لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير والاستنارة، فئة موجودة في كل المجتمعات والثقافات، ومتجذرة في تاريخ الشعوب والحضارات منذ القدم، وهي مطلب قائم ودائم ومتجدد، وصناعة ضرورية لكل مجتمع ولكل...
المقالات الأخيرة
عالم أعصاب وجيوستراتيجي سعودي يطرح فكرًا فلسفيًّا يدمج حقولًا معرفية متنوعة
نايف الروضان: الكرامة هي أكثر الاحتياجات البشرية إلحاحًا والأمن العالمي لا يمكن اختزاله في بعد واحد
يخالف المفكر وعالم الأعصاب والجيوستراتيجي نايف الروضان فكرة «نهاية التاريخ»، ويطرح فكرة «التاريخ المستديم» كبديل لها. فالإنسان، كما يرى، لا تُحرِّكه «الحرية»، بقدر ما تُحرِّكه «الكرامة». ومن أفكاره ونظرياته ما يسميه «الواقعية التكافلية»، وهي نظرية سعى إلى تشييدها ضمن إطار العلاقات الدولية، وتدعو لفهم ومراعاة عناصر مهمة تشكل هذا العالم الفوضوي. الروضان يحاول تأكيد أن «العاطفة» تخترق عمليات التفكير العقلاني ومسائل اتخاذ القرار.
نايف الروضان، فيلسوف وعالم أعصاب وجيوستراتيجي سعودي حظي بتقدير عالمي، بفوزه بجوائز عالمية وباختياره ضمن أبرز ثلاثين عالم أعصاب مؤثر في العالم عام 2014م، وضمن مئة محلل إستراتيجي مؤثر لعام 2017م. ولد الروضان في سكاكا بمنطقة الجوف شمال غرب السعودية، وطافت به الأقدار ليتنقّل بين جامعات بريطانيا والولايات المتحدة (بعيادة مايو الطبية بروشستر بمينيسوتا، وكلية الطب بجامعة ييل، وكلية الطب بجامعة هارفارد بمستشفى ماساتشوستس العام)، ليستقر به الحال زميلا بكلية سانت أنتوني بجامعة أُكسفورد منذ عام 2014م، ورئيسًا لبرنامج الجيوسياسة وبرنامج المستقبلات العالمية بمركز جنيف للسياسة الأمنية منذ عام 2006م. كتب 22 كتابًا في مجالات فلسفية وفكرية وعلمية ما بين علم الأعصاب والجيوسياسة، وفلسفة التاريخ والحضارة، ومستقبل العالم الإنساني والأمن الثقافي العالمي، والتنافس السياسي العسكري في الفضاء الخارجي.
«الفيصل» حاورته حول فكره وآفاق نظرياته ومواقفه تجاه بعض القضايا السياسية والثقافية في الوطن العربي.
● قبل أن نستعرض مشروعك الفكري، نودُّ أن تحدثنا عن السياق الفلسفي الذي خرجتْ منه نظرياتُك وطروحاتك؟
■ في البداية، أود التذكير بأني مهموم بحقل العلاقات الدولية ومسألة الأمن الدولي والإستراتيجيا، ومن ثم منطلقًا في استكشاف الحكم السياسي الرشيد وطريقة عمله وفرص ديمومته. وبصفتي عالم أعصاب، حاولت أن أدمج الرؤى العصبية المستجدة في هذا الحقل مع العلاقات الدولية والخروج بمشروع يرتكز أساسًا على تعريف علمي نيورو-فلسفي جديد ودقيق للطبيعة البشرية. فجميع الظواهر الاجتماعية والسياسية والدينية لقيت طروحات ونظريات مستندة على هذا التعريف لطبيعة الإنسان و«ما هو الإنسان؟». فلو نظرنا للمدارس الفلسفية التي سبقت «الحرب الباردة»، لوجدنا أنها تحاول أن تربط طبيعة الدولة بطبيعة الإنسان، ومن أشهر من اعتنق ذلك الفلسفة الواقعية، أي أن تصرفات الدولة تمثل مرآة للصفات الرئيسة في الإنسان من أنانية ومركزية ذاتية وتنافسية ورغبة في استحواذ القوة (animus dominandi) بتوصيف الفيلسوف السياسي الألماني هانز مورغنثاو.
وقد انقسم الفلاسفةُ إزاء طبيعة الإنسان فسطاطيْنِ. الفسطاط الأول تشاؤمي ومن نماذجه الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز الذي يرى في كتابه «اللڤايثان» أن الإنسان كائن أناني يسعى للحد من آلامه بالإقبال على مصالحه، ويشاركه الفيلسوف الإيطالي نيكولا ميكيافيلي في الموقف ذاته؛ إذ انتقد في كتابه «الأمير» المؤمنين بفضائل الإنسان وصفاته الإيثارية، فدعا على إثر ذلك إلى الحذر من الإنسان بدلًا من الاطمئنان إليه؛ إذ إن طبيعته قد ورثت خصالًا دنيئة على رأسها «حب المصالح». أما الفسطاط الثاني فهو فسطاط تفاؤلي ويمثلهم الفيلسوف السويسري- الفرنسي جان جاك روسو؛ إذ يؤكد أن الإنسان هو في حالته الطبيعية كائن فضيل وسخي، وعاقل ومتسامح، ويوافقه في ذلك الفيلسوف الإنجليزي جون لوك بتوصيفه الإنسانَ ككائن اجتماعي يميز الصواب من الخطأ ويحترم حقوق الآخرين، ويميل لخيارات السلم أكثر من الحرب. جميع هذه المواقف الفلسفية في نظري مُبدعة، على أنه يعتريها فقدان النظرة العلمية الشمولية، كما أنها تستند على تكهنات وتحرّزات جعلت الإنسان كائنًا غرائزيًّا، إما أخلاقيًّا أو غير أخلاقي. فعوضًا عن النظرية الواقعية التي أساءت فهم الطبيعة البشرية، اقترحتُ «الواقعية التكافلية» (Symbiotic Realism) كبديل لها، وهي نظرية سعيتُ إلى تشييدها ضمن إطار العلاقات الدولية وتدعو لفهم ومراعاة أربعة عناصر مهمة تشكل هذا العالم الفوضوي وهي:
(1) الركائز العصبية الحيوية للطبيعة البشرية.
(2) الفوضى العالمية.
(3) الاتصال التقني الفوري.
(4) الترابط المعلوماتي. ويجب التنبيه إلى أني لا أمانع أن تأخذ الدولة صفة الإنسان وتعكس خصائصه، ولكن شريطة إيجاد تعريف علمي متجدد ودقيق للطبيعة البشرية.
● ما تعريفك للطبيعة البشرية؟
■ استنادًا إلى دراساتي لعلم الأعصاب وأبحاثي في دماغ الإنسان وكيميائيته، أعتقدُ أنه بات من الممكن اليوم -أكثر مما سبق – فهم الإنسان جيدًا ومعرفة عواطفه ودوافعه وتفسير نواياه ومحفّزاته. على ذلك، حاولتُ المزج بين علم الأعصاب ونيورو- كيميائيات الدماغ مع الفلسفة التحليلية لطبيعة البشر وسلوك الأفراد والجماعات والدول. ومن هذا النسيج، قدّمت نظريتي التي أسميتها «الأنانية العاطفية الفاقدة للحس الأخلاقي» (emotional amoral egoism) كمحاولة لتفسير طبيعة الإنسان والأسس الأخلاقية فيه، وعلى ضوئها يمكن فهم الحكم السياسي المناسب لطبيعة الإنسان. هذه النظرية تقوم على ثلاثة مبادئ تشكل الطبيعة البشرية وهي: العاطفية، و فقدان الحس الأخلاقي، والأنانية. المبدأ الأول يحاول أن ينفي الأساطير الرائجة في الفكر الفلسفي بأن الإنسان كائن عقلاني، وهو الأمر الذي جعل العاطفية في نظر الفلاسفة مصدرًا للضعف والخلل في اتخاذ القرارات، وسادت على إثر ذلك نظرة سوداوية عن العاطفة منذ أفلاطون الذي كان يرى السيطرة العقلية أمرًا مثاليًّا، وصولًا للفيلسوف الألماني إيمانويل كانط الذي تعلق واحتفى طويلًا بامتيازات العقل الإنساني.
إنني أحاول أن أؤكد أن «العاطفة» تخترق عمليات التفكير العقلاني ومسائل اتخاذ القرار، فالإنسان عاطفي أكثر من كونه عقلانيًّا، والعاطفة فيه هي الأصل لا الاستثناء، وقد لوحظ أن المصابين في أجزاء الدماغ المسؤولة عن العاطفة أصبحوا يواجهون صعوبات في اتخاذ القرارات الصائبة رغم سلامة الأجزاء الدماغية الخاصة بالتعقّل. أما المبدأ الثاني فيقوم على فقدان الحس الأخلاقي للإنسان، وهي ركيزة في الطبيعة الإنسانية؛ إذ إن الاعتقاد السائد هو أن الإنسان لا يرث الخصال، لا الإيجابية ولا السلبية، إنما يُولَد فاقدًا كليًّا للحس الأخلاقي؛ لذلك أُعارِض الفيلسوف الإنجليزي جون لوك الذي يرى أن الإنسان صفحة بيضاء كاملة تُكتب وتُملى أخلاقيًّا مع الظروف، فهي فرضية تكاد تغلق الجدل عن وجود أفكار غرائزية في الإنسان، وأقترح فرضيةً أليق وألبق وهي «الصفحة البيضاء الناجزة» (pre-disposed tabula rasa) التي تؤكد أن ثمة أخلاقيات مفطورة داخل الإنسان تدفعه لطلب البقاء وتغريه لممارسة الهيمنة، وهذه الصفحة لها دلالة معيارية، فغالبية البشر يتخذون الإجراءات التي تضمن فرص بقائهم كأولوية قصوى. ورغم وجود حالات من الإيثار والعطاء، تظل هذه الأخلاقيات نادرة وشديدة الخصوص؛ لكونها تنشأ فقط ضمن إطار تربوي أخلاقي رفيع. يبرز من هذه الأخلاقيات الدافعة للبقاء والهيمنة المبدأ الثالث: مبدأ «الأنانية». وهذه الأنانية تَحْفِز السلوك الإنساني عصبيًّا لنيل خمسة امتيازات معينة أختصرها في مصطلح «الباءات الخمس العصبية» (Neuro 5P) وهي: السلطة (power)، والعزة (pride)، والمتعة (pleasure)، والديمومة (permanency)، والفائدة (profit).
● هل تعتقد أن هذا الصراع البشري هو نتيجة لهذه الطبيعة الأنانية العاطفية الفاقدة للحس الأخلاقي بدءًا؟
■ نعم، فمن يراقب التاريخ يرى أنه يجري في هذا المسار الصراعي الذي تحدده الرغبة في البقاء، على أني أرى أن ثمة قيمًا أخلاقيةً معينةً هي التي تحرك التاريخ وقد طرحتها في نظريتي لفلسفة التاريخ التي أسميتُها «التاريخ المستديم وكرامة الإنسان» (Sustainable History and the Dignity of Man).
فلو قرأتَ مثلًا للفيلسوف الألماني هيغل وتتبعت تصوراته عن التاريخ تجده يرى أن «تاريخ العالم ليس إلا تقدم الوعي بالحرية»، فقيمة «الحرية» (liberty) هي التي تحرك التاريخ. وبناء على هذه النظرة الهيغلية، جاء الفيلسوف الأميركي فرانسيس فوكوياما ليعلن «نهاية التاريخ» -بزعمه- إذ إن الإنسان قد بلغ قمة الحرية وانتفت حاجته للصراع مع وصوله لأعلى مستويات الحرية التي تقدمها الديمقراطية الليبرالية الغربية. إنني أخالف فكرة «نهاية التاريخ» هذه، وأطرح فكرة «التاريخ المستديم» كبديل لها. فالإنسان بظني لا تحركه «الحرية»، بقدر ما تحركه «الكرامة» (dignity) فهو في سعي مستمر ومستديم نحوها. والحرية ليست إلا جزءًا يسيرًا من منظومة الكرامة، ولا يمكن أن تكفّ يد الإنسان عن الصراع.
لقد طرح فوكوياما نهاية التاريخ في أواخر الثمانينيات استنادًا لرؤية هيغل، أي في الوقت الذي كانت الديمقراطية الليبرالية تُحرز تقدمًا وانتصارًا في صراعها مع الأيديولوجيات الاشتراكية والماركسية، لكن سرعان ما كشفت العقود اللاحقة أن هذه الصراعات الأيديولوجية بعيدة كل البعد من خط النهاية، فتطلعات الشعوب في العالم ليست مرتكزة على الحرية السياسية فحسب، بل إن الكرامة الإنسانية المفقودة تُبِرزُ نفسها كأهم القيم العليا في الثقافات والأديان.
إن فلسفة «التاريخ المستديم» فلسفة تاريخية ومسار تقدمي دائم تقوم فيه جودة الحياة وديمومتها في هذا الكوكب وبقية الكواكب (متى وُجِدَ الإنسان فيها) على ضمان «الكرامة» لكل البشر في كل الأزمان وتحت كل الظروف.
القيمة المركزية في هوية الإنسان
● هل أستطيع القول بأن عروبيتك وهويتك الإسلامية هي التي دفعتك ناحية اشتقاق فلسفة تاريخية تدعو للاستدامة والكرامة التي كفلها الله لبني البشر؟
■ نعم، إلى حدٍّ ما. فإذا أردتَ أن ترد منابع هذه الفلسفة إلى الهوية العربية الإسلامية فقد تجد لها أُسسًا نصّية في شمائل العرب وأخلاق الإسلام، فدعوة الله «قل سيروا في الأرض» دعوة للسيرورة والديمومة وهي تمثل جناح التاريخ المستديم، وفي إعلانه «ولقد كرمنا بني آدم» تأكيد على قيمة الكرامة عند الإنسان. وإن أردتَ أن تردها للهوية العربية الخالصة (في شقِّها غير الدينيِّ)، لوجدت في التراث العربي الكثير من القصص والروايات والأشعار التي ترفض الذل وتدعو للكرامة، كقول المتنبي:
ذلَّ مَن يغبطُ الذليلَ بعيشٍ
رُبَّ عيشٍ أخفُّ منه الحِمامُ
فهو يرى أن الحِمام (الموت) أهون عند العربي الأصيل من العيش بلا كرامة حقيقية مستديمة. إلى آخره من أبيات الشعر العربي التي تؤكد هذا المسار البشري المحتوم. ورغم إمكانية وضع هذه الفلسفة في سياق عربي إسلامي ودمجها في مسارهما، فإنني أؤكد أنني لا أطرح «الكرامة» كخصيصة للعرب والمسلمين فحسب، إنما لجميع البشر. وأعتقد أنها كمفهوم لم يلقَ طَرْحًا فلسفيًّا ولم يجد طَرْقًا نظريًّا بما يكفي، فهي تبلغ حدًّا أبعد من الحرية؛ إذ هي القيمة المركزية في هوية الإنسان واستقامته.
الكرامة في نظري هي أكثر الاحتياجات البشرية إلحاحًا، وهي من يحدد المسار المستقبلي للأمم والحضارات، في حين أن الارتهان للحريات السياسية فقط لن ينقذ البشر من مظاهر التمييز والتهميش التي تنتهي لاضطرابات اجتماعية وسياسية.
لذلك، أعتقد أن نماذج الحكم السياسي التي تُعنَى بالكرامة كقيمة أولى هي أقرب للديمومة والشرعية من النماذج المعنية فقط بالحرية والديمقراطية الليبرالية. فرغم أهمية الأخيرة تاريخيًّا كأسلوب داعم لشرعية وديمومة الحكم السياسي، فإنها في نظري لم تكتمل بعد؛ لغياب الكرامة عن كثيرٍ من أفراد المجتمعات الليبرالية. أي أن الحريات السياسية تندرج تحت مظلة الكرامة والعكس غير صحيح.
فلو نظرنا جيدًا في دعوات الشعوب للتغيير لوجدنا أنها لا تطالب بالحرية السياسية بقدر ما تطالب بالكرامة وإن لم تُسَمِّها باسمها. فرغم كفالة الحريات السياسية في كثير من دساتير الأنظمة الديمقراطية الحديثة وأكثرها نضجًا، ورغم تمتع مواطنيها بالحقوق والواجبات المدنية (وعلى رأسها حرية الانتخاب والاختيار)، فإن بعض مكونات تلك الشعوب لا تزال تعبر عن استيائها من كونها ضحية للتمييز والتهميش والإقصاء العرقي والثقافي والاقتصادي وفقدان أدنى احتياجات الإنسان، وما تشهده فرنسا من احتجاجات هذه الأيام خير مثال. والحال أسوأ بكثير في الأنظمة الدكتاتورية المتعسكرة المتسلطة، فستظل هذه الأنظمة فاقدة لفرص بقائها وديمومتها وعاجزة عن إيقاف تعطش شعوبها للكرامة. والتاريخ خير شاهد، فقد شهد سقوط أنظمة صلبة وراسخة لإساءتها لكرامة شعوبها، كسقوط الأنظمة الشيوعية في تكتلها السوفييتي، وانهيار نظام الفصل العنصري البغيض بجنوب إفريقيا.
من الناحية النظرية، ما تعريفك للكرامة؟
■ مفهوم الكرامة في نظري أوسع من أن يُختزل في معنى «غياب الإهانة»، بل هو منظومة من تسع احتياجات بشرية هي:الفكر المنطقي، والأمن، وحقوق الإنسان، والمسؤولية، والشفافية، والعدالة، والفرص، والابتكار، والاحتواء. وأعتقد أن دمج هذه المكونات التسعة سيحدّ من تجاوزات الطبيعة البشرية، كما أنها لو طُبقت في ميدان السياسات فستكون أكثر ملاءمة لأي نظام سياسي في أي نطاق ثقافي مهما كان اسمه وطبيعته وإرثه السياسي والاجتماعي. وكي نتحول من النظرية إلى التطبيق، طرحت «مقياس الكرامة» (Dignity Scale) كأداة منهجية لقياس مستوى الكرامة في البلدان والحضارات وذلك باستقراء مؤشرات معينة عطفًا على ثلاثة المبادئ المشكلة للطبيعة البشرية (العاطفية، والأنانية، وفقدان الحس الأخلاقي). فيمكن أن أقول بأن كل مبدأ من هذه المبادئ الثلاثة بحاجة لثلاثة من منظومة الكرامة السابق ذكرها. فعاطفية الإنسان بحاجة إلى (الفكر المنطقي والأمن وحقوق الإنسان). أما فقدان الإنسان للحس الأخلاقي فهو أحوج (للمسؤولية والشفافية والعدالة). أما الأنانية فلن تتزن إلا (بالفرص والابتكار والاحتواء ). وهذا كله يتطلب خلق بيئة تمكن البشر من التعبير عن ذواتهم عبر نُظم تعليمية ترسخ التلاحم والتآزر ولا تنفي بذلك التنوع والتباين. وأعتقد أن النظام التعليمي وحده هو ما تُسند إليه هذه المهمة فهو القادر على تأكيد قيمة الحوار وتجاوز الخلاف، وبالتالي الحد من الأنانية البشرية.
● هل ترى أن التعليم يلعب دورًا بارزًا في هدم هذه الصراعات الحضارية والنوازع البشرية؟
■ نعم، فالتعليم قادر على تهذيب الإنسان أخلاقيًّا وإعداده للعب دوره الاجتماعي والسياسي باقتدار ولقد لقي اهتمامات كثير من الفلاسفة المتأخرين، على رأسهم الفيلسوف الأميركي جون ديوي ومواطنته نيل نودينغس والفيلسوف البرازيلي باولو فريري وغيرهم كثير. ففي سياق العلاقات الدولية، أشرتُ إلى تمكين التعليم للعب دور مركزيّ في دفع الأمن العالمي والكرامة الاجتماعية شريطة أن يركز على بناء الجسور ويعترف بالمشترك الثقافي بين الحضارات. فمسألة تطوير التعليم لها تداعياتها المباشرة على الأمن، لذلك يجب الحذر من تركه بأيدي لاعبين يوظفونه لأغراض سياسية دعائية، فينشأ مجتمع متحيز عدائي للآخرين. وقد اقترحت سابقًا ثمانية متطلبات مهمة لتحسين التعليم تمكنه من لعب دوره في ترسيخ الأمن العالمي، أسميتها «مثمّن التعليم العالمي» (Global Education Octagon)، وهي: التمكين والتنمية (على المستوى الشخصي والمجتمعي أو الدولي)، والمعرفة العالمية للتاريخ والثقافات الأخرى، والاحترام المتبادل والتفاهم الثقافي، واحترام العوامل المشتركة للمواطنة العالمية من خلال وسائط الإعلام والفنون والبيانات السياسية المسؤولة (مع الاحتفاظ بالخصوصيات الثقافية والوطنية والعقائدية المهمة)، والقيم العالمية والمساواة، وعدم إساءة استخدام المعرفة لإقصاء وتهميش الآخر،والإصرار على المعرفة المستندة إلى حقائق علمية دقيقة.
● ماذا تقصد بالأمن العالمي بشكل عام؟
■ الأمن العالمي هو منظومة شاملة لا تقبل برأيي الاختزال في بُعْدٍ واحدٍ (أي بعد الأمن الوطني للدول فقط)؛ إذ إنه يتشكل من خمسة أبعاد رئيسة وهي: الأمن القومي، والأمن العابر للدول، والأمن البيئي، والأمن البشري، والأمن العابر للثقافات.
وأضع هذه التقسيمات لكون التحديات الأمنية في القرن الحادي والعشرين متعددة الأبعاد، فالأمن القومي يمثل السيادة الوطنية وهي أساسية لبقاء نظام العالم. أما الأمن العابر للدول فيتطلب تخفيف التهديدات وهزيمة الإرهاب والجريمة المنظمة من اتِّجَارٍ بالبشر وهجرات غير نظامية. أما ما يمس التغيرات والتدهورات البيئية التي تؤثر في رفاهِ الفرد وتهدد التنوع البيولوجي وتزيد من ندرة المياه وتغيرات المناخ واستنزافات الأوزون، فلا يمكن التعاطي معها إلا عن طريق الأمن البيئي. أما الأمن البشري فيسعى لجعل مرجعية الأمن للأفراد بالتعاون مع مؤسسات الدول المحلية، ويشمل ما يسمى بلغة الأمم المتحدة «التحرر من الخوف والفاقة». والبعد الخامس للأمن العالمي هو الأمن العابر للثقافات والحضارات، ويهتم بالتعايش التعاوني والتكافلي في إنشاء بيئة أمنية عالمية تحترم كل الثقافات العالمية وإرثها التاريخي.
هذا هو الأمن العالمي بالتحديد، هو أشكال وصيغ وليس شكلًا وصيغة واحدة. وقد اقترحت في سبيل تحقيق ذلك، مبدأ يتناسب مع واقع العالم المتعاون أسميته «مبدأ الأمن متعدد المصادر» (multi-sum security principle) وأقصد بذلك أنه لا يمكن اعتبار الأمن لعبة صفرية تشمل الدول وحدها (غالب ومغلوب)، إنما هو متعدد المصادر ولا يمكن تحقيقه إلا من خلال مبدأ العدالة الشاملة. فلا يمكن لأي دولة أن تنعم بالأمن المستديم ما لم تلتزم بمبدأ العدالة الدولية والاحترام المتبادل وحفظ الحقوق المشروعة وعدم التدخل في شؤون الغير وعدم زعزعة أمن واستقرار الآخر، ومحاربة التطرف في أشكاله كافة، والوقوف ضد الجريمة المنظمة، والنأي عن تسييس الإعلام المفبرك الزائف كأداة لأهداف سياسية ضيقة ومارقة.
ظاهرة السلطة الخامسة
● كنتَ قد أطلقت في أكثر من كتاب ومقال مصطلح «السلطة الخامسة»، فماذا تقصد بهذا المصطلح، وما أهميته في السِّلْم والأمن العالمييْنِ؟
■ السلطات المتعارف عليها تاريخيًّا ثلاث: السلطة التنفيذية، والتشريعية، والقضائية. وقد أضاف المفكر السياسي الأيرلندي إدموند بيرك إلى هذه الثلاثية «السلطة الرابعة» أي سلطة الإعلام. وبحكم اهتمامي بتقنية المعلومات وأخلاقيات الإنترنت المتغيرة بتغير توزيعات القوة في المجتمعات، لاحظت نشوء ظاهرة سلطوية أسميتها بـ«السلطة الخامسة» (the Fifth Estate) إشارة لمدى تأثير المدوّنات والإعلام الفردي والمؤسساتي النابع من وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة. هذه السلطة لها إيجابياتها إذ تمثل نقطة التقاء افتراضية للحوار البنّاء ونشر المعرفة، ومنصة لتمكين التعبير عن الرأي بلا افتراء أو إقصاء، كما أنها تساهم بشكل أساسي في دحض المعلومات الكاذبة وفضح الجانب المظلم من الإنترنت وتخليصه من التحيزات والأكاذيب. ورغم هذه المنافع، فإنه ثبت سوء استعمالها للتعديات الفردية وزعزعة المجتمعات والدول لأغراض سياسية وأجندات بغيضة، وذلك من خلال فتح مزيد من المنصات الجدلية التي تسمح ببث الحسابات ذات الأسماء الوهمية التي تخرج عن رقابة القانون.
ولذلك، حذرتُ قبل عقد من الزمان من تداعيات هذه السلطة على الواقع السياسي والاجتماعي والأمني للدول؛ إذ أصبحت وسيلة لنشر الكراهية والعنصرية والرذيلة والأنشطة غير القانونية، وفبركة الحقائق والمعلومات وخلق الفوضى السياسية. هذه المواقع أصبحت تولِّد أخطارًا أمنيةً جديدة، وقد حللت وكتبت سابقًا عن جوانب ما يسمى سياسات ما بعد الحقيقة (post-truth politics) والتبعات الأمنية للأخبار الكاذبة (Securitization of Fake News) وهي ظواهر معقدة ومتعددة وتمثل تهديدًا أمنيًّا صارخًا للنظام العالمي العادل، كما تهدد عنصرًا أساسيًّا من عناصر الدبلوماسية هو عنصر «الاتصال المبني على الثقة والمصداقية» وذلك من خلال استبدال مزيد من الصراع والاختلاف به.
لهذه الأسباب، دعوتُ إلى وضع أسس أخلاقية وتشريعية وقضائية لمحاسبة الافتراءات الناجمة عن سوء الاستخدام، مع الحفاظ على حرية التعبير المسؤولة التي لا تروج للفوضى والانقسام والتخريب واقترحتُ أربع طرائقَ للحد من أخطار الأخبار الزائفة، هي: تطوير أدوات تقنية متقدمة من حيث فحص الحقائق، وتشجيع الحوار المباشر مع المجتمع العلمي، وتفعيل إجراءات الحكومة الصلبة (بما لا ينتهك الحريات المدنية)، ومعاملة الأخبار الزائفة كتحدٍّ أمنيٍّ ناشئٍ، يتطلب جهودًا جماعيةً مشتركةً.
● كتبتَ كثيرًا عن أمن الفضاء الخارجي وعلاقته بالأمن العالمي هنا على الأرض، هل من توضيح؟
نعم كتبتُ كتابًا موسَّعًا عن هذا الموضوع، فأمن الفضاء الخارجي في رأيي يمثل جزءًا لا يتجزأ من الأمن العالمي الدائر على كوكب الأرض. فنجد دولًا مؤثرة ولاعبة في الأرض والفضاء على السواء، تستغل سلطاتها وتقنياتها المتقدمة من أقمار صناعية وتلسكوبات وأجهزة تقنية عالية الدقة والسرية في التحليل والتجسس والتأثير في معطيات الأمن الأرضي بين الدول.
ثمة اليوم ارتباط ملحوظ بين الأمنين على المستوى الداخلي والخارجي لا يمكن إنكاره، ولذلك بات من المهم التأكيد على فكرة أن هذا الفضاء الخارجي هو ملك للبشرية جمعاء، وأي أفعال غير مسؤولة تتم فيه ستنعكس آثارها وأضرارها سلبًا على مستوى الأفراد قبل الدول. فالفضاء إما أن يكون آمنًا للجميع، أو ليس لأحد. فتدهور أمنه لن يكون حصرًا على تلك المساحة الكونية الكبرى، بل ستفقد الأرض أمنها بشكل مباشر، وستشعر جميع الدول بالخطر مهما كانت قدراتها التقنية والعسكرية.
لقد حذّرتُ في غير موضع من التراكم الحالي للأقمار الصناعية القديمة في المدارات، وهو ما يعوق ملاحة الفضاء ويزيد من فرص تصادم الأجسام التقنية بعضها ببعض، ودعوت إلى إيقاف السياسات الأحادية الهادفة إلى مضاعفة قوة دولة واحدة وتدمير الأخريات فضائيًّا، فقد تنتهي هذه السياسات الأنانية إلى «عسكرة الفضاء»، وهي عملية تتطلب تدخل الدول والمؤسسات الدولية بما في ذلك الأمم المتحدة للحيلولة دون حدوثها بأي وسيلة. وقد يكون ذلك باستبدال سن قوانين دبلوماسية وإجراءات أمنية بهذه العسكرة، لتحقيق مكاسب طويلة الأمد للدول المتشاركة فيه، وأن تضمن للبشرية عمومًا مستقبلًا فضائيًّا سلميًّا يدعم الجهود الرامية لتحسين وتطوير سبل الحياة على الأرض والكواكب الأخرى بافتراض جاهزية العيش فيها.
● أظهرتَ اهتمامًا بقضية صراع الحضارات وتنافسها، وآثار ذلك في المستقبل الأمني والحضاري للإنسانية، ماذا عنيتَ بذلك؟
■ نعم، ينطلق اهتمامي بهذا الموضوع من يقيني بأن الحضارة الإنسانية واحدة لا تقبل التقسيم والتجزؤ، فهي منظومة أو نسيج متماسك من ثقافات مختلفة نشأت ولا تزال تنشأ عبر التاريخ. كل ثقافة تبني على سابقتها وما أنجبته من عطاءات علمية واجتماعية وثقافية أسهمت في صدارتها. لذلك، طرحتُ سابقًا ما أسميته بـ«أنموذج المحيط للحضارات الإنسانية» (The Ocean Model of Human Civilizations)، قاصدًا به وضع الحضارات الإنسانية كبُنية تراكمية، أشبه ما تكون بالمحيط المائي الكبير، بحيث تتدفق الأنهار الفرعية إليه فتتسع بذلك حدوده وأعماقه.
ومما أثار حفيظتي للاهتمام بمسألة الحضارات ملاحظتي لتجاهل الغرب للدور المحوري للحضارة العربية الإسلامية في الحضارة الإنسانية جمعاء وخصوصًا أدوارها المركزية في النهضة الأوربية التنويرية التي نشأت على أصول مستمدة من إرث الحضارة العربية، وخصوصًا من مراكزها التعليمية التي شهدت نهضة معرفية في بغداد والقاهرة ودمشق والقيروان وفاس وقرطبة وإشبيلية وطليطلة وغرناطة وصقلية. ففي معظم الأحيان، تجد الغرب يهمش هذا الدور بترويج معتقده السائد بأن الحضارة الأوربية قد انبثقت أساسًا من الثقافات الإغريقية والرومانية، رغم الأدلة والأدبيات الموثوقة التي تنفي ذلك.
وأعتقد أن دوافع هذا التهميش هي دوافع تنافسية أيديولوجية وعقائدية واقتصادية وجيو- ثقافية بدأت منذ العصور الوسطى واستمرت حتى عصرنا الحالي، وهو ما أغرى بعض مفكري العرب والمسلمين -وللأسف- لتبني هذه الأطروحة المغالطة، لأسباب ذات صلة بالجهل بالحقائق أو الدعوة للتغريب أو ربما دوافع نفسية تتعلق بانعدام الثقة وجلد الذات وتمجيد الآخر. لذلك، أسعى دائمًا لانتقاد الأسس الفكرية للمركزية الغربية (Eurocentrism) فجميع مكتسبات الغرب الراهنة نشأت كظاهرة ليست عضوية ولا ذاتية الحركة، إنما كتتويج لعملية الإلهام الحضاري العربي الإسلامي.
إنني أرجو أن يُدشن العالم العربي والإسلامي مرحلة حضارية جديدة لا تقل في عبقريتها عن عبقريات أسلافهم في كل المجالات من علم وطب وفلك ورياضيات وفلسفة وزراعة وصناعة وعمارة وتقنية وابتكار. فالأمل معقود بنجباء هذه الحضارة للنهوض السريع وتبوُّؤ مكان الصدارة من جديد، وذلك بالأخذ بسبل الصدارة الأولى التي أعتقدُ أنها بُنيت على ثلاثة مقومات أساسية لكل نهضة: الفكر والعدل والتعايش. كما لا يعني ذلك أنني أدعو لأن تنفصل الحضارة العربية والإسلامية عن هذه الحضارة البشرية واتخاذ موقع منعزل، بل الدخول بلا إفراط وتفريط في البناء عن طريق التعاون والاحترام وتبادل المصالح والمنافع مع الدول والثقافات.
الكائن المعرفي الذي لاقى دراسات
● على المستوى الثقافي، ما موقفك من المثقف وأدواره ووظائفه والنقودات التي نالها طوال السنين الماضية؟ وكيف تقدم نفسَك كمثقف سعودي؟
■ أعتقد أن المثقف هو الكائن المعرفي الوحيد الذي لاقى دراسات ونقودات شديدة على الأصعدة كافة؛ على المستوى الغربي من فلاسفة ونقاد كبار كميشيل فوكو وجان بول سارتر وريجيس دوبريه وإدوارد سعيد، وعلى المستوى العربي من مفكرين كعلي حرب والجابري وأومليل وبلقزيز وغيرهم كثير. وهذه الطروحات جميعها تشير دومًا إلى أن المثقف لم يلعب دوره باقتدار وأنه لا يزال يناقض نفسه ويدعو لقيم يخالفها، وأنه في أزمة الوقوع في حبائل السلطة بسهولة ويُباع ويشترى. وفي ظني، أن هذه المواقف الناقدة شديدة اللذعة ومنحازة وغير محايدة، وتسعى لتهميش الدور الحضاري الذي قاده المثقف في بناء الدول والمجتمعات وتحسينها لتكون أفضل مما كانت عليه. فكثير مما نراه اليوم من مستويات حضارية ومكتسبات مدنية هي منتوجات المثقفين الأوائل الذين اهتموا بإصلاح المجتمعات ودعوة الأفراد لتبني قيم التسامح والمساواة والعدالة والحرية والحقوق. لذلك، لا أضع نفسي دومًا في موقف ضدي مع المثقف، بل أشجعه للاستمرار في هذا الخطاب الحضاري الذي يقدمه، حتى تترجم دعوته واقعًا في الأوساط. وإن كان ولا بد من إضافة فأدعوه لأن يتوج هذا الخطاب الثقافي بالحرص على أدوات التمحيص والبحث العلمي والإنتاج والابتكار، وذلك بتقديم صورة متجددة وخلاقة تساعد في بناء مجتمعه ووطنه وأمته وحضارته وعالمه الإنساني الكبير. إنني أدعو المثقف العربي ليفكر على المستوى الحضاري الإنساني، وإلى الغاية النبيلة التي تسير نحوها المجتمعات، وهي المسار نحو الكرامة، وذلك بمراعاة الظروف التاريخية والثقافية لكل دولة في العالم العربي، بدلًا من الانفلات السريع لتقديم حلول عجولة وغير ملائمة. فالأهم من كل ذلك هو منع الآثار السلبية غير المقصودة التي قد تؤدي لانسداد تاريخي للعالم العربي وتُسهم في فشل مجتمعاته وتشتتها وتدميرها. كما يجب أن تكون هذه الحلول المقترحة تأخذ بأحدث سبل المعرفة والحوكمة والتقنية المؤسساتية الشفافة، وأن تكون خالية من شوائب الأجندات السياسية الأحادية، المحلية أو العابرة للحدود، وأن تكون ضمن الإطار الثقافي والاجتماعي لكل مجتمع على حدة، لضمان نجاحها ونموها وإن كان بصورة بطيئة متدرجة، بدلًا من السقوط المدوي نحو الانقسام والخراب. فالدول العربية ليست سواسية في ظروفها وخبراتها ونجاحاتها وإخفاقاتها وهمومها الحالية والتاريخية كما أنها غير متشابهة في تركيب مجتمعاتها. مع ذلك، يظل أصلها ومصيرها مشتركًا، وبات من الواجب ضمان الأمن القومي العربي كله بإرثه وهويته وطموحاته. فالأولوية القصوى تكمن في التركيز الجاد والعاجل على المصاير المشتركة للعالم العربي بالأخذ بسبل المعرفة والعدل والتعايش ومعرفة العالم كما هو، وليس كما يجب أن يكون. فنمضي معتدّين بأمجادنا التاريخية معتزين بأخلاقنا وقيمنا العربية، لمصلحة أوطاننا ومصلحة الإنسانية جمعاء، مع الحذر الشديد من الإقلال من شأن الآخر، والتباكي العاجز على الأطلال، أو إفشاء حالات الإحباط بين الأفراد، أو توزيع التهم والملائم، وتشجيع العدوانية والتناحر، والتعذر بنظريات الدسائس والتآمر، فهذا ما تعيشه جميع الدول والثقافات ولسنا حالة خاصة في هذا المضمار.
فالعالم كان ولا زال وسيظل محكومًا بثنائية الغالب والمغلوب، فالقوي المهيمن علميًّا وثقافيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا وعسكريًّا، هو من سيفرض سيطرته ويضع الأنظمة والأجندة ويطبقها بانتقائية متى شاء وكيفما شاء. المطلوب من المثقف العربي نظرة معرفية عقلانية براغماتية، عادلة حاسمة، واثقة متيقنة بالنهضة الحضارية التكافلية للعالم العربي، مع إدراك واضح بأن العالم كان ولا يزال متناحرًا ومتنافسًا وتحكمه مصالح الأوطان المتغيرة في كل الظروف.
وكمثقف سعودي، كنت ولا أزال مهتمًّا بهموم وطني الذي نشأتُ وتعلمتُ فيه إلى حد البلوغ وأفخر به وأفاخر، ومتفائل دومًا بقدرته وقيادته الحكيمة العادلة للنهوض بهذا الوطن – بل الوطن العربي أجمع – لذروة المجد سِلمًا وعَدلًا وإبداعًا وتطورًا واحترامًا وتعاونًا مع كل من يشاركنا هذه القيم التكافلية. فنحنُ في هذا الإقليم الكبير لسنا غرباء على الإبداع الحضاري، فقد كنا في صدارة الأمم لما يقرب من ألف عام بالفكر والعدل والتعايش، وقد حان الأوان للعودة لموقعنا الأول الذي نستحقه، بالتساند والتعاون مع محبي الخير المنصفين في كل مكان.
