كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
أن تنظر إلى الوجود بعينين مغمضتين
«ينصح الواقعيون: افتح عينيك وانظر.
يحذر الخياليون: أغلق عينيك لترى أفضل.
هناك حقيقة في العيون المفتوحة،
وهناك حقيقة في العيون المغلقة،
وغالبًا لن ترى إحداهما الأخرى إذا تقابلتا في الشارع»
تشارلز سيميك
الرجل الذي يحب الله ويكره الشعر
أبي كان يكره الشعر، وأظنه ما زال يكرهه إلى الآن. هو في الواقع يراه ضربًا من ضروب الكذب والخداع والدجل والتزييف. حتى الشعر الشعبي المتداول في قريتنا في تلك الحقبة (شعر العرضة بالدرجة الأولى)… حتى هذا النوع من الشعر الذي يسير حافيًا، بقدمين متشققتين وثياب مهملة، لم يكن يستهويه إلا نادرًا.
يجزم أبي أن لكل شاعر شيطانًا، وأن الشعر في معظم الأحوال عمل شيطاني رجيم، وأن الإنسان يقترب من الله بقدر ما يبتعد من الشعر. ما حاجة أبي إلى الشعر الذي يُزرع على الأوراق، ويُبنى بالكلمات؟ في يده بذور من قمح أو شعير أو ذرة… ينثرها على الأرض، وبمحراثه يقلب التراب عليها، ثم يراقبها بزهو وهي تنمو وتنمو وتنمو… ومع نهاية كل موسم يقلب صفحة من تراب، ويفتح أخرى.
ما حاجته إلى الشعر، وفي يده حجر، كلما أراد أن يضعه في جملة مفيدة، وضعه إلى جوار حجر فوق حجر تحت حجر، حتى ينمو جدارًا…
كان هذا هو النوع الوحيد الذي يحبه من الشعر: شعر يمليه الخالق، فيما هو يتفرغ لكتابته فقط.
حين يخطئ المتنبي
البيت الشعري الوحيد الذي جرى على لسان أبي، هو البيت الذي لم يترك لسانًا عربيًّا واحدًا من دون أن يجري عليه، ويتذوق حلاوته (مرارته بشكل أدق)، أقصد بيت المتنبي الشهير:
«ما كل ما يتمنى المرء يدركه
تجري الرياح بما لم تشتهِ السفنُ»
كان أبي ينظر إلى الحياة «بعيون مفتوحة»، لذلك كان لا بد له أن يصحح للمتنبي، الذي كثيرًا ما رأى الحياة بهمة مبالغ فيها و«عينين مغلقتين»:
«… تجري الرياح بما لا يشتهي السَّفِنُ»
حين أسأله عن معنى (السَّفِن)، كان يقول بثقة الرجل ذي العينين المفتوحتين: قائد السفينة. «كيف تشتهي السفن؟ هل لها فم أو لسان أو بطن؟ هل تأكل أو تشرب؟…»، كان يجيبني ساخرًا، ويسترسل في محاصرتي بالأسئلة، فيما أستكين عاجزًا عن مجابهته. كلامه يحمل منطقًا ما، ولكنه منطق لا أحبه. أحس بذلك ولكني لا أملك القدرة على شرحه، فقط أهز رأسي إلى الأعلى وإلى الأسفل علامة الموافقة. كانت الأبواب منخفضة، وكان علي مع كل خروج أو دخول أن أطأطئ رأسي… كان علي أن أطأطئه كثيرًا في تلك الأيام.
طريقة أخرى للحياة
أغمض عيني وأتساءل: ما قيمة الحياة إن لم تشتهِ السفن؟ إن لم تأكل وتشرب وتجُع وتشبع وتتزاوج وتنجب وتعش وتمت؟ ما قيمة الحياة إذا لم يتمتع كل ما هو كائن في الوجود، من حجر وشجر وأنهار وجبال ونجوم، بحقه في أن يكون حيًّا، وأن نرى ما وراء وجوده الساكن… أن نراه بعينين مغمضتين، لا بعينين مفتوحتين! ما قيمة الحياة إذا بقيت الأشجار على حيادها… أشجارًا خضراء تزين الحدائق، وتتسمر عاجزة في بطون الأودية؟ ما قيمة الحياة إذا لم يكن لها رغبة في التحرر من وقوفها الأبدي، والتنزه ولو قليلًا؟ إن ظلت صامتة ولم تروّح عن نفسها ببعض الحديث (حتى لو كان حفيفًا)، لتبدد ظلمة الليل الموحشة في أعالي الجبال؟
ما قيمة الحياة إن بقي الحجر حجرًا، والجبل جبلًا، والزهرة زهرة، والنجمة نجمة، والقمر قمرًا… أليس عليها أن تتبادل الأدوار؟ أن يجرب كل منها العيش في صيغة أخرى ولو مؤقتًا؟ ما قيمتها في غياب أولئك المخربين الكبار، الذين يحررونها من وجودها الساكن، ويبعثون فيها نوعًا من الحياة… أولئك الذين نسميهم: الشعراء.
الاستعارة الأولى
في حضرة النساء تعرفت إلى الاستعارة الأولى. كنت صغيرًا لا أُرى بالعين المجردة، وكان من السهل أن أتسلل من جلسة نسائية إلى أخرى (كان ذلك يصعب في مجالس الرجال ذوي العيون المفتوحة والألسنة التي تشبه السياط). كن يتبادلن الأحاديث الغامضة والضحكات العالية، وهن يروين ما يحدث لهن مع أزواجهن، حين يتلبسهم الظلام في الحجرات الضيقة. فجأة تنبهتْ إحداهن لوجودي، ليتعالى صوتها: «الدجاج يلتقط الحَب». لم يكن لي حينها منقار لألتقط الحَب الكثير الذي نثرنه في أرجاء الغرفة، لكنّ إحساسًا ما جعلني أشعر بأنني المعنيّ بتلك العبارة، شيء ما جعلني أتحسس أنفي بأصابعي، وأصرخ في وجوههن وأنا هارب: «لست دجاجة… هذا أنف وليس منقارًا». لم أكن أعلم وقتها أن عليَّ أن أتحسس أذني لا أنفي، وكيف لي أن أعرف أن الاستعارات ماكرة ومراوغة إلى هذا الحد؟
كونٌ شعري بامتياز
خلق الله الكثير من الكائنات (الاستعارات)، أكثر بكثير مما يحتمل الشعر والشعراء. ليس فقط لأنه كامل يحب الكمال، ولم يترك فراغًا في هذا الكون، مهما بدا ضئيلًا، دون أن يملأه، بل لأسباب شعرية أيضًا. خلقها لنرفع بصرنا إلى الأعلى، أو نخفضه إلى الأسفل، لنبحث عن نجمة أو طائر أو عشبة أو غصن أو غمامة… عن صورة نسكنها ولو بشكل مؤقت.
أول رحلة طيران في حياتي، لم تكن على متن طائرة، بل كانت على متن طائر… بالرغم من أنه كان أصغر حجمًا مني بكثير، فإنه استطاع أن يتجول بي في السماء بكل يسر وسهولة. رأيت حينها ما لم يره أحد غيري: رأيت النساء خلف أسوار البيوت وهن يطاردن أشباح الظلام بفوانيسهن، الأطفال المختبئين خوفًا من عقاب آبائهم، العشاق الذين يدسُّون رسائل غامضة في أكفّ حبيباتهم، الجدّات يروين الحكايات لأحفادهن، الأجداد وهم يهشون النعاس عن أعينهم كما يهشون الذباب… منذ ذلك الحين تخلت البيوت عن جدرانها وسقوفها، تخلى الناس عن أسرارهم، تخلت الحياة عن كونها صراعًا أزليًّا بين الخير والشر، وأصبحت صراعًا جماليًّا بين الأصل الباهت في الواقع، والصورة الزاهية في الخيال.
أبي لم يكن يرى كل ذلك؛ لأنه كان ينظر بعينين مفتوحتين على الدوام. أنا رأيت كل ذلك؛ لأنني كنت أنظر بعينين مغمضتين في معظم الأحوال. أبي كان يرى ما يشاهده، وأنا كنت أرى ما أتخيله…
أبي كان (ولا يزال) يسكن الحقيقة، فيما أنا كنت (ولا أزال) أسكن لعنة لذيذة اسمها: الشعر!
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق