المقالات الأخيرة

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند راسل الأخير «النظرة العلمية». نقتبس منها ما يلي: «يبدو الآن أنه بدأ يخشى من «المنظمة العلمية للإنسانية» (نوع من الدولة البلشفية بقيادة جي جي [طومسون]...

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

يلاحظ المهتم بالأدب الروسي أن معظم الكتّاب الروس الكبار خاضوا في ميدان الكتابة للأطفال، بدءًا من شيخ كتّاب روسيا ليف تولستوي، الذي أغنى مكتبة الأطفال وقدم كتبًا لمختلف الأعمار، هي عبارة عن حكايات شعبية وقصص علمت الحب، واللطف، والشجاعة والعدالة. نذكر منها «الدببة...

الأدب والفلسفة

الأدب والفلسفة

هناك طريقتان للتعامل مع مشكل علاقة الفلسفة بالأدب: الطريقة الأولى، طبيعية تمامًا، وتتمثل في البحث عن الدروس الأخلاقية التي يقدمها الأدب من خلال الشعر والرواية مثلًا، وذلك ما قام به أندريه ستانغوينيك في كتابه «La Morale des Lettres» (أخلاق الحروف)، وأيضًا مارثا...

برايتون

برايتون

... يصل القطار إلى «برايتون»، يعلن ذلك قائد القطار، يشاهد اللوحات الجانبية على رصيف المحطة تحمل اسم «برايتون»، خدر لذيذ يعبر رأسه، تخلبه أشتات يوم قديم، يمسك بمعصم ابنه ويسيران إلى خارج المحطة، ينحدر بهما طريق يمتد من محطة القطار ويصب في شاطئ البحر، يقف أمام البحر...

الإنسان بلا محتوى

مأزق الفنان الذي يقف مشدوهًا أمام البياض المرعب للصفحة الفارغة

بواسطة | يناير 1, 2019 | ثقافات

يطرح‭ ‬عنوان‭ ‬كتاب‭ ‬جورجيو‭ ‬أغامبين‭ ‬الأول‭ ‬‮«‬الإنسان‭ ‬بلا‭ ‬محتوى‮»‬‭ ‬أسئلة‭ ‬عدة‭: ‬مَنِ‭ ‬الإنسان؟‭ ‬أين‭ ‬ذهب‭ ‬محتواه؟‭ ‬هل‭ ‬يرغب‭ ‬في‭ ‬استعادته؟‭ ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬العنوان‭ ‬يبدو‭ ‬غامضًا،‭ ‬فإن‭ ‬موضوعه‭ ‬ليس‭ ‬كذلك‭. ‬إذ‭ ‬يحقق‭ ‬‮«‬الإنسان‭ ‬بلا‭ ‬محتوى‮»‬‭ ‬في‭ ‬طبيعة‭ ‬ووظيفة‭ ‬الفن‭ ‬تحقيقًا‭ ‬غير‭ ‬محايد؛‭ ‬لا‭ ‬يتورط‭ ‬الكتاب‭ ‬خلاله‭ ‬في‭ ‬التحقيق‭ ‬الجمالي‭ ‬لأجل‭ ‬التحقيق‭ ‬الجمالي‭ ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يُكتب‭ ‬من‭ ‬منظور‭ ‬متعالٍ‭ ‬عن‭ ‬تاريخ‭ ‬الأفكار،‭ ‬بل‭ ‬يتجاوب‭ ‬مع‭ ‬ما‭ ‬يراه‭ ‬أغامبين‭ ‬الحالة‭ ‬المرعبة‭ ‬للفنون‭ ‬المعاصرة‭. ‬

يرى أغامبين أن طبيعة الفن وعمله في ثقافتنا المعاصرة قد تشوشتْ. أصبح الفن بكلمات أغامبين «كوكبًا لا نرى منه إلا جانبه المظلم». ومع خفوت نور الدور اللامع الذي لعبه الفن في العصور المبكرة، يرى أغامبين أن هدفه فَهْم كيف ولماذا غَرُب عنا وجه الفن المشرق، وما الذي يتوجب علينا فعله كي نستعيد إشراقاته على عالمنا المعاصر. «ربما لا شيء أكثر إلحاحًا -إذا كنا نريد حقًّا أن نتشارك مشكلة الفن في عصرنا– من تفكيك الجماليات، من خلال إزالة ما يُعَدُّ عادةً أمرًا مفروغًا منه، يسمح لنا أن نثير التساؤلات عن معنى الجماليات بوصفها علم اشتغالات الفن. والسؤال، مع ذلك، ما إذا كان الوقت قد حان لمثل هذا التفكيك، أو بدلًا من ذلك ما إذا كانت نتيجة هذا الفعل لن تتسبب في خسارة أي أفق ممكن لفهم عمل الفن وخلق هاوية أمامه لا يمكن عبورها إلا بقفزة جذرية». ويتابع قائلًا: «ربما أن مجرد مثل هذه الخسارة وهذه الهاوية هي ما نحتاجه أكثر إذا أردنا لاشتغالات الفن أن تكتسب مكانتها الأصلية مجددًا».

يدعونا أغامبين إلى «التفكيك»، تفكيك لا بد له أن يجتاز ما يرى أنه المساحات الشاسعة المقفرة للاختصاص الشكلي لعلم الجمال/ الجماليات. ووراء هذه القفار، فإن ما يسعى إليه ليس أقل من «المنزلة الأصلية والأصِيلة» للعمل الفني ولاشتغالات الفن على وجه العموم. وإذا كان أغامبين يطمح إلى أن يساعده «التفكيك» على فهم كلٍّ من المنزلة الأصلية للعمل الفني والمعنى الأصيل للجماليات التي تطوقه، فيحق لنا أن نتساءل عن نوع التفكيك الذي يطالب به. إذْ من الواضح في الفقرة السابقة أن الرجل ليس ديونيزوسيًّا، وأن ما يدعو إليه ليس مجرد الفوضى على الرغم من أنه يشعر بانجذاب كبير نحو فنانين مثل آرتو من الماضي أو بازوليني من الحاضر، ومع ذلك فإنَّ أسلوبه ورسالته تختلف كليًّا.

إنَّ السمة المميزة لتصور أغامبين عن التفكيك هي أنه واضح بشكل فريد يهدف إلى تنقية وتنظيف حقل التحقيق؛ لفهم المنزلة الأصلية والأصيلة للعمل الفني. والسؤال الذي يبرز هنا هو: إذا كان هدف أغامبين بهذه البساطة، فلماذا يحتاج إلى تلك الإجراءات المتطرفة أو حتى اللغة الصعبة التي كُتب بها الكتاب؟ والإجابة هي أنَّ مثل هذا الهدم ضروري له؛ لأن المشكلة التي يريد عزلها ليست محددة أو واضحة المعالم. لم يعد الفن يلعب دورًا أساسيًّا في ثقافتنا، فخسارته لمنزلته الأصلية ومعناه الأصيل، أصبحت كما يقول أغامبين، مقبولة جدًّا في أيامنا وفي عصرنا حتى إنها لم تعد تلفت انتباه أحد، وبعبارة أخرى: أصبحت الخسارة كاملة حد أننا لم نعد نشعر أنها خسارة. وحتى يجعلنا أغامبين نستشعر هذه الخسارة والغياب، يحاول أن يزيل الغشاوة التي غطت على رؤيتنا فلم نعد نرى في دروب حياتنا الفن سامقًا متعاليًّا رفيعًا حيث منزلته الأصلية التي تليق به، بل اعتدنا غيابَه، ومن هنا اختار لهذه العملية مصطلحًا متطرفًا هو: التفكيك.

ما الهدف من تعرُّفِنا أداةَ أغامبين في ممارسة هذا التحقيق؟ لماذا يريد أغامبين تفكيك الجماليات؟ أول هذه الأهداف هو استعادة الإحساس بالمكانة والبنية الأصلية للفن، وهذه قضية أنطولوجية، ثم يهدف أغامبين إلى تعقب التعتيم التدريجي على هذه المكانة التي منحت للفن وهذه قضية تاريخية. وثالثًا، يرغب أغامبين في إعادة الفن إلى منزلته الأصلية بوصفه المشكل الحقيقي للأفعال والمعتقدات، وهذه قضية برامجية. يدمج أغامبين الأهداف الثلاثة وهو يعيد سرد تاريخ الفن الغربي منذ الإغريق حتى اليوم.

يرى أغامبين أن الجنون المقدس الذي كان جزءًا لا يتجزأ من خبرة العمل الفني لدى الجمهور لم يختفِ ببساطة، إنما «هاجر». فإذا كان هذا الجنون المقدس، المرتبط بالعمل الفني، ما زال موجودًا اليوم فليس لدى الجمهور، إنما لدى الفنان الذي يقف مشدوهًا أمام البياض المرعب للصفحة الفارغة، أو مناضلًا ضد القوى العنيفة التي تربض في أعماقه وتؤرِّق مشاعره وأحاسيسه. الفنان هو المجنون المقدَّس الحداثيّ.

في العصور الحداثية لم يعد المتفرج، بل خالق العمل الفني هو الذي يسقط صريعًا تحت وطأة ضربات الإبداع المتلاحقة. لنفكر في هولدرلين، ورامبو، ونيتشه في العصور الحديثة. وإذا كان بَتْرُ فان جوخ لأذنِه استثناءً وليس قاعدة، فإن فكرة أن الفنان الحداثي يخوض حربًا مع القوى العنيفة التي تضطرم بداخله ليخرج منها منتصرًا بإنجاز عمله الفني، ليست كذلك، وهي بالتحديد «الهجرة» التاريخية التي يتتبعها أغامبين للتحقيق في مكانة العمل الفني وأساليب استعادتها.

عند هذه النقطة من تحقيقه يصبح سؤال أغامبين: ما الذي حدث بين تفاعلي أفلاطون وهيغل العنيفين بالقدر نفسه مع سلطة الفن؟ والاجابة التي يقدمها أغامبين هي أن ما استحدث خلال هذه المرحلة هو بالضبط ما يرمي إلى تفكيكه: الجماليات AESTHETICS. أما أغامبين فإن تخصص الجماليات هو ما تسبب في «برودة» الشغف الفني. ففي فصل بعنوان «الذواق وجدلية الانقسام»، يوضح أغامبين أن فقه «الذوق» هو ما تسبب في انقسام أو -بمصطلح أغامبين الأكثر تطرفًا- تمزُّق خبرتنا عن العمل الفني. إذنْ ما التمزقُ الذي يربطه أغامبين بالإنسان الذواقة صاحب الذوق الرفيع؟ وللإجابة عن هذا السؤال -حتى نفهم بالتالي العنوان الغامض- علينا أن نتحول أولًا إلى عنوان الكتاب نفسه لنسأل: من هذا الإنسان الـــــ«بلا محتوى» الذي جعله أغامبين عنوانًا لكتابه؟ إنه الفنان، نعم الفنان نفسه. «الفنان هو الإنسان الـــ«بلا محتوى». والتعيين ليس اتهاميًّا هنا بأي حال من الأحوال أبــدًا.

مع تطور الجماليات الحداثية طُلب من صاحب الذوق الرفيع أن يحكم الشكل بشكل مستقل عن المحتوى، وهكذا أُدخلت مسافة جديدة، وتقسيمًا جديدًا على خبرة العمل الفني. هجرة الجنون المقدس من الجمهور إلى الفنان التي لاحظها أغامبين هي الهجرة التي تقصى آثارها حتى وصل إلى تقديم فكرة الذوق. فعندما دخلت هذه الملكة الجديدة، هذه الحساسية الملموسة، على المشهد الفكري في القرن السابع عشر والثامن عشر «كانت كما يؤكد أغامبين مفهومًا غريبًا في القرون السابقة» جلبت معها تضمينات واسعة. فالفكرة التي يسعى آرتو إلى مواجهتها في فكرته «النفعية» عن الفن هي فكرة كانط الذي شدد على (عدم مصلحة) الحكم، الحكم بلا مصلحة. في «نقد الحكم» يعرِّف كانط الذوقَ بوصفه «الذوق ملكة الحكم على كائن». «أو على نمط تمثيله عن طريق رضا أو قنوط غير محدد بمصلحة. ويسمى موضوع هذا الرضا بالجميل». الجدلية القاسمة التي يشير إليها أغامبين هي تلك التي تُحدث من خلال لا مبالتها صدعًا بين الفنان وجمهوره. وبالنظر إلى القطع، الكسر، الصدع الذي أدخله الجدل القاسم أو الممزق إلى تاريخ الفن، يكتب أغامبين «كُسرت الوحدة الأصلية للعمل الفني، تاركة على أحد الجوانب الحكم الجمالي وعلى الجانب الآخر الذاتية الفنية دون محتوى، المبدأ الإبداعي الخالص». هنا نصل إلى قلب الانقسام، وقلب المشكلة التي تمثلها الجماليات لأغامبين، كما أنها السبب الرئيس لتفكيكه.

العودة إلى الأصول

يشير أغامبين إلى أن ما دعانا في العصور الحداثية إلى التفكير في الفن بوصفه فنًّــا هو فَقْدُ الارتباط مع أصل origin العمل الفني، وبنيته الأصلية original structure. وإذا كان لنا في يوم ما أن ننصب محكمة للنقد، يكتب أغامبين، فإن التهمة التي لن يكون بمقدوره الدفاع عن نفسه حيالها هي (عدم كفاية النقد الذاتي)، تجاهله استجواب نفسه بشأن أصله ومعناه. ما الذي تبقى للنقد في ظل هذا الدمار سوى العودة إلى تلك الأصول؟ عند هذه النقطة خاصة ينحرف أغامبين إلى استجواب الأصالة الفنية بصورة أبعد وأكثر أُسسية من ظهور تخصص علم الجمال «الجماليات». وكوسيلة لِلَفْتِ الانتباه إلى تلك الأصول، يسأل أغامبين: ما الذي تعنيه الأصالة؟ ويبدأ إجابته سلبًا محددًا أولًا كل ما لا تعنيه الأصالة، مشيرًا إلى أن أصالة العمل الفني ليست محددة بكونه فريدًا وأصيلًا أو مختلفًا عن كل آخر. الأصالة التي يهدف إلى فهمها تتجاوز تلك التعريفات التقنية. في أول تحديد إيجابي لما يريدنا أغامبين أن نفهمه من كلمة «أصالة» تطالعنا هذه العبارة: «تعني الأصالة القرب من الأصل origin، وبهذا فإن العمل الفني الأصيل أصيل بقدر احتفاظه ببقائه في ذلك القرب الخالد من ذلك الأصل».

يتضحُ من السياق إذن أن أغامبين لم يفكر بفرادة العمل الفني، إلا أنه أيضًا لم يفكر في الأصل التاريخي للفن الموجود أو التائه في مكان ما من ماضينا الحجري، أو في تفسير دارويني للقيمة الخالدة التي يمكن أن تحدث للأنواع الحية أو الثقافة التي تخلق وتقيم النشاط الفني. لا يشير الأصل المقصود إلى مكان قَصِيٍّ في الماضي، بل في الحقيقة لا يشير إلى أي ماضٍ على الإطلاق، أما أغامبين، مستلهمًا كلًّا من مارتن هيدغر ووالتر بنيامين، فالأصل ليس ما هو ميت وليس ما هو مخلد بنصب تذكاري في الماضي، ولكنه ذلك الديناميكي الحيوي في الحاضر.

للمفارقة، فإن أحد الأسباب التي جعلت أصل العمل الفني عَصِيًّا على الفهم، من وجهة نظر أغامبين، هو الأصالة ذاتها. أو على الأقل ما يوصف عادة بها. يحدد أغامبين «دوغما الأصالة» بأنها «الحركة التفتيتية» التي يجلبها انفصال الفنان عن الجسم المشترك للمواد الثقافية والتي نريد نشرها من خلال العمل الفني والثمن المدفوع لتلك الأصالة هو الارتباط بين الفنان والعامة، الذي قاد في تحليل أغامبين إلى إفراغ (المساحة المشتركة) التي كان يعمل بها الفنان سابقًا. المنزلة الجديدة للفنان التي جلبتها الجماليات وانتشار مفهوم الفن الذي يسلب قيمة المحتوى المشترك والإبداع المشترك هما لأغامبين أهم الخطوات نحو العمى المعاصر عن «البنية الأصلية للعمل الفني». في الحداثة، كما يمكننا أن نستنتج، قاد الانقسام في الحياة الروحانية للفنان وفقد الأشكال المشتركة والثقافة المشتركة والهجرة نحو المساحات القاحلة للجماليات بلا مصلحة، قاد من ناحية إلى الممارسات الفنية المتطرفة مثل فنون البوب، ومن ناحية أخرى إلى الأعمال الجاهزة لدوشامب. وفي كلتا الحالتين، فإن التغيرات التي حدثت على حالة الأصالة وعلى الخبرة الفنية جلبت بشكل استثنائي أعمالًا فنية تشير قبل كل شيء إلى حالة الانقسام الروحي هذه.

يرى أغامبين أن لا أمل لنا بتجاوز ما أطلق عليه «مستنقع التكنولوجيا والجماليات»، واستعادة البعد الأصيل للحالة الشعرية للجنس البشري إلا من خلال فهم عواقب هذا الانقسام الغريب في حالة العمل الفني في المجتمع المعاصر. وتُعرض التكنولوجيا والجماليات هنا بطريقة توحي بأنهما تعملان معًا، والحقيقة أن أغامبين يشعر أنهما فعلًا كذلك حدّ أنه لا يرى حاجة إلى توضيح أن التكنولوجيا لا تُلام بأي معنى، وأنه يوظف التكنولوجيا هنا بطريقة تشبه طريقة هيدغر في «مسألة التكنولوجيا» بوصفها مرادفًا لعقلانية تأملية ذاتية بقدر غير كافٍ، عقلانية تُركز على ما يمكن أن تفعله حين تفشل في السؤال عما إذا كان يجب فعله. هذا التناول البارد للإمكانيات العقلانية المغتربة أو المنفصلة عن العلاقة الحية للمرء بعالمه هو ما يراه أغامبين في تخصص الجماليات.

الأصالة المطروحة هنا ليست نقطة مترجرجة في أفق تاريخ (سواء كان تاريخ الإغريق القديم التكنولوجيا، أو تاريخ الإسكوا ما قبل التاريخ) ولكن مكان مفاهيمي وثقافي يمكن أن نتشاركه جميعًا، ولكن المجتمعات الحداثية فقدت صلتها به تدريجيًّا.

ينتقد أغامبين، إذًا، مشكلة فلسفية ملحوظة تاريخيًّا ونقده للجماليات هو نقد للمفاهيم الحداثية عن العقلانية. يرى أغامبين أن المنزلة الشعرية للإنسان على الأرض قد اختفت، ولكن ما هذه الحالة؟ كيف يمكننا أن نستعيدها؟ هل علينا أن نصبح جميعًا شعراء؟ هل يستنهض أغامبين حلم التعميم الشامل للعملية الفنية على نحو ما قام به آندي وارهول مثلًا؟ والإجابة عن هذين السؤالين هي بكل وضوح: لا.

لا يشير أغامبين إلى جنة عدن يمكننا أن نعود إليها، ولا إلى دعوة رجعية لتعليم يمنح فيه المكان فخرًا مطلقًا. ما يعنيه هو شيء أكثر بساطة واكتساحًا في الوقت ذاته، يكتب «ما هو مؤكد، على أي حال، هو أن العمل الفني لم يعد، عند هذه النقطة، المقياس الأساسي لإقامة الإنسان على الأرض، والذي، لأنه على وجه التحديد يبني/ ويجعل عمل الإقامة ممكنًا، لا مجال مستقل له ولا هُوِيَّة معينة، بل هي خلاصة وافية/ وانعكاس العالم البشري بأسره. على العكس من ذلك، بنى الفن الآن عالمه الخاص لنفسه».

أما أغامبين، فكان هناك زمن، عند البدايات الإغريقية للفن حينما كان يُنظر إلى الفنان بوصفه مُشكل ثقافتنا وراسم حدودها ومانحها شكلها، زمن كان للفنان فيه قوة غريبة ورائعة تمكنه من جعل العالم يظهر، تمكنه من إنتاج الوجود والعالم في عمل. ولكن الفن فقد هذه المنزلة، وجُرّف بشكل مستمر إلى حيث لا إنسان، إلى أرض الاحتفاء الفائق بالعقلانية، دون مصلحة. في عصر الجماليات، عصر الحكم الفني بلا مصلحة، طوق الفن بأمان وهاجر شغف ونار الخبرة الأصيلة للعمل الفني في انعطافة تاريخية غريبة من المجال العام إلى أستديو الفنان. ما زال الفن يتمتع بهالة معينة ولكن على حساب (الوحدة المعيشية) مع الجمهور. يمنح الجمهور الفن الموارد الثقافية ولكنه لا يختبره بطريقة تسمح له أن يلعب دورًا أساسيًّا ومشكلًا في خبرتهم عن العالم. لم يعد الفن بالتأكيد من الوسائل التي يستقون منها مقاييسهم ومعاييرهم عن عالمهم، وما زال أقل من «خلاصة وافية وانعكاسًا للعالم البشري كله».

إنسان أغامبين الذي بلا محتوى، كما قال لنا بنفسه، هو الفنان. وتحليله يسير بنا من ظهور الجماليات، ثم البحث عن إيقاع وبناء مخفي، واستمثال الأصالة، وأخيرًا كسوف الأصول. وعلى الرغم من هذا التسلسل المنساب في تحقيق أغامبين، فإن القارئ ما زال يتساءل: ما الهدف الحقيقي من هذا التحقيق؟ هل الهدف هو أن يستعيد الفنان المحتوى الثقافي المفقود؟! والمدهش أن إجابة أغامبين عن هذا السؤال هي: لا.

في الفصل الأخير من «الإنسان بلا محتوى» يركز أغامبين على فكرة التقاليد ويلاحظ كما لاحظت أرندت من قبله أن التقاليد وتواريخ معينة جُعلت غير ذات صلة، كما يلاحظ أيضًا أن الإنسان قد فقد قدرته على ملاءمة مساحته التاريخية والمساحة المتماسكة لأفعاله ومعرفته. ولكن كما أن للقصة جانبًا سلبيًّا، فإن جانبًا آخر يمكن أن يتكشف أمامنا: فرصة. وضحت أرندت ذات مرة أن هذا قد يساعدنا على أن نقرأ الماضي ونستمع له من دون ضجيج التقاليد، بصدق وصراحة ووضوح غاب عن القراءات والتأملات الغربية.

السم والترياق

الفكرة ببساطة ووضوح هي فكرة «الخطر والنجاة معًا» السم والترياق في آنٍ واحد التي وظفها أغامبين هنا. فهو يرى الحالة القائمة أليمة بما لا يطاق بسبب فقد التقاليد الواسع النطاق اليوم، فقد الوحدة المعيشية بين الماضي والحاضر، بين الفنان وجمهوره. ما الذي يعني بعد فقدان التقاليد في عصرنا؟ أما أرندت وأغامبين، فالتقاليد عندهما ليست إثراءً فحسب، لا لأنها تمنح محتوى للناس والمكان، ولكنها قد تظهر بوصفها عبئًا، يمكنها أن تثقل كواهلنا وأن تحجب الرؤية عن أولئك الذين قصمت ظهورهم؛ ولذلك فإن فقد التقاليد والتراث المشترك الذي حددته أرندت يجلب معه بصورة متلازمة، كالخطر والفرصة والسم والترياق، حقلًا جديدًا من الرؤية وإمكانية جديدة لما أطلقت عليه الصراحة والصدق والوضوح. ولكن ما الذي قد يتكون منه هذا الصدق والوضوح هو ما سيجيب عنه أغامبين في كتابه الأول.

لم يكن أي مفكر في عصره أكثر حساسية للتغير الذي تمر به التقاليد الغربية من والتر بنيامين. غير أن الأمر لا يتطلب حساسية كبيرة لمعرفة التغيرات الراديكالية في حالة التقاليد والصيغ والأشكال الثقافية في التحول أو النقلة التاريخية التي كانت تجري خلال الجزء الأول من القرن العشرين. ومع كل تعقيداته وملابساته، فإن هذا التغيير يمكن أن يحدد بوصفه تآكلًا عامًّا في التقاليد على النحو الذي لاحظته أرندت. ولكن التفرد في استجابة أغامبين هو محاولاته البحث عن استجابات إيجابية.

مثل هيدغر، كان بنيامين قارئًا شغوفًا بهولدرلين في وقت كان هذا الأخير أبعد ما يكون عن التمتع بالصيت العالمي والشهرة الكونية التي حظي بها لاحقًا. كتب بنيامين مرة: «في كتابة التاريخ، تتناسب قوة الدافع التفكيكي مع قوة الخلاص». في استحضار مباشر لقصيدة هولدرلين (باتموس، 1959م) التي كتبها قبل أن يفقد السيطرة على إيقاعات أفكاره:

«قريب

ولكنه عصي على الإدراك

الرب

حيث يستفحل الخطر،

ينمو أيضًا ما ينقذ».

(متلازمة الخطر والنجاة، السم والترياق التي وضحناها أعلاه)

يبحث بنيامين عن استجابة منقذة للوضع القائم المعاصر مُذَكِّرًا قُرَّاءَه في عمله الأخير «أطروحات في فلسفة التاريخ»:« كل لحظة في كل يوم هي البوابة الضيقة التي قد يعبر منها المسيح». يركز بنيامين رؤيته على النشاطات الثقافية البسيطة التي يمكن أن يجد فيها ضالته من أجل أن يحلل هذا التغيير في حالة التقاليد. ويشرح «العمل الفني في عصر الاستنساخ الميكانيكي» حالة فن بلا هالة. ضاع البريق الفريد في عصر أصبح فيه التفرد مظللًا بالمستنسخ. وجد بنيامين أن نشاطات مثل وفرة الاقتباسات والتجميع تكشف ما أطلق عليه «القوة التفكيكية»، تفكيك السياق الذي يحدث تحت وطأة سحب الاقتباسات أو الموضوع المجمع من سياقه الأصلي وحشره في آخر مصطنع بالأساس. أما أغامبين، فلا تكون مثل هذه الإزاحة للعبارة أو الموضوع من سياقه ممكنة إلا بسبب أن أُسس نقل الكلمات والأشياء التقليدية قد بدأت تتدهور.

في عصر كانت فيه التقاليد مهددة بالخطر كان الفن خاضعًا لقوة تفكيكية مماثلة، وفقد مكانه الأصلي، مساحته المشتركة في مركز الحياة الثقافية، ووضع على مساحة يمكن ملاحظته فيها بإعجاب بلا مصلحة.، مثل اقتباس منفصل عن محتواه، أو موضوع معزول في خزانة جامع التحف والنوادر. ولكن المدهش لبنيامين، أنه ومن خلال هذا الخض [Erschiittrrung] سنعثر على وسائل الخلاص النهائي.

متتبعًا خطى بنيامين؛ يزعم أغامبين أن بودلير«هو الشاعر الذي كان عليه أن يواجه حل سلطة التقاليد في المجتمع الصناعي الجديد، وبالتالي كان لا بد له من اختراع سلطة جديدة. وقد أنجز هذه المهمة من خلال جعل عدم قابلية الثقافة للانتقال قيمة جديدة ووضع تجربة الصدمة في مركز اشتغاله الفني. الصدمة هي قوة الهزة التي تكتسبها الأشياء عندما تفقد إمكانية انتقالها وإمكانية فهمها في إطار نظام ثقافي معين. فهم بودلير أنه من أجل أن يبقى الفن على قيد الحياة بعد خراب التقاليد، لا بد أن يحاول الفنان في عمله إعادة إنتاج دمار قابلية الانتقال التي كانت في أصل خبرة الصدمة: بهذه الطريقة قد يفلح في تحويل العمل إلى المركبة الخاصة لذلك غير القابل للانتقال. ومن خلال التنظير للجميل بوصفه نبوءة لحظية بعيدة المنال («وميض… ثم ليل!») (!un éclair… puis la nuit)، صنع بودلير من الجمال الجمالي شفرات استحالة الانتقال. نحن الآن قادرون، على نحو أدق، على تحديد ما يشكل قيمة الاغتراب التي رأيناها تتكون على أساس كل من الاقتباس ونشاط الجامع، قيمة الاغتراب التي أصبح إنتاجها مهمة محددة للفنان الحداثي: ليست سوى تدمير قابلية الثقافة للانتقال. إعادة إنتاج انحلال القابلية للانتقال في تجربة الصدمة يصبح، من ثم، آخر مصدر ممكن لمعنى وقيمة الأشياء نفسها، ويصبح الفن آخر رابطة تربط الإنسان بماضيه».

يعي أغامبين صعوبة فهم هذه المهمة التي وكل بها بودلير لذلك يستفيض في شرحها قائلًا: عدم الكفاية، الفجوة بين عمل الانتقال والشيء الذي يُنقل، وتقدير قيمة هذا الأخير بشكل مستقل عن الأول يظهر فقط عندما يفقد التقليد قوته الحيوية، ويشكل الأساس لظاهرة مميزة للمجتمعات غير التقليدية: تراكم الثقافة. لأنه، وخلافًا لما يمكن للمرء أن يفكر فيه للوهلة الأولى، كسر التقاليد لا يعني على الإطلاق خسارة أو التقليل من قيمة الماضي: بل، من المحتمل أن الماضي الآن فقط يمكن أن يكشف عن نفسه بوزن وتأثير لم يكن له من قبل. فَقْدُ التقاليد يعني أن الماضي قد فقدَ قابليته للانتقال، وطالما لم يُعْثَرْ على طريقة جديدة للدخول في علاقة معه، فإنه يمكن أن يكون فقط هدف التراكم من الآن فصاعدًا.

في هذا الوضع، يحافظ الإنسان على تراثه الثقافي في مجمله، وفي الواقع، تتضاعف قيمة هذا التراث بشكل كبير. ومع ذلك، فإنه يفقد إمكانية أن ينهل من هذا التراث معيار أفعاله ورفاهه وبالتالي المكان الملموس الوحيد الذي يكون فيه قادرًا، من خلال تساؤلاته عن أصوله ومصيره، على تأسيس الحاضر كعلاقة بين الماضي والمستقبل. لأن قابلية الثقافة للانتقال التي، من خلال منح الثقافة معنى ملموسًا ومدركًا على الفور وقيمة، تسمح للإنسان بالتحرك بحرية نحو المستقبل من دون أن يعوقه عبء الماضي. ولكن عندما تفقد الثقافة وسائل انتقالها، يحرم الإنسان من النقاط المرجعية ويجد نفسه عالقًا من جهة، بين الماضي الذي يتراكم خلفه بلا هوادة ويضطهده بتعدد محتوياته التي لا يمكن تفسيرها – الآن، ومن جهة أخرى، مستقبل لم يمتلكه بعد ولا يفيده كثيرًا في كفاحه مع الماضي».

في تعين أغامبين التاريخي، يحصرُ فَقْدَ الثقافة لوسائل انتقالها، الإنسانَ بين الماضي والحاضر؛ ماضٍ لم يعد ينتمي إليه وبالتالي لا يمكنه توظيفه لتوجيه وتشكيل وجوده، وحاضر لا حدود لا يقينيته. أما أغامبين، كما لبنيامين وأرندت من قبله، فيرى أن «الإنسان محصور بين ماضٍ وحاضر، والعثور على نقاط مرجعية أمر بالغ الضرورة. المشكلة التي يعرضها العمل الفني ليست ببساطة مشكلة وسط مشكلات أُخرى تعانيها ثقافتنا لأن «العمل الفني هو ما يضمن البقاء الوهمي للثقافة المتراكمة».

وفي حين أن أغامبين يطلب في بداية الكتاب «تفكيك الجماليات»، إلا أنه هنا وقرب نهايته يرى بوضوح أن تخصص «الجماليات» أُسس أصلًا على التفكيك؛ تفكيك قابلية الثقافة للانتقال؛ توريث الثقافة، التي تأسست عليها الجماليات. وفي مواجهة هذه المشكلة، يمكن للفنان -الإنسان المعاصر بلا محتوى- أن يستعيد مقدارَ أو مقياسَ قابلية العمل الفني للانتقال من خلال عكس هذه الحالة القائمة. بهذه الطريقة، يقول أغامبين، «وفي حدود تجواله الجمالي، يردم الفن الفجوة بين الشيء الذي يتعين نقله وعمل الانتقال ويقترب مرة أخرى من النظام الأسطوري التقليدي، حيث يوجد تجانس مثالي بين المصطلحين». وفي الواقع فإنَّ مثل هذا التجانس التام الذي ساد في المجتمعات القائمة على الأسطورة لم يعد في متناول اليد بل لم يعد أيضًا أمنية نسعى لتحقيقها. لكن هذه العودة إلى ما يقارب التجانس التام بين الشيء المراد نقله وفعل النقل ذاته الذي يستعيد الصيغ الأسطورية هو ما نسعى لتحقيقه حسب تعيين أغامبين من خلال تضحية فردية: أن يُضحى بالشيء المراد نقله -المحتوى- لصالح عملية النقل أو فعل النقل ذاته – العمل الفني.

رائد هذه التضحية لم يكن كما كان يمكن أن نتوقع من بدايات الكتاب، آرتو، ولا بودلير قرب نهاياته. إنه كافكا. يكتب بنيامين عن كافكا: «يمتلك كافكا مهارة نادرة في ابتكار أمثال وحكايات رمزية غير أنه يجعلها عصية على الفهم ومن العسير الاستفاضة في شرحها. بل إنه يأخذ كل احتراز ممكن ضد تفسيرها».

هدية كافكا، في نظر بنيامين، لتلك الصيغة الأكثر تقليدية لنقل الثقافة وهي القصة الرمزية، هي أنها أصبحت في قصصه الرمزية وأمثاله للمفارقة لا تكشف أي معنى. يتحدث بنيامين أيضًا عن طريقتين مؤكدتين لإساءة تفسير كافكا: الأولى التي ترى أمثاله وقصصه طبيعية والثانية التي تراها فوق طبيعية. ولكن قمة عبقرية كافكا في حكاياته الرمزية لبنيامين وثيقة الصلة بقدرته على كتابة حكايات من دون معنى محدد. وكلما توغلنا في محاولة شرح الحكاية تراجع المعنى وهرب هازئًا من محاولاتنا.