● هل تعتقد أن طرحك الفلسفي والإستراتيجي قد وصل للشعوب والدول والحكومات والمؤسسات العالمية؟
■ نعم، لقد وصلت أفكاري لكثير من المفكرين ومراكز العلاقات الدولية، وباتت تتمظهر في الأبحاث المنشورة جيوستراتيجيًّا وفلسفيًّا، كما كانت بداية لوصل علوم الفلسفة والسياسة مع مكونات النفس البشرية من محفزات طبيعية بيولوجية ونيورو- كيميائية. رغم ذلك، يظل مثل هذا الفكر الفلسفي الدامج لحقول معرفية متنوعة بحاجة لبعض الوقت ليظهر تأثيره في السياسة، وقد يواجه تحديات متوقعة بسبب التوجهات الرافضة لقيم العدالة والكرامة والتعايش التكافلي وترى أن في ذلك ما يعوق مشاريعها الطامحة للهيمنة والتقسيم. أما على المستوى العربي، فيبدو لي للأسف أن ما أقدمه لم يصل بأصوله وتفاصيله إلى القارئ العربي بالشكل الكافي، ربما بسبب عائق اللغة حيث أنشر جميع طروحاتي باللغة الإنجليزية رغبةً في أن تظهر في سياق عالمي تخاطب البشر على اختلاف مرجعياتهم وثقافاتهم. ولكني أستبشر خيرًا بوصول بعض الأفكار مترجمة للمهتمين العرب، وأرجو أن يكون فيها النفع والفائدة.
● هل تعتقد أن هذه الأفكار الفلسفية التي تطرحها قابلة للصمود مستقبلًا في وجه التطور المعرفي الهائل والترابط المفرط للسرعة بين الشعوب والدول؟
■ أعتقد أنه لا ضمانة لفكرة دون أخرى. مع ذلك، يمكن قياس فرص بقاء الأفكار التنظيرية من فنائها، بالنظر في مسببات قيام وسقوط أيديولوجيات ونظم سياسية عبر التاريخ. وقد قدمتُ سابقًا أطروحة «الاصطفاء الطبيعي للأفكار» (The Natural Selection of Ideas) وبيّنت أن هذه الأفكار تتطلب أربعة شروط تمكنها من البقاء والعيش ثم الازدهار. الشرط الأول أن تراعي طبيعة الإنسان «الأنانية العاطفية الفاقدة للحس الأخلاقي»، فأي فكرة تتنافى مع منطلقات هذه الطبيعة غير قادرة على الصمود. وثانيًا، أن تكون الفكرة قادرة على التكيف، بل التوالد والتعدد والخروج في صيغ جديدة مع كل حقبة، بنفس تكيف الفصائل العضوية في الطبيعة إلى أن تنتج فصيلة «قوية هجينة»، وعلى ذلك أؤكد أنه لا يوجد ثقافة ازدهرت في التاريخ وهي في عزلة عن الثقافات الأخرى. أما الشرط الثالث ألا تتعارض الفكرة مع الكرامة الإنسانية بل تسعى لضمانها، فأي فكرة تسيء للكرامة، مهما بقيت فإن زوالها مقدَّر ومحتوم في ظرف زماني ما. فلو أخذنا العبودية كمثال، لرأينا أنها عاشت قرونًا طويلة جدًّا بالمقارنة مع عصر إبطال العبودية الذي لم يُعلن رسميًّا إلا في عقود أخيرة رغم وجود بقايا شاذة حاليًّا هي مرفوضة عالميًّا. هذه العبودية رغم عيشها لقرون طويلة لم تصمد بسبب الجدل حول كرامة الإنسان، فصارت اليوم فكرة ميتة لا تحتمل البعث مجددًا والجدل حولها. أما الشرط الرابع والأخير فأعزوه لتوافق الفكرة مع ما أسميه «الجسمانية العصبية العقلانية» (neuro-rational physicalism)، أي أن تكون الفكرة مزيجًا من المعرفة العقلية والخبرة المحسوسة فتتماشى مع حساسيات ومعقولات الثقافات الأخرى. فالفكرة العقلانية والإنسانية هي الأصلح والأقدر على البقاء مهما اشتدت الظروف والأحوال، وقد قال الله تعالى: «وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض».
بناءً على ذلك، أسعى جاهدًا في جميع أطروحاتي إلى أن أقدم أفكارًا تتوافق مع هذه الشروط الأربعة، رغبةً في أن تعيش طويلًا. وأعتقد أن هذه الأفكار الفلسفية والجيوستراتيجية والحضارية ستعيش طويلًا بإذن الله؛ لكونها تحمل خصائص عقلانية وبراغماتية، كما تتناغم علميًّا مع تكوين ونزوات النفس الإنسانية الأساسية وتكوين العصبي النيورو- كيميائي والسيكولوجي في كل زمانٍ ومكان، وأرجو الله لها أن تتبوأ مستقبلًا وموقعًا متصدرًا في أروقة الفكر الإنساني والحضاري.
المنشورات ذات الصلة
جون ميشيل مولبوا: أكتب كثيرًا بالأذن بإنصاتي في الوقت نفسه لما تفكر فيه وتغنيه الكلمات
وُلد جان ميشيل مولبوا في مونبليار سنة 1952م، وبدأ النشر منذ سبعينيات القرن الماضي. وهو ناقد أدبي في مجلة la Quinzaine...
إيمري كيرتيس: بدأتُ العيش حقًّا منذ اليوم الذي عرفتُ فيه ما الذي أريدُ كتابَته
إيمري كيرتيس هو أول كاتب مجري يفوز بجائزة نوبل في الأدب عام 2002م، «لكتاباته التي تمجد تجربة الفرد الهشة إزاء الحكم...
جوليا كريستيفا: تودروف حذرني من رولان بارت لأنه لم يكن ماركسيًّا بما يكفي
أبصرت جوليا كريستيفا النور ببلغاريا في عام 1941م، وهاجرت في ريعان شبابها إلى باريس، وانفتحت على التيارات الفلسفية...
0 تعليق