في خضـمّ التحولات المتتابعة، الحاملة لأوضاعٍ تحاصِـُر وتخلخل موروث الحضارة الإنسانية من المنجزات والـقيَـم، تـبرزُ أسـئلة محرجة تـتصل بالإبداع في أشكاله المـتـباينة ورهــاناته الآنـية والمُستـقبلية؛ ذلك أن الشـطط في التعامل مع الطبيعة وما آلـتْ إليهِ البيئة من تدهوُر...
بسبب «المركزية الغربية» التي أثرت في دراسات الأدب في الصين، عانت دراسة الأدب الشرقي التهميشَ من ناحية العدد والنوعية. فعلى الرغم من أن الصين كانت قد بدأت في القرن التاسع عشر، الترجمة من اللغة العربية إلى الصينية، فإن ذلك لم يتجاوز ترجمة بعض سور القرآن الكريم وقصيدة...
«لغة الدين» مصطلحٌ غيرُ معروف في الدراسات الدينية والفلسفية والألسنية العربية على نطاق واسع، على الرغم من أنه أحدُ أهمّ الموضوعاتِ والأركان المحورية لفلسفة الدين الحديثة، وأن توطينَها في دراساتنا الدينية يوفر لنا مرآةً نرى فيها النصوصَ الدينية من زاويةٍ مختلفة عن...
في أوائل القرن التاسع عشر، كانت البرازيل تحت حكم الإمبراطورية البرتغالية، ثم حققت درجة من الحكم الذاتي مع إنشاء ما سمي حينها بـ «المملكة المتحدة للبرتغال والبرازيل والغرب» في عام 1815م. ولم تعلن البرازيل استقلالها إلا في عام 1822م، حين تشكلت إمبراطورية البرازيل. على...
في حديث مع الأستاذ مصطفى غلفان في أحد مطاعم الرباط منذ أشهر أشدت بالمنجز العلمي لإميل بنفينيست في مجال اللسانيات العامة بالنظر إلى دوره في إحداث الطفرة من الإبدال البنيوي إلى الإبدال ما بعد البنيوي. وهي ثورة لا تقل أهمية وشأنًا عن الثورة الكوبرنيكيَّة التي أحدثها...
تثير مجموعة «إيقاعات الجوع.. موسيقا العطش» للكاتب والقاص السعودي أحمد بوقري، أول ما تثير، عند قراءتها، سؤالًا حول «النوع الأدبي»، فعلى الرغم من تصنيف الكتاب وفقًا لغلافه بوصفه «مجموعة قصصية» فإننا نجدنا إزاء قصٍّ يتجاوز سمات النوع القصصي بمفهومه التقليدي في كثير من نصوصه مقتربًا من النوع الشعري مع احتفاظه ببنية القص في آنٍ. في قصِّ أحمد بوقري نعاين ذاتًا تسافر في الوجود في رحلة بحث ممتد في «المكان»، ثم ما تلبث أن تتجاوز هذا المكان الذي تبحث فيه وتستكشفه، لتُوغِلَ فيما هو أعمق، لتدخل في حالة بحث وتأمل وجودي ممتدّ، بما يسفر عن طموح جامح للذات في أن تمتلك شفرات هذا الوجود وتسبح في أعماق العالم.
تتجاوز نصوص أحمد بوقري الاعتماد على «الحدث» أو تصاعدية الأحداث أساسًا للبناء العضوي للقص، رغم وجود هذا الحدث، إلى الاعتماد على «الموقف»، فكأنّ الذات تعلن عن موقف وجودي ينطلق من مرتكز فلسفي إزاء العالم الذي تعيش فيه والوجود بمعناه الفلسفي الرحب. تبدو الذات في الخطاب القصصي لبوقري في حالة تجوال دائم، كما في النص الذي منح المجموعة عنوانها، «إيقاعات الجوع.. موسيقا العطش»، الذي تبدو الذات فيه في طور قلق وجودي، عَوَزٌ ما واحتياج ما، كما يتبدَّى من مفهومي «الجوع» و«العطش»، غير أنّ تعبيري «إيقاعات» و«موسيقا» يجعل من حالة العَوَز والشعور بالاحتياج هذه أداءً جماليًّا دافقًا بالجمل والأفكار المتفاعلة كما لجمل الموسيقا وإيقاعاتها من «هارمونية» وتفاعلية. تبدو الذات في حالة تأمل دائم لعلاقتها بالمكان وتساؤل مستمر عن مصيرها فيه وشعورها نحوه: وعندما كنت أجول في تلك المدينة المكومة عند البحر، شعرت أنني منفصلٌ عن وجوه كائناتها.. يمشي الجوع في سحناتهم كالدود.
فأنْ تجوعَ في هذه المدينة المنخورة بالعطش معناه أنك شريان آخر ينزف في أحشائها وعليك أن تداري نَزْفَك؛ كي لا تموت صريعًا على الشاطئ المتواري خلف تلالٍ من أعشاب البحر… (ص45).
ثمة وحشة ما وشعور آسيان بالاغتراب تعايشه الذات في العالم المديني، ولنا أن نلاحظ أن المدينة التي تتحدث عنها الذات الساردة تأتي من دون تسمية، بما يتسم مع إستراتيجية أحمد بوقري السردية في اعتماد «الموقف» بدلًا من الحدث، ثمة نزوع، في أغلب نصوص أحمد بوقري، نحو «التجريد»، تجريد المكان والزمان من أية تعينات بالتسمية. ثمة شعوران متآنيان يلازمان الذات في تجوالها بالمدينة: الانفصال عن كائناتها، وتبدي الجوع، بما يعنيه من العَوَز والاحتياج، على وجوه كائنات المدينة. إذن يمتزج شعور الاغتراب بالعوز والنقص، ليؤكد إحساسًا بلفظ المدينة لكائناتها وعدائيتها لهم.
وبمتابعة حركة الضمائر في النص السابق نجد التفاتية من ضمير المتكلم الفردي إلى ضمير المخاطب الفردي، كأنّ الذات تستحضر مُخَاطَبًا آخرَ افتراضيًّا، أو كأنها تُحادِث نفسَها، في مناجاةٍ ذاتيةٍ تُجرِّدُ الذاتُ فيها من نفسِها آخَرَ تبوح له بما يُداخِلها من مشاعرَ وتمثلات نفسية، فيما يمثل حالةً انشطارية تعيشها الذات تدخل فيها في مداولة ذاتية. وتبدو الذات في الخطاب السردي لأحمد بوقري في حالة حركة دائمة وسير مستمر بالمكان، كما في نص بعنوان: «سقراط في الشوارع».
أحمد بوقري
تبدو الذات في فيضها التأملي في حال ما بَيْنَ بَيْنَ، بين الغفو والصحو، أي تكاد تكون في منطقة برزخية بين الوعي واللاوعي، فنجد الصوت السارد قد دخل في طور مما يمكن أن نسميه «سَقْرَطَة» الذات أو «التماهي السقراطي» الذي تتخذ فيه الذات هيئة سقراط في هيامه على وجهه وتجواله بشوارع مدينته أثينا محاولًا هدم الأفكار البالية في عقول الناس والشباب وتأسيس وعي جدلي لديهم، كأنّ الذات تشعر بفساد أَثِينيٍّ يُهيمِن على مكانها. أما تمثلُ الذاتِ نفسَها تسير محنيةَ الظهرِ وتخوض الشارع عاريةً، فيؤكِّد حالة التماهي السقراطي والشعور برغبة عارمة في تطهير المدينة ومقاومة الفساد الفكري. كأنّ الذات تريد أن تعيد تشكيل الوجود باحثةً عن يُوتُوبْيَاها المثالية.
في نصوص أحمد بوقري القصصية نجد حضورًا متمددًا للذات ومتعدد الهيئات، كما في نص «ظلام في الظهيرة». يبدو أنّ للذات، في تمثلها نفسها وفي معاينتها حضورها، ذاتًا فائضة، هي ذات شَبَحيَّة، ذات حضور ظِلِّيّ تراود الذات الموضوعية من حين لآخر، ولكن لِمَ تبدو تلك الذات الظِّلِّيَّة برائحة الأدغال والفيافي؟ هل هي رغبة من الذات في العودة للطبيعة الأولى في بكارتها ونقائها وصفائها؟ هل هو سعي للوجود في مكان رحب يشعر الذات بالفساحة ولا تناهي الوجود؟
ومما يتبدى من استعمال ضمائر الغائب، هنا، أو في استعمال ضميرَيِ المتكلم الفردي أو المخاطب الفردي أحيانًا، في تعبير الذات عن نفسها، أنّ الذات تعاين نفسها من زوايا متعددة، كما يشي استعمال ضمير الغائب بأنّ ثمة رغبة من الذات في أن تعاين نفسها من على بعد ومسافة تسمح لها بتأمل أناها. ويسمح ضمير الغائب للذات أن تعاين نفسها بقدر ما من الموضوعية في علاقتها بأناها وبالعالم: يأتيه النادل بكأس مترعة بالشاي، ينبعث دخانها ممزوجًا برائحة النعناع.. يرتشف منه ببطء وينظر ساهمًا إلى اللاشيء. الحركة والضجيج البشري الذي يخبط الرصيف أمامه لا يلتفت إليه بل يستغرق ناظرًا إلى السماء الفارغة بتجريدية مطلقة. تتقد عيناه كجمرتين، ثم فجأة ينتزع ورقة بيضاء من حقيبته المهترئة بين قدميه. تمتطي أصابعه قلمًا متآكلًا ويأخذ بتدوين سطور متشابكة بادئًا من منتصف الورقة.. تاركًا النصف الأعلى كسحابة بيضاء تظلل كائنات الحروف المتلاصقة. (ص49).
في خطاب أحمد بوقري القصصي تتوازى علاقة الذات بالعالم مع علاقة الذات بالكتابة، فيبدو التطلع إلى «اللاشيء»، الذي قد يعني تأمل العدم بمثل ما قد يعني تأملًا منفتحَ الأفقِ. أما الكتابة بدءًا من منتصف الصفحة وتَرْك النصف الأول فارغًا فيعكس أنّ الخطاب المبثوث هو خطاب استئنافي، كأنّه «عَوْد على بَدْء»، كأنّ ثمة خطابًا سابقًا أو قولًا مطمورًا لم يُقَلْ بعد. كما تبدو علاقة الأصابع بالقلم، «حالة الكتابة»، كعلاقة الفارس بجواده، كأنّ الذات تُروِّض القلم وتمتطيه ليدوِّن لها مشاعرها وتأملاتها وتمثلها العالم الذي تعيد صياغته وتدوينه عبر فعل «الكتابة».
0 تعليق