كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
الوصول الأول إلى بيروت (7)
تخيّلت بيروت، قبل رؤيتها، مدينة بيضاء مسقوفة بالنوارس، تمتد بين جبل صغير وبحر هادئ الموج، كثيرة المطابع تنشر ما يقرؤه غيرها، وتعد بالسعادة. واستمعت إلى حكايات عن «شارع الحمرا والحياة اللذيذة»، وعن صخرة يتسلقها العازفون عن الحياة تدعى: الروشة. وغالبًا ما كنت أعطف، لأسباب غامضة، الصخرة على «مصارع العشاق»، تعبير حفظته عن معلم اللغة العربية القصير القامة، وتصورت عشاقًا ينتحرون، لم يظفروا بما رغبوا فيه، ولا رضوا بالتخلي عنه، فحملوا عشقهم وأنهوا رحلة الحياة.
وصلت مطار بيروت، للمرة الأولى، ليلة الثامن عشر من نوفمبر، تشرين الثاني عام 1974م، تطلّعت إلى مستقبلين ولم أجد أحدًا، فالكلام السخي لا يُترجم حقيقة إلا مصادفة. كان الهواء كالمنعش والمدينة على «شفا هاوية»، كما كان يقال، وأطراف سياسية مختلفة الولاء، تحاربت أو ذاهبة إلى الحرب. تذكّرت، وأنا ذاهب إلى «موظف الجوازات»، غسان كنفاني، الذي اغتاله الإسرائيليون في يوليو عام 1972م، وتذكّرت آخرين اغتيلوا ليلًا، في «المدينة البيضاء»، التي تفرط بالترحيب وبإطلاق الرصاص.
وقفت أمام موظف واضح الأناقة، نهض مبتسمًا وذهب، انتظرته طويلًا وتسلّلت خارجًا، ولم يَر «جوازي» أحد، كما لو كان المبتسم يعرف قلقي وأعفاني منه. أوصلني «سائق ليل» إلى فندق في منطقة الحمرا.
سرت في صباح اليوم التالي باتجاه البحر، قصدت «مركز الأبحاث الفلسطينية»، القريب من الروشة، متطلعًا إلى لقاء الدكتور أنيس صايغ مدير المركز الذي أشهر المركز ووسّع به شهرته، وهو العالم السياسي والمفكر القومي، كما كان يقال، و«الطبراني القح» الذي اعتبر «طبرية سيدة العواصم»، في سيرته الذاتية «أنيس صايغ يتكلم عن أنيس صايغ». كان قد نشر لي في مجلة المركز «شؤون فلسطينية»، وأنا مقيم في باريس، دراسات صغيرة، منها تعليق على كتاب «إسرائيل في الضمير اليهودي»، وجّه تحية إلى «أرض الميعاد» ـ أي «فلسطين اليهودية»، التي حلم بها يهود رحلوا منذ زمن سحيق، وآخرون لم يُولَدوا بعد، ودراسة عنوانها: «الماركسية والصهيونية قطبان لا يلتقيان»، اعتبرت أن موضوعية الأولى تقطع مع زيف الثانية، قبل أن تبرهن الأزمنة أن موضوعية المعرفة وَهْم عقول بريئة، تسطو عليها كآبة لاحقة.
قال المسؤول الإداري الأميل إلى الامتلاء الذي انتهى إلى دولة خليجية: عسر مالي في المركز لا يسمح بتوظيف أحد. عاد ولطّف نبرته وقال: هذا من شؤون المدير وأشار إلى الاتجاه. كان صايغ، كما سيكون دائمًا، مقتصد الكلام: سنرى فيما بعد، قال وأعطاني كتابًا بالفرنسية: آملًا إنهاء مراجعته في أسبوع. كان الكتاب «فلسطينيو الصمت» للفرنسية المتصهينة كلارا مالرو، التي تحدثت عن شعب لا وجود له، جدير بالشفقة. بعد قراءة المراجعة نهض الأستاذ وأخذ بيدي وعرَّفَني المكتبةَ، التي كان يزوّدها بمراجع مختلفة اللغات وسطا عليها الإسرائيليون بعد احتلال بيروت عام 1982م. صيَّرَ دأبُ صايغٍ المركزَ ظاهرةً «علمية» وجعل منه مرجعًا معرفيًّا للصراع العربي- الإسرائيلي، بلغة قديمة، ينقض الارتجال وتمارين البلاغة. أشار صايغ إلى مركز الأبحاث في سيرته الذاتية، وسرد مأساة مركز توثيقي نهبه الإسرائيليون، وأسرف أهله في إهماله، حملت سفينة بقاياه من بيروت إلى اليمن ولم يستقبلها أحد، فعادت إلى تونس ومنها إلى قبرص، وتُنسَى لتضيع بين قبرص وبيروت، ويتبدّد جزء من الذاكرة الفلسطينية.
اتفقت مع صايغ أن أعمل باحثًا غير متفرغ، أُسهِم بدراسة شهرية في «شؤون فلسطينية»، أوزِّعها على قضايا إسرائيلية، تطبيقًا لمبدأ: «اعرف عدوك»، وعلى ظواهر أدبية فلسطينية، تطبيقًا لمبدأ: «اعرف نفسك قبل أن تعرف الآخرين». أفضى المبدأ الثاني إلى نقد أدبي غلب فيه التجريب المضطرب على المعالجة الواضحة، مرّ على إميل حبيبي و«متشائله»، وجبرا إبراهيم جبرا وبطله وليد مسعود، الذي تضيق به الأرض فيرفع هامته إلى السماء، والشاعر توفيق زياد، الذي كان سياسيًّا احترافيًّا يقرض الشعر التحريضي في أوقات الفراغ،… خالطتْ نقديَ الأدبيَّ، في مراحله الأولى، أوهامُ شابٍّ اعتقد أن الشهادة الأكاديمية العالية تفرز معرفة صافية، مثلما يفرز الكبد عصارته الصفراء. ومثلما كسا الزمن طموح الكتابة بطبقة من الوهم السعيد، كان على الزمن الصبور أن يزيل الوهم بالتعقل، وأن يحوّل النقد إلى مساءلة مفتوحة.
قال لي أنيس صايغ في البداية: «أنا أقدر الإخلاص في العمل، وأتساهل في التفاصيل». كانت الجملة مزيجًا من الثناء والنصيحة، تبعث على النقد الذاتي ولا تجهر بنقد مباشر. دفعتني، في الحالين، إلى التعرّف إلى النقد الأدبي في «النظرية الأدبية»، بدلًا من اشتقاق النقد من مقولات فلسفية مجردة، وإلى الاعتراف بالنصوص الأدبية المشخصة، قبل الركون إلى نقاد- فلاسفة، حال جورج لوكاتش ولوسيان غولدمان وآخرين واسعي الأسماء. نشرت، آنذاك، في شؤون فلسطينية دراستي الأولى، الغامضة، عن جورج لوكاتش. أقامتْ أولوية الإخلاص على أخطاء الكتابة بيني وبين صايغ صداقةً مسؤولة، شملت عامين في المركز 1975 – 1976م وتعاونًا قصير العمر، بعد مدة قصيرة، في مجلة المستقبل العربي الصادرة عن مركز دراسات الوحدة العربية. استقال صايغ من مركز الأبحاث احتجاجًا على «المحسوبيّة» وتقييد الحرية، فقد خلط أصحاب النفوذ بين العمل المنتج والانتفاع السهل، وتدخلوا في سياسة إدارية تضع كفاءة البحث فوق الأهواء الشخصية. ولم تكن استقالته غير المتوقعة من المركز الثاني «الوليد» إلا احترامًا لمبادئ، دعته إلى الاستقالة من المركز الأول.
لست فدائيًّا ولا بطلًا
ما زلت أذكره بقامته القصيرة وشاربه السميك وأناقته الرسمية ويده المستريحة في جيبه، التي اقتلع منها «طردٌ إسرائيليٌّ متفجِّر» أصبعين وألحق ضررًا بعينيه. حين انتبهت للمرة الأولى إلى ما ألحق به الإسرائيليون من أذًى قال مبتسمًا: «لا تتوّهم، أنا لست فدائيًّا ولا بطلًا، أنا مدير مركز يكشف السياسات الصهيونية». مهما يكن تعريف البطولة، وهو ربما الجهر بالحقيقة فقد كان أنيس بطلًا في إتقان العمل المخلص، وفي آداب المعاملة والتعليم. وكان لي بطلًا كمعلّم يرشد تلميذًا يريد أن يكون باحثًا.
كان حريصًا على صورة مكان العمل. يأتي صباحًا إلى المركز قبل غيره، يمر بحارس المركز، ويصعد الدرج متفقِّدًا نظافته، ويعرج على المكتبة ويطمئن على جديد الكتب الوافدة بلغات مختلفة، ويتأكد أن «أماكن الاستراحة» نظيفة كما يجب أن تكون، ويعهد إلى أصابعه «المتبقية» بمعاينة المكاتب، كان يتطيّر من الغبار سواءٌ أكان ذرات فوق أوراق ومجلات، أو بشرًا يهدرون الزمن ويتهاونون في الكتابة. وكان له حرص موازٍ على إنجاز العمل في موعده، يُعالِن بجدّية ومسؤولية غير مألوفتين.
لا أذكره إلا وذكرت معه صيغة كتابية ثابتة: «عطفًا على اتفاقنا…» التي كانت تستقر في رسالة تسلم باليد، تحدّد موعد تسليم العمل المطلوب وعدد صفحاته وكلماته مع ملاحظة، لمن لا يعرفونه، أن الصفحة 300 كلمة والسطر من عشر كلمات، تتبعها رسالة شكر بعد إنجاز العمل، وأخيرة تَأْمُل استمرارَ التعاون يرافقها، عادةً، العدد الجديد من «شؤون فلسطينية»، الذي يجب أن يصدر في أول كل شهر، بلا تأخير. في سنواته الأخيرة ضعف بصره كثيرًا، وأنفق أكثر على أطباء العيون، وبقي مخلصًا لطبرية وأصول المعرفة مرددًا بشجن: لا يصح إلا الصحيح.
مفكرًا طليقًا وإنسانًا متسامحًا
التقيت، ذات مرة، وأنا خارج من المركز، المفكر السوري الدكتور صادق العظم، وأعرب عن ارتياحه لصيغة «العمل غير المتفرغ»، وألمح إلى أنيس وانضباطه المتشدّد وأطلق، كعادته، قهقهة متمدّدة مشتقة، ربما، من قامته المديدة وعفويته المستديمة، التي لا يكدّرها نقد ولا يستفزها تعريض. كان يردّد مرتاحًا: «لكل إنسان رأيه، والمشكلة الكبرى بين الفكر النقدي والفكر الذي روضته العادات». أنجز صادق أطروحة دكتوراه في الفلسفة في إحدى الجامعات الأميركية، عن الفيلسوف الألماني «كانت» صاحب الكتابين الشهيرين: نقد العقل المحض، ونقد مَلَكة الحُكم. لا غرابة أن يكون النقد من مفرداته الأثيرة، وأن يضعه في عناوين كتبه: النقد الذاتي بعد الهزيمة، نقد الفكر الديني، نقد فكر المقاومة الفلسطينية،… ولعل اتخاذ النقد منهجًا في التفكير، هو الذي جعل من العظم مفكرًا طليقًا وإنسانًا متسامحًا، حرًّا بعيدًا من التكلّف، عفوي الكلام واللباس والجلوس. كان يلبس «ما تيسّر»، لا عن عوز فهو من أسرة ثرية، بل عن فخار بأصول تركية أرستقراطية تدفعه إلى القول، ولو همسًا: «يحق لأبناء العائلات العريقة أن يفعلوا ما لا يحق لغيرهم أن يفعلوه».
سألت، مرة، صادق العظم، الديمقراطي فكرًا ومنهجًا وسلوكًا: ما الذي يجعل الملتبس يهزم الواضح؟ أجاب بسؤال موازٍ: ما الذي يجعل العوام، إذا أتيحت لهم الفرصة، يتطاولون على الكرام؟ يأتي الجواب، ربما، من ذاكرة فقيرة، أو من جهل عميم، أو من فساد الأزمنة الذي يجرف كل شيء.
أذكر، اليوم، من الفلسطيني الدكتور أنيس صايغ احترام الانضباط، وآداب المعرفة، وبصيرة واسعة، وبصرًا أضعفته المخابرات الإسرائيلية، وأذكر من السوري الدكتور صادق العظم عفوية أليفة في المعيش والكلام، وصدقًا في قول الحق، وتسامحًا مع الناس، وأذكر ضحكته المتصادية بعد سنتين على غيابه… يوغل الإنسان في الذكرى حين يدرك أن ما عاشه لن يعود.
«المثقف العضوي» الشاحب الوجه
من الذين التقيتُهم في مكتبة «المركز» الباحث السوري المتميّز الراحل: ياسين الحافظ، الذي جذبه الحلم القومي وجاء من دير الزور إلى دمشق، ونقل معه مزاجًا ريفيًّا متقشفًا إلى مدينة طبعها التجارة، تعتز بها وتعتبرها بداهة إنسانية. تحصن وراء حلم دَكَّتْه هزيمة حزيران دكًّا، لم ترجع فلسطين ولا بقيت العواصم العربية سالمة. فانتقل إلى بيروت قاصدًا مراجعة الذات وتصحيح حسبانها بمعارف جديدة. كان في ذلك «المثقف العضوي» الشاحب الوجه والقليل الكلام ما يذكر بأسطورة المثـقفين، الباحثين عن خلاص الأمة، ويبتغون احترام الذات وبناء الحياة العربية على معايير عاقلة.
قرأ تجربة فيتنام وكتب عن «التجربة الفيتنامية»، وكانت فيتنام في زمن هزيمة العرب نموذجًا للثورة والانتصار، وأسهم في شؤون فلسطينية، وأنجز كتابًا عن العقلانية واللاعقلانية في السياسة مفترضًا، ببراءة، أن الثقافة تصلح المهزومين. أذكر ياسين الحافظ بقبعة تغطي رأسه في الأيام الممطرة، و«بدرَّاجة» وسيلة نقل يومية، و«بمشبكين» في نهاية «بنطاله» يسهلاّن «قيادة» دراجته. وأذكره رومانسيًّا أصيلًا، اهتدى بالأحلام، وأرهقه واقع يحتفي بالكوابيس.
بدا ذلك الزمن المتكئ على صعود «العمل الفدائي»، في سبعينيات القرن الماضي، واعدًا، تكاثرت فيه كلمات الثورة والجماهير والإنسان الجديد، وتكاملت فيه أصوات صادق وياسين وقصائد محمود درويش واجتهاد أنيس صايغ وشعارات ناجي علوش، وملصقات كثيرة لشهداء مجهولي الأسماء، لا يموتون بل يسافرون، و«كاريكاتير ناجي العلي»، الذي يقسِّم العالم إلى أبيض وأسود ويصفق لولد فقير يدعى «حنظلة»، هرب من مخيم واستشهد في مخيم مجاور، ورفع أصبعًا يأمل بالانتصار.
حسم التقدم في العمر، بنسب مختلفة، حياة المذكورة أسماؤهم، وحسم الرصاص حياة ناجي العلي، لاجئًا من بيروت إلى لندن، بعد لجوء من فلسطين إلى لبنان والكويت، واستقر في قبر في بلاد الإنجليز، أصحاب وعد بلفور. شابَ شعرُه مبكرًا، فبدا في الستين وهو في الأربعين، شاحب الوجه كان، يؤثر العزلة، دائم الاغتراب يردّد بغضب «أولاد الشلّيتة». ترجمت رسومه الساخرة غضبًا لا ينفد؛ بسبب الرقابة وحرّاس الهواء. حين زرته، ذات مرة، مع الراحل سعد الله ونوس في مكتبه في جريدة السفير اللبنانية قال: «عليّ كل ليلة أن أنجز أربعة رسوم، ليختار رئيس التحرير واحدًا منها، ولا يعترض على ما ألمح إليه، وتقبل به الرقابة التي تنشد «راحة البال». خلّف ذلك الزمن الواعد، أو بدا هكذا، وراءه ذكريات كالأطلال، أخلصت لها بعض «الذواكر»، واختصرها بعض آخر في حكايات ضاحكة عن «الرعونة والموت».
المنشورات ذات الصلة
«لُغز» الأدب الفلمنكي هوغو كلاوس حين يحوم فوق الناس «كالطير الجارح»: أنزعُ منهم نتفًا.. لأصنع منها كتبًا
ربح الكاتب والشاعر البلجيكي «هوغو كلاوس» قلوب كثيرين بسحر شخصيته وموهبته الأدبية الطاغية، لكنه كان عازمًا أيضًا على...
القاهرة… مدينة من رموز وصداقات
ما يترسّب في ذاكرة الطفولة يعيش طويلًا، تمر به الكهولة ويظل سليمًا، ويبلغ الشيخوخة ولا يشيخ، وقد تتسع أبعاده ويأخذ شكل...
الفلسطيني: صعوبات كتابة سيرة ذاتية
هل يستطيع فلسطيني أن يكتب سيرة ذاتية؟ يبدو السؤال في البداية بسيطًا قوامه ذاكرة قوية أو معطوبة وقدرة على السرد بلغة...
0 تعليق