لحظة تفكيكية

وأيًّا كان قصد كافكا، فإن العلامات والمجازات التي ترفل بها أعماله تثبت لقُرَّائه تفرُّدَها في عدم الخضوع لأي تفسير واحد حاسم. يصور بنيامين كتابات كافكا مثل ثروة مكدسة على ظهور البشر ولكنهم لا يستطيعون الاستفادة منها؛ لأنهم لا يمتلكون القوة لخضها وتحرير أيدينا التي نضعها عليها. ما نحتاجه إذًا هو تلك اللحظة التفكيكية التي ستحررنا حتمًا من ثقل ثروة كافكا على ظهورنا. متتبعًا الفكرة ذاتها، يفهم أغامبين هذه اللاقابلية للشرح المستفيض في أعمال كافكا بوصفها لمحة عن ترتيب متفرد وذات المغزى الأعظم في تاريخ الفن، إنها له مواصلة الحركة التي بدأها بودلير: التضحية بنقل حزمة من المحتويات لصالح فعل النقل ذاته. ومن دون الأنساق الثقافية الثابتة للعصور الأقدم تحت تصرفهن وجد كافكا نفسه، متحررًا من عبء النقل الثقافي، منفتحًا على مغامرات من نوع جديد جذريًّا.

وهكذا، فإن مشكلة الإنسان الذي فقد القدرة على ملاءمة… المكان الملموس لفعله ومعرفته، يمكن لأغامبين معالجتها واسترداد المكان من خلال قدرة الفن على تحويل اعتقال الإنسان بين الماضي والحاضر إلى مكان خاص، يكون فيه قادرًا على أخذ القيمة الأصلية لإقامته في الحاضر واستعادة معنى فعله في كل زمن من خلال السماح له أن يتصور مثل هذه العلاقة الجديدة مع التقاليد، ومن خلال التشبث بالمكان الأصلي الذي يأخذ منه الإنسان قيمته ومقاسه. وبعبارة أخرى، من خلال تمكين علاقة جديدة بين الإنسان والمحتوى، يعرض أغامبين على العمل الفني إمكانية أن يستعيد دوره المُشكِل الذي جرى تعطيله عن القيام به في العصور الحديثة.

هذه هي الخطوة الأخيرة قبل أن يضعنا أغامبين أمام استخلاصاته النهائية في الفصل الأخير من «الإنسان بلا محتوى» الذي يحمل عنوان «الملاك الملانخولي». هذا الملاك هو ملاك الجماليات ومثل ملاك التاريخ لبنجامين هو أيضًا ملاك مستعار. ففي حين جاء ملاك بنجامين من لوحة كلي (أنجيلوس نيفوس)، جاء ملاك أغامبين من نقش دورر. وفي حين كبلت الريح جناحي ملاك بنجامين وجعلته عاجزًا عن التحرك إلى الأمام، فإن ملاك جماليات أغامبين في مكان مختلف ولكنه يحمل القدر ذاته من اليأس والإحباط ويقبع على الأرض من دون ريح. ملاك تُرِكَ وحيدًا ينظر متفطر القلب إلى أدوات النشاط الثقافي التي فقدت وظيفتها التشكيلية. وهكذا، كان مشروع «الإنسان بلا محتوى» طموحًا في إعلانه عن رغبته في العودة بالفن إلى أصله وحالته الأصلية المفقودة. كتاب أغامبين الأول عن الفن بكل وضوح، ولكن الأقل وضوحًا أن الكتاب أيضًا عن الإمكانيات.

بدأ «الإنسان بلا محتوى» بنداء للتفكيك وانتهى بحريق: «عن طريق تحويل مبدأ تأخير الإنسان قبل الحقيقة إلى عملية شعرية والتخلي عن ضمانات الحقيقة لمحبة الانتقال، ينجح الفن مرة أخرى في تحويل عجز الإنسان عن الخروج من حالته التاريخية، والعلوق بشكل دائم بين العالم القديم والجديد، الماضي والمستقبل، إلى الفضاء نفسه الذي يمكنه أن يتخذ فيه التدبير الأصلي لمسكنه في الحاضر وأن يستعيد في كل مرة معنى عمله. وفقًا للمبدأ فإنه فقط في المنزل المحترق تصبح المشكلة المعمارية الأساسية مرئية للمرة الأولى، الفن، في أبعد نقطة من مصيره، يجعل مشروعه الأصلي مرئيًّا».

ينتهي الكتاب بهذه الصورة وهي صورة استعارها بصمت من بنجامين. في كتابه «أصول التراجيديا الألمانية» حيث يكتب بنجامين «على أنقاض المباني العظيمة، تتحدث فكرة المشروع بطريقة أكثر إثارة للإعجاب مقارنة بالمباني الأقل». أما أغامبين، فالبيت ليس أنقاضًا ولكنه يحترق. وهو مجاز عن الوجود الفني للإنسان. ويرى أغامبين، ليس الهدف أن نطفئ الحريق ولكن أن نتعلم منه. يمنح التفكيك شيئًا ذا أهمية بالغة للتشييد القادم. ويكشف عن المشكلة المعمارية الجوهرية للجماليات، ويكشف أيضًا عما يراه أغامبين مشروع الفن الأصلي، ويكشف في لحظة مضيئة ما يراه أغامبين مشروع الفن الأصلي. مشروع الإمكانيات.

مقدمة كتاب «إنسان بلا محتوى» الذي يصدر قريبًا عن دار أروقة بالقاهرة.

المنشورات ذات الصلة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *