لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير والاستنارة، فئة موجودة في كل المجتمعات والثقافات، ومتجذرة في تاريخ الشعوب والحضارات منذ القدم، وهي مطلب قائم ودائم ومتجدد، وصناعة ضرورية لكل مجتمع ولكل...
المقالات الأخيرة
فيصل السمرة: عملي الفني ليس منفصلًا عن فعلي الحياتي
تشكيلي سعودي ميزت الجرأة والبعد الفلسفي أعماله
لا يتوقف التشكيلي السعودي فيصل السمرة عن التجديد الفني بتجارب ذات عمق فلسفي، مبتعدًا من التقليدية في العرض والتصور، ما يغير من النظرة الفنية إلى العمل، فهو يهدف إلى التعامل مع التصورات الحداثية لإنتاج التشكيل. فهناك تداخل مستمر في فن السمرة بين التصوير والنحت، للوصول به إلى صناعة تشكيلية تقلب موازين العمل وتصنيفاته التقليدية المتوارثة، وهو نمط من التجريب ما بعد الحداثي، الذي يعرض للناظر أعمالا، أو أجسامًا فنية، لا يمكن نسبتها إلى شيء خارجها.
عرض فيصل السمرة أعماله في عدد من المعارض الفنية، منها: معرض أقامته له جمعية الثقافة والفنون في الرياض عام 1974م ومعرضه في قاعة روشان الذي نظمته مؤسسة المنصورية عام 2000م. تدرب السمرة في المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة والمعمار بباريس وتخرج منها عام 1980م بمرتبة الشرف، وعمل مصممًا للديكور في التلفزيون السعودي عامي 1980م و1981م ثم عاد إلى باريس للعمل مستشارًا للفنون الجميلة في متحف معهد العالم العربي ما بين الأعوام 1987م و1994م، كما أن له حضورًا كبيرًا في مجال المعارض الشخصية منذ عام 1974م وحتى اليوم، في العديد من الدول الغربية والعربية. «الفيصل» حاورته حول تجربته ومواضيع أخرى.
● يبدو الطرح الفلسفي عنصرًا أساسيًّا في أعمالك الفنية. في رأيك إلى أي حد يمكن أن تخدم الفلسفة الفن؟
■ الفلسفة هي وسيلتنا في فهم الحياة بعمق وبالتالي نستثمر حياتنا المؤقتة في إفراز رؤية متصلة ومتجددة في كل زمن ومكان على حسب من يتناولها، والفن هو عيش تلك الحياة بكثافة من خلال رؤيتنا الفلسفية لها. وبما أني أرى أن العمل الفني هو امتداد طبيعي ومكثف لفعلي الحياتي فهو بالضرورة مرتبط برؤيتي الفلسفية.
● تجمع بين المكونات المتناقضة من واقعية وافتراضية عند اشتغالك فنيًّا، فيشعر المتلقي لأعمالك بديناميكية مدهشة ينتمي معها إلى مكوناتك الفنية، فما هدفك من ذلك المزيج؟
■ في البدء كان المزج، الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان من طين ثم نفخ فيه الروح ليصبح لدينا ما سمي إنسانًا، مزيج بين الروح ونقيضها، الجسد في حيّز معلوم ومحدد، لذلك الإنسان بعينه لا يشاركه فيه أحد، وله بما يسمى هالته اللونية الخاصة به، حتى عندما ينفصل النقيضان بالموت، ليعودا ويتساكنا مرة أخرى عند البعث.
كل الأشياء لا يتحقق وجودها إلا بوجود نقيضها، والأمثلة موجودة من الإنسان إلى كل الكون، الحياة والموت، الليل والنهار، السالب والموجب، الخير والشر، الحب والكره إلخ. وهكذا أيضًا، بطبيعة الحال، في عملي الذي، كما قلت، هو امتداد لفعلي الحياتي وبالتالي فهو لا بد أن يكون مزيجًا بين نقيضين لكي يتحقق. الكتلة وهي التجسيد المادي للفعل ونقيضها الفراغ وهو العدم أو اللافعل، ثم الضوء، بشطريه، الطبيعي والاصطناعي ونقيضه الظل بشطريه، ظل (سواد) الضوء وظل (سواد) الظل (اللون) فقط. وهناك الزمن بشطريه، زمن العمل الفني الداخلي وهو زمن مطلق، والزمن الخارجي المؤقت والمتغير في الوقت نفسه، يولد ويموت في اللحظة نفسها. في آخر اليوم، ليس للوجود وجود من دون وجود متناقضاته.
مواضيع تستفزني
● يلاحظ على أعمالك جرأتها الفنية والفكرية التي ربما دعت إلى السخرية منها ثم الإعجاب بها فيما بعد. ترى كيف يمكن للتشكيلي أن يتمسك بالجرأة الفنية الإبداعية التي يؤمن بها في مقابل محاولة جعله مألوفًا؟
■ الموضوع ليس له علاقة بالجرأة بقدر ما هو متصل بشكل عضوي بالصدق في القول والفعل. وكما ذكرت سابقًا، عملي الفني ليس منفصلًا عن فعلي الحياتي، فأنا لا أخطط لموضوع عملي وأعد مسبقًا ماذا سوف أطرح للنقاش في الأعمال والمشاريع المقبلة مثل إعداد نشرات الأخبار أو برامج الطبخ. المواضيع التي تستحوذ على مشاريعي الفنية هي امتداد لتلك التي تلمسني أو تجرحني أو تستفزني أو تثيرني في الواقع المحيط بي في لحظتها الحقيقية، وعليه فهي تفرض نفسها وتسكنني إلى أن تخرج في شكلها الفني الذي يمليه صميم حقيقة تلك المواضيع، وهذا انسحب على عملي حتى منذ طفولتي وأنا أرسم على الجدران، فما كان يتفاعل ويختمر بداخلي يطفح، بعد أن يصل للنضوج، على عملي «الفني». وإذا رجعت إلى جميع أعمالي ومشاريعي ستجدين أن ما ذكرته صحيح ومتطابق مع أقوالي وأفعالي وردّات فعلي، حول ما عايشته فنيًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا وأخلاقيًّا، إلخ.
● حصلت على عدد من الجوائز عربيًّا وعالميًّا. ما أهمية تلك الجوائز التقديرية للفنان بشكل عام؟
■ قد تكون الجوائز حافزة، ولكن هذا لا يعني أنه، أي الفنان، لن يعمل إذا لم يأخذ جوائز، الأهم أنها تشعره بأن هناك من يقدر ما يفعل حتى إن كان ذلك لن يؤثر في عملية الإفراز الفني المعقدة لديه.
● تعد من الفنانين السعوديين المجددين في أساليبهم وأعمالهم الفنية وفي تسميات لوحاتهم وطرق عرضهم ومعارضهم أيضًا. كفنان ماذا يمنحك هذا التجديد والابتكار بشكل مستمر؟
■ التحول أو ما تسمينه التجديد في الشكل الخارجي لعملي الفني، هو بالنسبة لي، عملية حتمية وطبيعية في الحين ذاته، لأنها تتناسب مع شخصيتي، ونفسيتي ومزاجي العام حسب المكان والزمان، تناسبًا طرديًّا، وكما نعلم دوام الحال من المحال. والأساس في عملي الفني، منذ أن بدأت كطفل «بالشخبطات» بالفحم على الجدران، لا شعوريًّا، حتى الآن، الشكل الخارجي متحول والحس الداخلي ثابت، على أساس نظرية الثابت والمتحول.
● تؤمن بمفهوم «الصناعة» التشكيلية في الفن لتأسيس علاقة مغايرة مضادة للطرق التقليدية في الصناعة الانطباعية المباشرة للوحة مثلًا. من وجهة نظرك ما قيمة الصناعة في الفن وما عوائده الإبداعية؟
■ ما تسمينه بـ«الصناعة» أسميه بـ«الفعل» وما أقصده هو تجسيد الفعل كشكل ومضمون، في الحين عينه، للعمل الفني وهو ما أظهرته بوضوح في مشروع «الطية» الذي عرضته في معرض شخصي في معهد العالم العربي/ باريس ١٩٩١م. الطية هي الأثر أو المنتج المادي لفعل الطي والزمن الذي استغرقه ذلك الفعل، ومجموع تلك الأفعال الصغيرة شكلت في النهاية العمل الفني. وهذا المشروع له قصة تتقاطع مع الفيلسوف الفرنسي جيل دلوز وكتابه Le Pli. في واقع الحال أن الفعل، كان وما زال، له حضور قوي في عملي، سواء كان ماديًّا أو افتراضيًّا، وذلك، كما قلت في البداية، إن عملي الفني هو امتداد لفعلي الحياتي.
● تتخذ لدى عرض أعمالك الفنية أشكالًا وطرائق عرض مختلفة وغير مألوفة لعين المتلقي ومفاجئة لما اعتاده وعيه من طرق عرض تقليدية ذات قوائم وقوالب هندسية. ماذا تريد أن توحي للمتلقي؟
■ الإناء بما فيه ينضح، أنا لا أخترع طرقًا جديدة للعرض وما إلى ذلك بحثًا عن غير المألوف أو بما يسمى عندنا (جهلًا) التغريب، كل ما في الأمر أني أستمع بإحساس لما يطلبه العمل الفني بعد انتهائي من إنجازه وهذا لا يعني بالضرورة أنه وصل إلى الكمال أو الانتهاء فهو، عندي، لا يكتمل أو ينتهي أبدًا وإنما قد يكتفي، العمل نفسه يطلب وبالتالي يفرض طريقة تظاهره «عرضه» وكيف يريد أن يقدم نفسه وأنا أصبح مجرد منفذ لطلباته، فهو، أي العمل الفني، بعد خروجه من يدي يصبح كائنًا منفصلًا يعيش حياته بنجاحها وفشلها. وهذا الرد يرد، في الوقت نفسه، على موضوع التلقي والمتلقي، بمعنى أنه موضوع يخص العمل الفني ولا يخصني، فعندما نتلقى أو نشاهد عملًا فنيًّا، أيًّا كان، فإنه، أي العمل الفني، يستيقظ لنا ثم يعود إلى النوم بعد أن نغادره، وفي هذا الزمن ينجح أو يفشل في التأثير فينا، حسب المتلقي في الزمان والمكان.
المجاز في زمن الصحوة
● حدثنا عنك مع عملك الفني، وهل سبق وقررت تغيير فكرتك الفنية فجأة وأنت تعمل على إنجازها؟
■ عندما عدت إلى الوطن بعد إنهاء دراستي عام ١٩٨٠م كان قد بدأت لدينا، ما سمي فيما بعد، الصحوة كرد فعل لتطرف الثورة الإيرانية الخمينية التوسعية، وقد انتشرت الصحوة في غالبية الدول العربية والإسلامية السنية، ولكنها تركزت لدينا في السعودية، وذلك ما أدى إلى تشدد الرقابة الدينية والاجتماعية والسياسية على المنتج الثقافي والفني… مأزقي كان، في ذلك الوقت، هو كيف أنتج عملًا فنيًّا يتحاشى تلك الرقابة الصارمة وفي الحين نفسه، يحافظ على رؤيتي وشخصيتي الفنية التي جهدت وقاسيت الكثير من التعب والإهانة والسخرية من أجلها؛ للوصول إلى الإعجاب والتقدير، لكي يحصل مشروع تخرجي، «دراسات ميتافيزيقية – حبر على الورق»، على درجة الامتياز من أعرق مدرسة فنون جميلة في أوربا، وأساس ما تعلمناه هو ليس هناك رقابة وتابو في الفن، المهم أن ما يطرح يكون في صميم وخدمة الضرورة الداخلية للعمل الفني. كيف أقفز على موضوع التشخيص الذي كان العمود الفقري في عملي، فكنت أمزج بين التشخيص الواقعي المعتمد على الموديل والتحوير الفانتازي للوصول إلى الميتافيزيقا البصرية، كما أستعين لذلك في المزج بين الضوء الطبيعي والاصطناعي، وكان الحل الذي وصلت إليه «المجاز»، زرع تقنيتي، السابق ذكرها، ضمن رؤية مجازية واضحة ومستترة في الوقت عينه، «اللبيب بالإشارة يفهم». وقدمت أول معرض شخصي، بعد عودتي، بتلك الرؤية، في صالة روشان للفنون في جدة ١٩٨٥م، وعرضت فيه أعمالًا صريحة وصادقة ومفاهيمية في الوقت نفسه وصادمة كما نعتتها الصحافة في ذلك الوقت. وهي كذلك حتى مع مساحة الحرية التي لدينا اليوم فما بالك في تلك الأيام الشديدة، ومع ذلك فقد مرت من لجنة الرقابة التي تفحص الأعمال الفنية قبل أي معرض، والسبب أنه لا يوجد في العمل أي مخالفة لمصنفات الرقابة ولكنه كان يقول ماذا يريد بكل تحضر ودون وقاحة.
أعتقد جازمًا، أن باب المجاز في الفن الذي فتحته في بداية الثمانينيات، وما زلت أنتهجه في عملي الفني، دخل منه الكثير من الفنانين الشباب الموجودين الآن، في المنطقة والوطن على وجه الخصوص. فبعد أن كنت فردًا واحدًا في عام ١٩٨٠م يدعو للتجديد والانتقال إلى ما بعد الحداثة في مقابل فناني التيار التقليدي المحافظ الذي كان يشكل كل المشهد الفني، أصبحنا نحن اليوم مع غالبية جيل الفنانين الشباب السعودي نشكل المشهد الفني والثقافي، وذلك يبهجني ولكن بتحفظ فما زال الطريق طويلًا وصعبًا أمامنا لكي نصل لما نستحق. وتحفظي لأني أخشى من التسرع والغرور. وهما الإحساسان اللذان أتجنبهما، أيضًا، عند تنفيذ عملي الفني. فخلال الحوار الجدلي المعقد مع فضاء ووسيلة العمل الفني، أيًّا كانت، ورقة، قماش لوحة، تركيبًا فراغيًّا ماديًّا أو صوتيًّا أو سمعيًّا، مادة نحتية، مشهدًا فوتوغرافيًّا ثابتًا أو متحركًا (فيديو)، تحدث أشياء و«مصادفات» كثيرة بعضها مفيد وحقيقي لتنفيذ العمل على أفضل نتيجة وبعضها الآخر ثرثرة زائدة ووهمية تثقل العمل وقد تأخذه إلى الفشل في النهاية، ولكنها جذابة في لحظة حدوثها فقط، وهنا تأتي مقاومة وتجنب التسرع، والاستغناء عن تلك المصادفات لصالح العمل، ولكنها تصبح تجارب يحتفظ بها لاستخدامها في عمل آخر تكون في مكانها المناسب. عادة يكون هناك إطار عام لمشروع العمل الفني الذي أعمل عليه، وفي داخل هذا الإطار هناك هامش كبير للارتجال والتجريب.
● ما رسالتك التي تريد توجيهها إلى مؤسسات الثقافة والفن الوطنية؟
■ أود أن أسجل استغرابي، فبعد أكثر من أربعين سنة في العمل الفني، وبعد مشاركتي في محافل فنية عربية وعالمية باسم الوطن منذ السبعينيات، التي حتى الوطن لم يكن يعلم بها، وما زلت أواصل عملي وحضوري على المستوى المحلي والإقليمي والعالمي، وذلك ما صنع، وما زال يصنع، جسدًا ضخمًا من العمل الفني الذي بحوزتي، ذلك عدا الأعمال المبيعة والمقتناة محليًّا وعالميًّا، إضافة إلى النصوص الفنية والنقدية الصحفية والوثائق والصور التاريخية، أستغرب أن كل ذلك لم يدفع إلى الآن أي جهة أو مؤسسة في الوطن لأن تهتم به وتقدر هذه الثروة الفنية الثقافية الوطنية. وأتساءل: لو كنت تابعًا لإحدى الدول الغربية، وهو الأمر الذي رفضته منذ شبابي هناك، ماذا كانوا سيفعلون لهذا المخزون الفني الثقافي؟ أريد أن أطرح هذا السؤال على من يهمه الأمر في الوطن، وما أنتم فاعلون وأنا في الستين من العمر، أم ننتظر، كالعادة، بعد الذهاب نكرم، هذا تأبين وليس تكريمًا. إن تحضُّر ورُقيّ أي أمة يقاس بمدى تقديرهم واحترامهم لمبدعيهم في أي مجال، ومحافظتهم على إرث هؤلاء المبدعين؛ لأنها الثروة الوطنية الحقيقية.
المنشورات ذات الصلة
التشكيلية السعودية غادة الحسن: تجربتي بمجملها نسيج واحد... والعمل الفني كائن حي وله دوره في الحياة
تصف الفنانة التشكيلية السعودية غادة الحسن، المتلقي الواعي بأنه شريك للفنان بتذوق العمل الفني وتحليله وإضافة أبعاد أخرى...
تجربة التشكيلي حلمي التوني خريطة رؤيوية لمسارات محددة نحو بلوغ الحياة الحقيقية... وقنص جوهرها الصافي
على امتداد رحلته الثرية في حقول الفن المتنوعة، تمكّن التشكيلي المصري البارز حلمي التوني، الذي ترجّل عن دنيانا في...
المخرج الجزائري سعيد ولد خليفة: ما يثير اهتمامي دائمًا هو المصاير الفردية للأبطال اليوميين... وفي الجزائر المقاومة كانوا يُعدون بعشرات الآلاف
يملك المخرج الجزائري سعيد ولد خليفة تصوّرًا مختلفًا للسينما، تشكّل من خلال تقاطع حياته الشخصية المصقولة على نار الغربة...
0 تعليق