كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
الفكرة والآلة.. مشكلتي مع الأجهزة الذكية
أنا من الذين رحّبوا بالثورة الرقمية ونظّروا لها. وقد ذهبت في قراءتي لها بأنها فتح كوني لا سابق له؛ إذ هي أخذت تغير وجه الحياة على سطح هذا الكوكب، وعلى نحو تتغير معه علاقاتنا بمفردات وجودنا: بالمكان والزمان، بالواقع والحقيقة، بالقيمة والثروة، بالمعرفة والقدرة.
وها هي، بعد عقود على انطلاقتها، تكاد تنقلنا إلى عصر جديد، لتغير طبيعة الإنسان نفسه، بما أصبح يمتلك من القدرات المعرفية والتقنية، الهائلة والخارقة، وكما يتنبأ أو يحلم الذين يتحدثون عن العبور إلى طور جديد نتجاوز فيه الإنسان نفسه إلى «ما بعد الإنسان»، أي إلى كائن قد يحتاج إلى اسم جديد وتصنيف جديد. وهذا لعب بخارطة الخلق لم يكن يتخيّله أحد.
ومع ذلك، فأنا أعترف بأنني لم أستفد من إنجازات العصر الرقمي. فما زلت أنتمي إلى العصر الورقي. ولما طُلب من ابني أن يتحدث عني، لبضع دقائق، خلال حوار أجرته معي إحدى القنوات الفضائية، سألني عمّا يجدر به ذكره، فكان جوابي له: بوسعك أن تقول لا تصدقوا والدي، عندما يتحدث عن العولمة وفتوحاتها أو عن المعلومة وانفجاراتها. إنه أُمِّيٌّ في هذا الخصوص؛ إذ ما زال يستخدم القلم لكتابة نصوصه وأعماله، ولم يدخل بعد، على صعيد المعايشة، إلى عصر المعلومة والشبكة والفأرة.
وبالفعل، لم أحاول التدرّب على التقنيات الجديدة. لم أسعَ إلى اقتناء حاسوب، كما فعل الأكثرون من الكتّاب والمؤلفين، الذين جذبتهم الآلات الذكية، وهي آلات لا تحتاج من الواحد إلا إلى استخدام إبهامه لتحريك الشاشة بالنقر أو اللمس، حتى ينبسط كتاب العالم أمامه، بأحداثه ومستجداته، بمشاهده ومعطياته، وبما يفوق ما كان يتخيّله من فكروا ببساط الريح أو حلموا بفتح الأبواب الموصدة وفكّ الشيفرات الملغزة.
من كان يتخيّل أن نصل إلى عصر يكفي فيه أن يحمل الواحد معه جهازًا بحجم الكف، يمكِّنه من أن يتصل بمن يشاء ساعة يشاء وفي أي مكان يشاء. وهذه الآلة العجيبة، التي تغنيه عن مكتبة بكاملها، تتيح له أن يطلع لحظة بلحظة على ما يدور في العالم الواسع من الأحداث والمفاجآت، أو أن يحصل على معلومات مفيدة حول مختلف المواضيع والمفاهيم أو الأمكنة والتواريخ، كما تتيح له أن يقرأ ما يكتب فورًا من التعليقات والتغريدات، الطريفة أو السخيفة، حول قادة العالم وشخصياته واللاعبين على مسرحه.
غير أني اضطررت، في النهاية، إلى اقتناء نماذج من الهواتف الذكية (IPhone) واللوحات الذكية (IPad)؛ كي لا أبقى نشازًا بين الناس، وكي أردّ على الدعوات والرسائل التي تردني من الخارج، على بريدي الإلكتروني، وهي مهمة كان يتكفّل بها ابني. ومع ذلك، فأنا لا أفيد من هذه الأجهزة، ذات الوظائف المتعددة والإمكانات المفتوحة، إلا القليل، كأن أبحث عن معنى مفردة، أو أستعلم عن ولادة كاتب، أو أكتب ردًّا على رسالة من عدة أسطر لا أكثر. ومع أني تعلمت كيف أحصل على الصور، سواء لي أو لغيري، فإني لم أستمتع باستخدام هذه الإمكانية كما يفعل الآخرون.
وهكذا لم أحسن استقبال الآلات الذكية، لم يتقبلها عقلي ولا تكيّف معها جسدي. فأنا لا أستسيغ قراءة الرواية مثلًا وأنا مسمّر أمام الشاشة، بل أستمتع بقراءتها وأنا مستلقٍ على الكنبة. لقد أصبحت عصيًّا على تغيير عادتي، أنا الذي أستمتع بقراءة الكتاب الذي أحمله وأقلّب صفحاته، أو بالكتابة على الورق الأبيض الناصع، وبالقلم السيّال، وليس بأي قلم. وإني أعجب من الصغار الذين يعملون على تلك الأجهزة المعقّدة بمهارة فائقة.
هل تحوّلتُ أنا وأمثالي، وهم قليلون، إلى ديناصورات ورقية أمام طغيان العالم الرقمي؟
هذا سؤال أطرحه على نفسي، أثناء مشاركتي في الندوات الفكرية، حيث أجد معظم المنتدين يحملون معهم لوحاتهم الذكية، لكي يقرؤوا عليها مداخلاتهم التي كتبوها أصلًا عليها، فيما أنا أحمل معي أوراقي، التي طبعتها في المراكز المخصصة لذلك، لكي أضعها على الطاولة وأقرأ. إنه التعارض بين الورقة والشاشة، بين الطاولة واللوحة.
وإني أتساءل أحيانًا عن سبب هذه الممانعة عندي: ما الذي يجعلني أستعصي على التعامل بإيجابية مع الحواسيب والشبكات ومواقع التواصل الاجتماعي؟ هل هو تخلّف عن الركب الحضاري؟ ولكني داعية تقدم. ولذا أراني في مجال عملي أواكب المستجدات من الأفكار، وأسعى جاهدًا إلى تجديد عدّتي الفكرية.
هل هو إذن مقاومة الفكرة للآلة؟ قد يكون لهذا السبب وجاهته. فأنا أفكر أحيانًا وأنا أتمشّى في الشارع في المسائل العالقة التي لم تجد حلًّا لها، وأنا جالس وراء طاولتي. ولكني أشعر بأنني أفقد بداهتي، وبأن قدرتي على التفكير تتراجع أمام الآلات. ولذا لم أنجح، مرة، في إجراء حوار على الهاتف أو أمام آلة التسجيل.
هذا مع أني لست ممّن يأخذون بمقولات العقل المحض والفكر المجرد. فنحن آلات فكرية. ولذا لا يجد أهل العلوم الإدراكية أفضل من الحاسوب، نموذجًا للقياس والمقارنة، لفهم عمل الذهن والدماغ. ولكننا آلات استثنائية تملك إمكانية التفكير بحرية، بالارتداد على ذاتها وعلى أفكارها؛ لكسر ما هو آلي وحتمي ونسقي، والأحرى القول: إنها تملك إمكانية تفكيك الحتميات والأنساق المستهلكة، لبناء أخرى مكانها شغالة وفعالة.
* * *
أيًّا يكن الأمر، فالعصر الرقمي يطرح علينا أسئلته: هل سيلغي ما قبله؟ هل سيختفي الكتاب الورقي من سوق التداول؟ هل تطغى الآلات وتفلت من سيطرتنا؟
لا يجدر بنا التسرُّع في هذا الخصوص. فلكل اختراع حقّه وقسطه من الحقيقة. ونحن نعلم أن بيل غيتس، أحد صنّاع العالم الرقمي، قد ألّف كتابًا ليشرح فوائد ثورة الاتصالات التي تتيح نقل المعلومات والرموز بسرعة البرق والفكر. ولو توقفنا عند بلد كفرنسا نجد أن الصحف والمجلات لم تتراجع، بل هي إلى مزيد من التطور والازدهار. صحيح أن الأكثرين يكتبون على الشاشة الرقمية، ولكن القراءة هي في أكثرها ورقية. ما زال الكتاب الورقي يتصدر عالم المعرفة. هذه إمكانية ما زالت قائمة في معظم البلدان. نحن في مرحلة وُسطى تستخدم فيها ثورة الاتصال لتسهيل أعمال النشر الورقي.
أعرف أن الأجيال الجديدة تنخرط أكثر فأكثر في العالم الرقمي الفائق، والسيّال، والمتسارع، ببرامجه ولوغاريتماته وروبوتاته، التي تقتحم أقاليم الوجود وحقول الإنتاج، من التعليم إلى الصحة، ومن الاقتصاد إلى السياسة، ومن الأمن إلى الثقافة… فهل سيتغلّب الذكاء الاصطناعي على الدماغ؟ وهل تحلّ الروبوتات محل الإنسان في سائر أعماله وأنشطته؟ هل سيصبح لكل فرد مستشاره الرقمي الذي يرجع إليه، إذا أشكل عليه أمر أو واجهته صعوبة؟ هل سيارات المستقبل التي سوف تعمل ذاتيًّا، ولا تحتاج إلى سائق، هي التي ستقودنا بدلًا من أن نقودها نحن؟
ما أراه في هذا الخصوص أن طغيان العالم الرقمي الاصطناعي الآلي، على العالم الطبيعي، الحسّي والعقلي، إنما يعني هيمنة البُعد الواحد عند الإنسان الذي هو كائن متعدّد الأبعاد، وهو الأمر الذي سوف يترجم استلابًا وفقرًا وخواءً وجوديًّا. بذلك تتحوّل المنافع إلى مساوئ. وعندها ستنهض أشكال جديدة من المقاومة بِتْنا نشهدها، في كثير من القطاعات والبلدان، ضد طغيان الشاشة والآلة والبرمجة على الحياة، بنبضها وعصبها، بطفراتها ومفاجآتها.
هل ثمة خشية من سيطرة الإنسان الآلي على صانعه؟
لا يجدر بنا أن نتغاضى عن الفارق الكياني، الأنطولوجي، بين الإنسان الحيّ والآلة الصماء. فهو يمتلك ما لا تملكه الآلة ولا تقدر عليه: القدرة على ابتكار اللغات والرموز والتصورات والبرامج، سواء فيما يخصّ علاقته بذاته أو بالطبيعة والآلة. أما الآلة فإنها لا ترغب ولا تحس، لا تفكر ولا تتخيّل. إنها مجرد امتداد للإنسان تزيد من قدراته وتُحسِّن أداءه.
صحيح أن الآلة تعمل عملها، وتنفذ ما أعدّ لها من البرامج، في غاية الإتقان والإحكام، وأحسن من الإنسان، غير أنها لا تملك الإمكانية على أن تعقل وتدبّر أو تقدّر وتحكم. وهنا وجه الخطورة لدى الإنسان الآلي إذا تعاظمت قدراته. ولا يقل خطورة عن ذلك الفلتان الذي نشهده في مجال الكتابة على الصحائف الفيسبوكية ومواقع التواصل الاجتماعي. كان عدد الكتاب في عصر طه حسين محصورًا. وفي عصر محمود درويش أصبح عددهم بالمئات أو أكثر. أما اليوم فقد أصبح بوسع أي واحد أن يكتب ويغرد ما شاء له عن أي موضوع أو شخص آخر، وليست كلها كتابات من النوع المتقن والجيد والمفيد. فالكثير مما يكتب خالٍ من العقل والمعيار أو الذوق والفائدة.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق