أن تمسك امرأة بقلم لتكتب، يا ليت الكاتبات يتصاحبن، وهذه الصداقة ستكون مفيدة جدًّا حين تقوم على أساس الهواجس والهموم المنشغل بها المبدع، للأسف الحوار والنقاش الجاد لم يعد موجودًا حتى في مجتمع الرجال، فحين نذهب إلى المقهى الثقافي لا نجد حوارًا حقيقيًّا، وإذا حاولت أن تتكلم بجدية ينظر إليك الجميع على أنك ثقيل الدم».
عطايا المبدعين للنقاد
وتوضح القاصة الكويتية إستبرق أحمد أن المبدع والناقد «طرفا علاقةٍ حكايتُها النصُّ، أو ذلك ما يجب أن نفترضه بعيدًا من أهداف ضيقة وسريعة، فالعلاقة في الأساس مجردة من التكسُّب، عمادُها البعد الإنساني والمعرفي، ولذلك انعكاسه على ثراء النص وتحصنه من الخلل والخفوت». وتذكر أن هناك من يرى أن الصداقة الحقّة، «تمنع الناقد من تناول النص وإشهار أدواته النقدية في جسده إذ لا سبيل للحيادية. وهناك من يرى أن النقد عمل مجرد من أي علاقة شخصية مع الكاتب، فيتحرر من تأثيرها في رؤيته، لكنني أكتب الآن وأسمع لهاث بعض الكتاب وعطاياهم لنقاد مؤثرين وادعاءهم صداقةً مزيفةً؛ ليأمنوا من كتابة لاذعة أو يُكافَؤُوا بدراسة داعمة، كما أسترجع كتابات لنقاد يكررون من كاتب إلى آخر الأغنية ذاتها في تقديم أو بيع أقلامهم، أو يسعون في ذكورية مقيتة للَفْتِ نظرِ كاتبةٍ وتخيُّل رابطة خاصة، من دون الاهتمام بجودة نصها الذي هو أساس وسبب العلاقة، هكذا لا نستغرب اهتراء صداقة مزعومة بين الكاتب والناقد، وإخفاقها في التعامل مع النص هنا لا يتم باحترافية في ظل ما نعاينه ونعانيه من خراب، أما ما نأمل ونشجع عليه فهو وجود علاقات منصفة في تعاونها وإيمانها بأن النص كائن قائم بذاته يحتاج محاولاتها لينمو ويتطور».
ناقدًا لا صديقًا
ويرفض الناقد صلاح السروي الصداقة بين الناقد والمبدع، قائلًا: «إذا نَحَّيْنا الجوانب الإنسانية تصبح العلاقة بينهما هي النص فقط، فعلى الناقد أن يكون ناقدًا لا صديقًا، وعلى المبدع أن يعتز بنصه لا أن يكون صديقًا للناقد، ينبغي أن تكون العلاقة مجردة بحيث لا توجد ميول ذاتية، ولا حتى تعامل المتكبر أو المدلس، فالمبدع يتعامل بنصه والناقد بضميره النقدي». ويستدرك السروي موضحًا: «لكن الأمور اختلطت في الحقل الثقافي، وصرنا نرى جماعات تشبه العصابات، وبعض المبدعين يشترون نقادًا أو حسب وصفه (ناقد ملاكي)، وبعض النقاد يتعاملون بوصفهم أصحاب فضل، فيطلبون مقابلًا حسب النوع أو الجنس أو الوضع الاجتماعي، وهناك ظاهرة الناقد الذي لا يريد أن يغضب أحدًا، وهناك من يريد أن يبرز قدراته على حساب مميزات النص وجمالياته، وهناك من المبدعين من قد يرى أنه أكبر من أي تناول نقدي فلا يأبه ولا يهتم بأحد، وهناك من يرى أن حياته لا وجود لها من دون النقاد، فيتحول إلى رجل علاقات عامة، وهو ما يجعل الحياة الثقافية معتلة؛ إذ يُحتفَى بأعمال ضعيفة على حساب أعمال مهمة، وهذا راجع إلى قدرات المبدع على استمالة النقاد أو إحراجهم».
أصدقاء يتحولون إلى خناجر
من ناحيته، يتذكر الناقد والشاعر اليمني علوان الجيلاني قول عبد الله البردوني: «والصداقات كالعداوات تؤذي.. فسواءٌ مَنْ تَصطفي أو تُعادي». يتذكر أيضًا حوارًا موثقًا بالفيديو «أجريته مع الروائي المصري الراحل خيري شلبي ربيع عام 2010م، قلت له يومها: سبعون كتابًا كيف استطعت إنجاز كل هذا؟ أجاب: بالبعد عن الأصدقاء وبخاصة الشلل، إنهم يشغلونك ويبعدونك عن مقصودك، يدخلونك في القيل والقال، وفي مماحكات وصغائر، تستنزفك وقتًا وطاقة وتسرق من فكرك، وتؤذي روحك».
لكن الجيلاني مع ذلك، يؤمن بضرورة الأصدقاء في حياتنا، «فالأصدقاء أجنحة ومتكآت وروافع للإنسان سواءٌ كان مبدعًا أو غير مبدع، ولطالما كان للأصدقاء دور واسع في حياتي، رغم أن العديد منهم كانوا يتحولون إلى حُفَرٍ ووَهَدَاتٍ وخناجرَ تطعن في الظهر. سيظل الأصدقاء غير متساوين، هناك الصديق الذي تجد نفسك فيه، بمعنى أنك تجده قريبًا منك إبداعًا وقراءات ومرجعيات ومزاجًا في الطباع وفي طريقة فهم الحياة والوعي بها، وهناك الصديق اللدود الذي كثيرًا ما تختلف معه، في نواحٍ كثيرة مما ذكرت، لكنك تظل محتاجًا إليه لكونه يشكل مرآة لك، فضِدِّيَّتُه تبقى مفيدةً ونافعةً تكشف لك ما لا تراه في نفسك وإن كان ذلك يحدث بشكل عنيف، وهناك الصديق من خارج الوسط الإبداعي وهذا غالبًا ما يكون بعيدًا منك قريبًا منك في الوقت نفسه، هو في الغالب معجب بك، يتلقاك بمحبة فائضة ويفخر بصداقته لك، وهذا النوع من الأصدقاء يكون في معظم الأحيان صديقًا أكثر قدرة على تقديم العون في الشدائد».
الكاتبة المصرية هالة البدري تقسِّم صداقات المبدع مستويين: «الأول بينه وبين العاديين من الناس، والثاني بينه وبين أقرانه من المبدعين». وتقول: «الصداقة علاقة أساسية من علاقات الحب، علاقة ليست قائمة على التملك، ففكرة أنك تختار صديقك غير فكرة أن لك شقيقًا، فالاختيار هنا قائم على الأمزجة القريبة، وليس على علاقات القربي، هذه القدرة على الاختيار تعطي زخمًا للحياة، وتساعد الإنسان على أن يعيش في أمان، وهذا هو مستوى الصداقة بين المبدع وغيره من الناس العاديين، أما المستوى الثاني وهو الصداقة بين اثنين من المبدعين، فهذه تنعكس على الإبداع لأنه يحدث تبادل للمعلومات والأفكار، وأحيانًا صناعة تيار. مع الأصدقاء يمكن مناقشة الأعمال حتى التي لم تصدر؛ إذ يمكن تبادل الآراء والخبرات، وهذا أعلى مستوى، فعلى المبدعين أن يتابع بعضهم بعضًا».
وتعبِّر البدري عن رفضها أن تتحول صداقة المبدعين إلى شلة، «على مدار حياتي الإبداعية رأيت الكثير من الشلل والصداقات التي تجمعها مصالح، لكنني لم أَنْتَمِ لشلة ما، فأنا ضد الشللية، ومع كل الموجودين على الساحة. ولكني أيضًا مع فكرة أن تتكون جماعة لتشكيل تيار فكري مؤثر، وأحيانًا تكون هناك كتابات تشكل مدرسة إبداعية أو فكرية، ويمكن أن تكون هناك معارك ثقافية بين مدرستين أو جماعتين، أما المعارك الوهمية فتخلقها نفوس ضعيفة، ومن لا شيء لديه فإنه كالنار التي تأكل نفسها».
صداقتي مع إيميلي نصر الله
نسرين بلوط- شاعرة وروائية لبنانية
عندما نقرع نواقيس الصداقة الحقيقية، التي تمهّد للإنسانية الحقة، فنحن كمن نشيّد هيكلًا ثابتًا لا يتزعزع في أنواء الصحارى أو شحوب الغيوم أو تراكمات الهموم. فكيف إن كانت تلك الصداقة تتعبد في محراب القلم وتشغل حيّز الحروف؟ نعم لقد كانت صداقتي مع الأديبة الكبيرة إيميلي نصر الله رغم فارق العمر لا تقاس بالسنوات أو المرّات التي يرى فيها بعضنا بعضًا. هناك تسرّبٌ ميتافيزيقي للأرواح يشبه تسلل زخات المطر للأجساد، يُحدِث حالةَ توحُّدٍ ويجلو الارتباك في العلاقات التي تقوم على أسس الثقة والمحبة.
بدأت صداقتنا عندما توجّهت إليها لإجراء حوارٍ لجريدة الجمهورية في بيروت، ثم استمرّت رغم مرضها الذي كان يؤرق راحتها وقلمها. إيميلي نصر الله كانت تلقائية إلى أبعد الحدود، ولتخوم عالمها مجالات واسعة للبحث والتملّي، ولذكرياتها العنصر الأول في حديثها وتقرّب الآخرين منها. لقد أخبرتني عن ذكرياتها في القرية، كيف تَحَدَّتْ ذكورية المجتمع والمصير المحتم المشؤوم لزواج الفتاة وهي صغيرة. كيف قاومت وناضلت حتى أنهت دراستها المدرسية وتركت القرية لتستقرّ في المدينة وتعمل، ثم تتابع دراستها الجامعية بتحدٍّ وجهد حتى التقت زوجَها الذي تلاقت أفكاره مع أفكارها.
ربما أحسست لظلالها المائدة والسائحة في بيادر النور بامتدادٍ لظلالي.. فالمبدع الذي يلتقي مبدعًا يشبهه روحًا وفكرًا يتجرّد من نفسه ويتحرّر من أغلالها ليستحيل طائرًا مغرِّدًا التقى طائرًا ثانيًا فحلَّقَا معًا في سماء الحرية.. والإبداع هو هذه الحرية الميثيولوجية التي لا ترضى بالقليل ولا تقتنع بحدود المساحة. هناك الكثير من الكُتاب المزيّفين المتملّقين الذين يبنون صداقاتهم على أساس المصالح الشخصية الفردية ويوهمون الآخرين بالمحبة والعذوبة والرقة وهم يلقون عصاهم في إبداعٍ زائف كالسحرة الذين حاولوا خداع النبي موسى (عليه السلام)، ويسرقون الحبيب من حبيبه والصديق من صديقه ولكنهم في النهاية، ولو طال الزمن قليلًا، يقعون في شرّ ما يقترفون، أما الصداقة الحقيقية التي تبنى على الإبداع الحقيقي وبخاصة بين كاتبتين، فهي احتشادٌ للأحاسيس الفائضة الرائقة التي تتهافت لإشراقة صبح وخفق نور. وهكذا كانت صداقتي بالروائية الكبيرة إيميلي نصر الله، انحسارًا للأنا وامتدادًا للتجلِّي واستنباط الذات واحترام النفس.
تقارب الأرواح المتنافرة
عبدالرحمن موكلي- شاعر سعودي
الحياة بالناس، والناس هم مجموعة اللقاءات والعلاقات، التي تمتد وتقصر حسب الزمان والمكان، وكل علاقة لها أسبابها مثل: (العلاقات الزوجية، واللقاءات المشتركة، والاهتمام المشترك بقضية ما، والدراسة، والعمل الجماعي، واللعب الجماعي). إذا انقطعت الأسباب وبقيت العلاقة بين اثنين، فقد تحولت العلاقة إلى صداقة أو بمعنى آخر ارتقت العلاقة إلى صداقة، حيث غابت المصالح واستقام الجاذب الإنساني، هذا الجاذب قد يصل لمرحلة الحب والشغف والجنون كما عند الصوفيين والشعراء العذريين، وقد يصل بالتضحية بالروح فداءً للآخر كما في الحروب!!
وللزمان والمكان دورهما في نشوء الصداقة، فإذا كان الزمان يمثل أفقًا، والمكان عمقًا، فإن غياب أحدهما (الزمان/ المكان) يعني غياب الصداقة.
لذلك فإن الانكسارات الكثيرة فيما يسمى «صداقات» العالم الافتراضي سببها قيام هذه «الصداقات» على العامل الزمني من خلال مواقع التواصل وغياب المكان الحاضن كعمق يحفظ هذه الصداقة، وهو ما خلق خوفًا، وقلقًا وجوديًّا في حياة الأفراد وعلاقاتهم، انعكس سلبًا على قلة الصداقات بشكلها الإنساني الأجمل.
إذًا هل ستحولنا مواقع التواصل «الاتصال» إلى مجتمعات قائمة على العلاقات فقط (ربما نعم، وبشكل كبير) وستتلاشى الصداقات القائمة على عاملي الزمان والمكان، لذلك من المهم جدًّا خلق حواضن مكانية للقاءات والعلاقات الإنسانية مثل: (المقاهي، والمسارح، والسينما، والرحلات السياحية، وتجمعات الفرجة) بعيدًا من العلاقات المصلحية ومواقع التواصل.
في الختام السفر الطويل هو ما يصقل وينقي الصداقة من الشوائب، ففي السفر الطويل تحصل المعرفة وتتقارب الأرواح المتنافرة ويفضي بعضها لبعض.
أغنية المنسي الرهيفة
جار النبي الحلو- قاص وروائي مصري
كان حلمي وأنا في الصف السادس الابتدائي، أن أرى الصبي الذي يشبهني – كما قال مسعد ابن عمتي- فهو يحب القراءة والكتابة مثلي، وأخذت أتابع أخباره وأتخيله، حتى فوجئت أنه سيدخل مدرسة الأقباط الإعدادية معي، انتظرته بشغف حتى أشار لي مسعد زميل الدراسة: ها هو.. محمد المنسي قنديل.. وهالني أن أرى صبيًّا نحيلًا رقيقًا إلى حد الرهافة، والتقينا ولم نفترق حتى الآن. أخذني من يدي وعرَّفَني إلى باعة الكتب القديمة في شارع العباسي، وفتحت له مكتبة أخي بكر. في المرحلة الإعدادية قرأنا كل ما وقعت عليه أيدينا، لكنه الأسرع في القراءة والأكثر تحديدًا لذوقه وأفكاره. معًا اقتربنا من حلقات الصبا فقمنا معًا بتكوين فرقة مسرحية وقدمنا ليلة مسرحية على سطح بيتنا – بعد أن ساعدنا أخي الأكبر في تأسيس خشبة المسرح، ومعًا ارتكبنا حادثة الحمار الشهيرة، فقد كانت سيدة فلاحة تأتي لبيتنا على حمار، تأتي بخيرات الريف لأمي، وتربط الحمار أمام البيت، في نزوة مني فككت الحمار من ربطته وركبته ومضيت به إلى بيت محمد المنسي قنديل، ناديت: يا محمد، فهرول إليّ وركب الحمار خلفي ومضينا نغني ونلكز الحمار بأرجلنا، وانطلقنا إلى شارع البحر وهو الشارع الرئيسي في مدينتنا المحلة الكبري، حتى دخلنا شارع العباسي المزدحم، تلكأ الحمار، ثم بدأ يتوقف تمامًا، ثم يمشي ببطء، ثم ينحرف تجاه العربات الكارو، وأخيرًا دخل مقهى ورفض الخروج، حتى تمكن الزبائن من إنقاذنا.
وحين أقمت بحجرتي فوق السطح كان المنسي وفريد أبو سعدة، أول من شاهدا بناء الحجرة، ودخلنا في تلك الحجرة حياة جديدة مختلفة، عالم الفكر والسياسة والفن والتعرف إلى العالم الخارجي، لكن ما جعلنا نرفع هامَاتِنا لأعلى ونمسك بأحلامنا هو فوز المنسي بالجائزة الأولى في نادي القصة عن قصة «أغنية المشرحة الخالية» عام 1970م. ثم انخرطنا في طريق الكتابة الصعب، بل طريق الحياة الصعب، وهو الذي دفعني للكتابة للطفل بعد أن اكتشف خمس قصص للأطفال لم أنشرها فأرسلها هو، لأصبح كاتبًا للأطفال، بل تنازل عن كتابة سيناريو للتليفزيون للأطفال لأكتبه فصرت كاتبًا للسيناريو.
وحين غادرتني شلة المحلة للقاهرة، كانت شقته بالقاهرة هي بيتي، شاركت في الندوات، ودخلنا المسرح والسينما، دائمًا أرمقه بعين فرح، وهو أبدًا لم يتخلَّ عني، لم ينسني، يدور في بلاد الدنيا ويرجع لألقاه، وقد صرنا عجوزين، لكنني معه أظل نفس الصبي والشاب الذي تجلجل ضحكته، ويظل هو الذي يضحك حتى يدمع.
كلما غاب عني أعيش في حالة انتظار غريبة، المنسي على أي حال عاش عمري كاملًا، وفرحي وأحزاني، معًا ودعنا الأباء والأمهات والأخوات لمثواهم الأخير، نتكئ على بعضنا حتى لا نقع، نبتسم ونطبطب على بعض قدر ما نستطيع، إنني في الحادية والسبعين من عمري أخاف ألا يعود، وأرتجف حين أتخيل أنه سيرجع ولا يراني.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب في الوطن العربي
صورة النخب وجدل الأدوار محمد شوقي الزين - باحث جزائري مثل المنطوق الأوربي (elite)، تنطوي مفردة «النخبة» في اللسان...
الإبل في الثقافات: شراكة في الحضارة قفْ بالمطايا، وشمِّرْ من أزمَّتها باللهِ بالوجدِ بالتبريحِ يا حادي
آفاق السنام الواحد عهود منصور حجازي - ناقدة سينمائية منذ فجر التاريخ، كان إدراك الإنسان لتقاسمه الأرض مع كائنات أخرى،...
تجليات الفن في العمارة… رحلة بصرية عبر الزمن
العمارة والفنون البصرية علاقة تكافلية مدهشة علاء حليفي - كاتب ومعماري مغربي منذ فجر الحضارة حتى يومنا الحالي، لطالما...
0 تعليق