كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
عامر التوني: المستقبل للموسيقا الصوفية فقط
أغنياته جمعت ما بين التراث الفرعوني والإسلامي والصوفي
عُرِفت المولوية بأنها طريقة الأداء الصوفي الذي وضعه مولانا جلال الدين الرومي في مدينة قونية في القرن الثالث عشر، وانتشرت بوصفها طريقته في السماع والأداء الحركي حيث الدوران حول الجسد، بما يمثله من رمزية الأحادية والتوحيد حين يقف الراقص رافعًا يديه بشكل متقاطع مع جسده وسط الحضرة، ورمزية الربط بين السماء والأرض حين يرفع الراقص يدًا نحو السماء كأنه يأخذ منها، ويده الثانية تميل نحو الأرض كأنه يعطيها، في حين عُرِفت العباءة السوداء بأنها القبر، واللبدة الصوف كشاهد للقبر، والملابس البيضاء بوصفها النقاء الذي ينتقل إليه المُريد أو الراقص حين يتخلص من علائق الدنيا وأسبابها. وبينما يدور المريدون في حلقة فإن الشيخ يجلس في المنتصف منشدًا قصائده في حب الرسول صلى الله عليه وسلم، أو نافخًا في نايه ليهذب الروح وينميها، ليمضي الثلث الأول في السلام الملفوف حسبما يقول الفنان عامر التوني مؤسس المولوية المصرية، الذي أقام عشرات الحفلات في مختلف بلدان العالم، وأدخل إضافات تأثرت بها المولوية في مختلف البلدان.
يقول عامر التوني لـ«الفيصل»: إن المولوية تبدأ حلقة ذِكْرها بالسلام الملفوف، حيث الإنشاد من دون إيقاع، ثم الإنشاد على إيقاع بطيء يعرف بالصمودي الكبير، بعده يرتفع الإيقاع إلى ما يعرف بالإيقاع المقسوم، ثم تزداد سرعة الإيقاع إلى نهايته، وهو ما يعرف بالإيقاع الملفوف، وهذا التركيب بتصعيداته يعرف بالسلام المولوي. هكذا كانت المولوية التي أسسها صاحب المثنوي جلال الدين الرومي، أو حسبما قيل إنه تعلمها من أستاذه شمس الدين التبريزي، ومن ثم انتقلت كطريقة صوفية قائمة على السماع من قونية إلى الهند وسوريا ومصر والمغرب، وظلت تعرف في التكايا وحلقات الذكر بالمولوية، نسبة إلى مولانا جلال الدين.
وفي الوقت الذي بدأ يتقلص فيه حضور المولوية حتى في تركيا نفسها، إذ حظرت الأخيرة الطرق الصوفية على أراضيها، ولم تبق إلا على المولوية كنوع من الفلكلور، في ذلك الوقت، وتحديدًا في منتصف التسعينيات، ظهرت فرقة المولوية المصرية التي أسسها المغني والملحن عامر التوني، والتي احتفت بتراث المولوية وانتشرت به في مختلف بلدان العالم، حتى إنها أقامت حفلات في أكثر من ستين دولة، بداية من الهند وبنغلاديش وباكستان وتركيا وسوريا ولبنان والمغرب والجزائر وتونس وفرنسا وإنجلترا وإسبانيا وبلجيكا وغيرها، وأنتجت وفق ما قال أكثر من ثلاثة أقراص مدمجة محملة بعشرات الحفلات التي غُنِّيَ فيها لكبار المتصوفة، بداية من الحلَّاج والسَّهْرَوَرْدي والرومي ورابعة العدوية وغيرهم.
الدوران حول الجسد
أصرَّ التوني على تسمية فرقته بالمولوية المصرية، موضحًا أن مصر عرفت المولوية قبل جلال الدين الرومي وزمنه بمئات السنين: «فقد عرف المصريون القدماء الدوران حول الجسد في رقصاتهم التعبدية في المعابد، كما عرفوا السماع سواء لآلات النفخ كالمزمار أو الإيقاع كالدف والرق، فضلًا عن التراتيل التي كانت تتلى لإرضاء الآلهة. وكان ذلك كله يدور في مكان مخصص للعبادة أو التعبد بشكل احتفائي، وهو الشكل نفسه الذي وضعه الرومي في جلسات ذِكْرِهِ، بداية من استخدام أدوات الموسيقا وصولًا إلى الذِّكْر وقصائد الوَجْد مرورًا بالرقص والدوران حول الجسد، ومن ثم فهذا التراث به جانب مصري، ولم يبتكره جلال الدين الرومي وقتها، لكنه استقاه من الحضارات السابقة عليه، والمعاصرة له في وقته، ومن ثم فنحن لا نقدم المولوية التركية ولكن المولوية المصرية».
ويذهب التوني إلى أنه أضاف للمولوية الجانب الأصيل الذي لعبت عليه الحضارة المصرية القديمة وهو اللون، «تم تفكيك اللون الأبيض إلى الألوان السبعة المشكِّلة لقوس قزح المصري، حيث شعاع الشمس المحتفى به في الثقافة المصرية، ومن ثم حملت تنورات الراقصين وصدرياتهم ألوان قوس قزح، ولاقت قَبولًا في مختلف بلدان العالم، حتى إن الأتراك أنفسهم تأثروا بها، وأدخلوا الألوان على ملابس راقصيهم». من ناحية، يرفض التوني القول: إن المولوية هي التنورة، موضحًا أن التنورة ليست للتعبد ولا التصوف، «لكنها شكل استعراضي يؤدى في الشارع حيث افتتاح المعارض والمحلات وحفلات الزواج وغيرها، أما المولوية فهي شكل صوفي تعبدي، لا بد أن يكون للمكان خصوصيته، فالمُنشِد أو المغني أو الراقص يسعد بحال وَجْده، والجمهور الذي يشاهده لم يأتِ ليراه ولكن ليسعد معه بحاله، ومن ثم فهو لا يقوم على إمتاع الجمهور كما في التنورة، ولكنه يقوم على السعادة بحاله الصوفي، والجمهور يسعد معه بهذه الحال».
المولوية التركية مجرد تنورة
ويقول التوني: إن المولوية التركية الآن أصبحت تنورة وليست مولوية؛ «لأن الأتراك حظروا عمل جميع الطرق الصوفية، وحين سمحوا للمولوية أن تعمل كان من باب الفلكلور وليس التصوف، كما أن الذين يقومون بالمولوية هناك الآن هم رجال ليسوا من المتصوفة، ومن ثم فالحال الذي نبحث عنه في المولوية غير موجود، ولم يبقَ سوى الشكل الاستعراضي، أي التنورة». ويشير إلى أن الحفلة لديه يشارك فيها ما بين سبعة عناصر واثني عشر عنصرًا، وذلك حسب اتساع المكان وضيقه، وأنهم يتوزعون ما بين موسيقيين وراقصين فضلًا عنه هو بوصفه المُلحِّن والمغني والقائم على اختيار القصائد المغناة ومؤسس الفرقة ودليلها الرُّوحي. ويوضح أنه بصفته أحد أبناء الصعيد فقد نشأ على السماع في حلقات الذِّكْر، حيث تنتشر الطرق الصوفية في الصعيد ما بين الشاذلية والرفاعية والبيومية وغيرها، وحيث يُستعمَل الجسد في أثناء الذكر بالتمايل والدوران حوله، وحيث تتنوع أساليب كل طريقة في أدائها وطقوسها، كل هذا جعله ينتبه إلى القصائد الصوفية وإلقائها وسماعها وغنائها، فلما دخل الجامعة حرص على أن يكون في قسم اللغة العربية، وكانت القصائد والمعلقات التي عليه حِفْظها كثيرة. ويذكر أنه حصل على دبلوم دراسات عليا من أكاديمية الفنون، ثم ماجستير في المسرح العراقي، ثم دكتوراه في المولوية من أكاديمية الفنون أيضًا. وفي عام 1994م كان مالكًا لشركة إنتاج أعمال فنية، ولم يكن في مخيلته أنه سيبتكر المولوية المصرية، لولا أن المشيئة الإلهية أرادت أن تتوقف شركة الإنتاج، ويظهر له في الأفق فجر المولوية، فاستدعى تراثه المصري القديم والصوفي في الصعيد، والثقافي في تركيا وإيران إبَّان القرون الوسطى، وقدراته على الغناء والتلحين ومعرفته الجيدة بالشعر وقصائد المتصوفة الكبار، فكانت بداية الطريق التي عوضته عن كل شيء، وفتحت له آفاق العالم أجمع.
ويلفت عامر التوني إلى أنه يسافر بفرقته إلى الخارج عبر ثلاث طرائق هي، إما دعوة رسمية له من وزارة الثقافة لتمثيل مصر بالخارج، أو دعوة مباشرة له من الخارج لإقامة حفلة، أو أن يذهب هو فيؤجِّر مسرحًا ويعلن عن حفلته ويبيع تذاكره لجمهوره، وهذه الطريقة هي الأمتع والأسهل والأربح بالنسبة له. لكنه في كل الحالات ليس باحثًا عن الربح، كما يقول، بقدر ما هو باحث عن السعادة بحاله في أي مكان. أما الآلات الموسيقية التي يستخدمها، فهي: «كولة» (آلة مصرية تشبه الناي)، والعود، والقانون، والدف، والطبل، و«كاخون» ( آلة إيقاعية)، و«دجمبي» (آلة ذات صوت عالٍ بديلة عن الدرامز). ويؤكد التوني في ختام حديثه أن المستقبل سيكون للموسيقا الصوفية؛ «لأن كل الفنون التي تُقدَّم الآن هي فنون مادية، ولا يوجد محتوى روحي إلا في الموسيقا الصوفية».
المنشورات ذات الصلة
التشكيلية السعودية غادة الحسن: تجربتي بمجملها نسيج واحد... والعمل الفني كائن حي وله دوره في الحياة
تصف الفنانة التشكيلية السعودية غادة الحسن، المتلقي الواعي بأنه شريك للفنان بتذوق العمل الفني وتحليله وإضافة أبعاد أخرى...
تجربة التشكيلي حلمي التوني خريطة رؤيوية لمسارات محددة نحو بلوغ الحياة الحقيقية... وقنص جوهرها الصافي
على امتداد رحلته الثرية في حقول الفن المتنوعة، تمكّن التشكيلي المصري البارز حلمي التوني، الذي ترجّل عن دنيانا في...
المخرج الجزائري سعيد ولد خليفة: ما يثير اهتمامي دائمًا هو المصاير الفردية للأبطال اليوميين... وفي الجزائر المقاومة كانوا يُعدون بعشرات الآلاف
يملك المخرج الجزائري سعيد ولد خليفة تصوّرًا مختلفًا للسينما، تشكّل من خلال تقاطع حياته الشخصية المصقولة على نار الغربة...
0 تعليق