المقالات الأخيرة

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند راسل الأخير «النظرة العلمية». نقتبس منها ما يلي: «يبدو الآن أنه بدأ يخشى من «المنظمة العلمية للإنسانية» (نوع من الدولة البلشفية بقيادة جي جي [طومسون]...

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

يلاحظ المهتم بالأدب الروسي أن معظم الكتّاب الروس الكبار خاضوا في ميدان الكتابة للأطفال، بدءًا من شيخ كتّاب روسيا ليف تولستوي، الذي أغنى مكتبة الأطفال وقدم كتبًا لمختلف الأعمار، هي عبارة عن حكايات شعبية وقصص علمت الحب، واللطف، والشجاعة والعدالة. نذكر منها «الدببة...

الأدب والفلسفة

الأدب والفلسفة

هناك طريقتان للتعامل مع مشكل علاقة الفلسفة بالأدب: الطريقة الأولى، طبيعية تمامًا، وتتمثل في البحث عن الدروس الأخلاقية التي يقدمها الأدب من خلال الشعر والرواية مثلًا، وذلك ما قام به أندريه ستانغوينيك في كتابه «La Morale des Lettres» (أخلاق الحروف)، وأيضًا مارثا...

برايتون

برايتون

... يصل القطار إلى «برايتون»، يعلن ذلك قائد القطار، يشاهد اللوحات الجانبية على رصيف المحطة تحمل اسم «برايتون»، خدر لذيذ يعبر رأسه، تخلبه أشتات يوم قديم، يمسك بمعصم ابنه ويسيران إلى خارج المحطة، ينحدر بهما طريق يمتد من محطة القطار ويصب في شاطئ البحر، يقف أمام البحر...

ماكس فريش وفريدريش دورينمات: صداقة عرجاء

علاقة مضطربة دامت أربعة عقود بدأتْ بإعجاب وتقدير ثمّ غـيرة وقطيعة

بواسطة | نوفمبر 1, 2018 | رسائل

يحلو للمهتمّين بالدراسات الجرمانية وصف علاقة قطبي الأدب السويسري ماكس فريش (1911- 1991م)، وفريدريش دورينمّـات (1921– 1990م)، بأنها صداقة بالكاد، وفي تعبير آخر صداقة عرجاء تسـير على ساقٍ واحدة، إما ساق فريش أو ساق دورينمات، طالما كانت هناك كِفّــة أثـقـل من الأخرى. وذلك في إشارة إلى الصداقة المضطربة التي جمعت الكاتبيْن، وشهدت على مدار أربعة عقود تقلُّبات حـادة، بدأتْ بإعجاب وتقدير متبادل، ثمّ وصلت إلى غـيرة وقطيعة تامّة في نهاية المطاف. فرغم توطّد صداقة قـويّة في بواكير أيامهما، لم تخلُ تلك الصداقة يومًا مِـن الشدّ والجذب، ومن شوائب غـيـرة مهنية، بل من تراشق لفظي عنيف أحيانًا. فوهنتْ خيوطها، حتى تآكلت تمامًا في العقد الأخير من حياتيهما.

ماكس فريش هو الأكبر سنًّا. ولد في 15 مايو 1911م في زيوريخ، وكان الابن الثاني للمعماري فرانتس برونو فريش وزوجته كارولينا فريش. عاشت العائلة في أحوال معيشية بسيطة، ثمّ ساءت حالتها المادية حينما فقد الأب عمله بسبب الحـرب العالمية الأولى. كتب فريش أولى مسرحياته في مرحلة الدراسة الثانوية بين عامي 1924م و 1934م، وحاول عرضها على خشبة المسرح، لكنه أخفق، فيئِس وأحرقها فيما بعد.

في المدرسة الثانوية تـعـرّف فريش إلى فيرنر كونينك، الذي كان والده يمتلك دارَ نشر. وقد أفادته تلك الصداقة الممتدّة في إثراء تكوينه الثقافي والمعرفيّ. بدأ فريش حياته مهندسًا معماريًّا ناجحًا، لكنه ترك الهندسة ليتفرّغ للكتابة المسرحية والروائية. شقّ فريش طريقه معتمدًا على موهبته ومجهوده الشخصي دونما تأثّر من كُـتــاب المسرح المعاصرين (ما عدا برتولد بريشت بطبيعة الحال). من بين أشهر مسرحياته «بيدرمان ومشعلو الحرائق»، و«آندورا»، ومن أشهر رواياته ثلاثيته الروائية الشهيرة التي تناولت موضوع هويّة الإنسان البرجوازي في القرن العشرين، «شتيللر»، و«هومو فابر» و«لنفترض أن اسمي جانتينباين».

أما فريدريش دورينمات فقد ولد في الخامس من يناير سنة 1921م، أي بعد مولد فريش بعشر سنوات لأبٍ يعمل راعيًا بالطائفة البروتستانتية، وتمنّى أن يسلك فريدريش الابن مساره. اشتهر دورينمات بمسرحية «مكتوب 1946»، ومسرحية «رومولوس الكبير 1949»، «والملاك يهبط في بابل»، ثمّ إبداعه الأكثر شهرةً واكتمالًا من الناحية الفنيّة، وهي مسرحية «زيارة السيدة العجوز سنة 1956»، التي تعدّ من أعظم إنتاجات المسرح العالمي في القرن العشرين.

في سنة 1998م قرّر ناشر السيرة الذاتية لدورينمات، بيتر رودِي نشر الرسائل المتبادلة بين الكاتبيْن، مـنـوّهًـا في مقدمة الكتاب بأنّ الوقت قد حان لإماطة اللثام عن الطبيعة الملتبسة لعلاقة فريش بدورينمات. جاء قرار الناشر على خلفية دراسة معمّقة لشخصيتيهما وحياتيهما؛ إذ انتهى رودي بعد دراسته إلى أنّ مواطن الاختلاف بين شخصيتهما أكثر من مواطن الاتفاق. فماكس فريش رجل عصريّ، متشكّـك، منفتح على العالم، في حين دورينمات ريفي ذو نزعة دينية، وروحٍ تأملية ساخـرة. صدر الكتاب عن دار نشر ديوجينس فيرلاج- زيوريخ بسويسرا في مئتين وأربعين صفحة من القطع المتوسط، وقد ضمّ أربعين رسالة متبادلة، شـملت الحقبة من يناير 1947م إلى مايو 1986م، فضلًا عن مجموعة من الصور الفوتوغرافية لأسرة الكاتبيْن، وصورًا زنكوغرافية لأصول الخطابات المتبادلة، إضافة إلى ملحوظات وتعليقات من جانب دورينمات على أعمال فريش والعكس. يُـصدِّر المحرِّر والناشر الكتابَ بمقولة لافتة تشير إلا أنّه رغم تواصل الخطابات بين فريش ودورينمات على مدار سنوات، فإن ذلك التواصل لم يفلح في تقريب وجهات النظر أو تلطيف العلاقة المتوتّرة بين الكاتبيْن. وهو ما قد يستــشـفّه القاري مِـن ضمـور حجم الكتاب، الذي حـوى أربعين خطابًا فقط على مدار أربعين سنة، أي بمعدل خطابٍ واحد كل عام، وهو عدد هـزيل، مقارنةً بما عُرف عـن مراسلات كبار الأدباء مثل مراسلات غوته وشيللر، أو مراسلات هيرمان هسّه وتوماس مان، على سبيل المثال. إذ وصف المحرّر والناشر حجم الخطابات المتبادلة بين الكاتبيْن بأنها «تدعو للرثاء»، قياسًا بعُمر الصداقة التي امتدت إلى ما يزيد على أربعين عامًا.

يُمكن تقسيم الكتاب إلى قسميْن؛ القسم الأول عبارة عن مقالٍ مستـفـيض بقلم المحرّر والناشر بيتر رودي، ألقى فيه الضوء على جذور علاقة فريش – دورينمات على المستوييْن الأدبي والشخصيّ، في حين احتوى القسم الثاني على خطابات فريش ودورينمات وشذرات مبعثرة وملحوظات كل منهما على أعمال صاحبه، ليُختتم الكتاب بسيرة ذاتية مفصّلة للكاتبيْن. في مقدمة الكتاب يطرح الناشر بيتر رودي تصديرًا بعنوان: «صداقة بالكاد»، وهو عنوان دالّ على الطبيعة المتوتّرة لعلاقة الكاتبيْن رغم تعدد اللقاءات وتخصيص وقتيهما الثمين للمراسلات. يعترف رودي أيضًا بتعثّره في ردم الفجوات العديدة في رصد مسار علاقة الكاتبيْن.

نشوء الصداقة وبداية المراسلة

تبدأ أولى الرسائل في يناير من سنة 1947م بمبادرةٍ من ماكس فريش الذي أبدى تحمّسًا واضحًا لموهبة دورينمات، فشرع في إرسال أول خطاب إلى دورينمات بعد قراءة مسرحية «مكتوب»، يـقول فيه: «لقد تحمّستُ كثيرًا لأعمالكَ بعد مشاهدة عرض مسرحية «مكتوب»، وأنا على استعداد لتمهيد الطريق في سبيل وصول أعمالك إلى خشبة المسرح». استقبل دورينمات الشاب آنذاك (الأصغر منه بعشر سنوات) رسالة فريش بسعادة بالغة، فكتب الرسالة الآتية: السيد المحترم ماكس فريش، غمرتني سعادةٌ بالغة حينما علمتُ أن كاتبًا لا يُبارى في موهـبة وقـامة ماكس فريش يمدّ لي يد العون». الغريب أنّ دورينمات –في السنة نفسها- كتب خطابًا إلى أحد المتخصصين في اللغة الألمانية وآدابها، يُدعى فالتر موشج يقول فيه: «الحقيقة أنني لا أفهم أعمال ماكس فريش جيدًا، فأعماله معقّدة ومتكلّفة». في الوقت نفسه قال ماكس فريش في رسالة لم تُنشر: «رغم تحمّسي للطاقة الشعرية لدى دورينمات، فإنني لا يُمكنني الجزم بأنني أفهم كتاباته جيدًا».

رغم هذه المشاعر المكتومة، سعى الكاتبان إلى توطيد أركان علاقة مـتينة من خلال تبادل مسوّدات الأعمال المسرحية. فتطوّرت العلاقة مِـن علاقة كاتب معروف (فريش) بآخـر صاعدٍ بقوة (دورينمات) إلى علاقة نِـدِّيَّة. إذ بدأ الكاتبان من سنة 1949م في تبادل مسوّدات الأعمال المسرحية. ففي مارس 1949م أرسل فريش رسالة تهنئة إلى دورينمات بمناسبة عرض مسرحيته «رومولوس الكبير»، وقد جمعت رسالته بين التهنئة والنقد اللاذع؛ حيث يقول: «تهنئة قلبية خالصة بمناسبة عرض مسرحية «رومولوس الكبير» على خشبة المسرح، ورغم أنني أرى أنها مسرحية جيدة فإن ذلك لا يمنع من أن أعرب لكَ عن ملاحظة عــنّـت لي بخصوص الفصل الرابع، فقد لاحظتُ أنّ روح السخرية داخلها «متكلّفة» أكثر من كونها «تلقائية»، يبدو أنّكَ اكتفيت بـقـفـشات من أيام المدرسة الثانوية في بعض المشاهد!» أسرّها دورينمات في نفسه ولم يُبدها، فكتب ردًّا قصيرًا يقول: «عزيزي السيد فريش، اقتنعتُ بوجهة نظركَ إلى حد ما، لكن يخالجني شعورٌ أنّ سهامَ نقدكَ مُـصـوّبة نحو هدفٍ آخـر، مخـتـلف عن الهدف الذي وضعته نصب عيني، تحياتي فريتس».

لم ينسَ دورينمات الماكر تعليق فـريش القاسي، فانتهز أول فرصة ليردّ الصاع صاعيْن. حدث ذلك حينما أرسل ماكس فريش في صيف السنة نفسها (1949م) مسوّدة مسرحية «جراف أودرلاند» إلى دورينمات رِفق رسالة قصيرة يقول فيها: «عزيزي فريتس.. مرفق طيّه الصيغة النهائية لمسرحية جراف أودرلاند، آمل أن تأخذ حريّتكَ تمامًا في التعليق وفي إبداء الملاحظات». لم يفـوّت دورينمات فرصة الردّ الذهبية، فكتب تحليلًا مفصلًا شديد القسوة، فنّد فيه فصول مسرحية ماكس فريش فصلًا تلو الآخر. تبيّن فريش النيّة المُبيّتة من وراء كتابة هذا الردّ العنيف، فحاول إخفاء مشاعره السلبية، وكتب من فوره ردًّا مقتضبًا من سطرٍ واحد يقول: «يؤسفني حقًّا أنّكَ لم تُبرز الجوانب الإيجابية داخل المسرحية».

يقول محرّر الكتاب بيتر رودي: إنّ الهجمات المرتدّة المتبادلة لم تمنع من نشوء صداقة حقيقية بين الرجليْن. ففي 8 مايو 1949م، يرسل دورينمات رسالةً ثانية إلى فريش يقول فيها: «عزيزي السيد فريش: خالص الشكر على البرقية وعلى إرسال عددٍ من مجلة Weltwoche الأسبوعية. هـل أبصر طفلكَ نور الدنيا؟ وكيف حال زوجتكَ؟ لقد سألتُ الجميع هنا عن أحوالكَ، لكن أحدًا لم يقدّم لي إجابةً. ليس لدي ما أقوله عن ألمانيا، فلا أملكُ عينًا فاحصةً مثل عينكَ، كما أنك تعرف ألمانيا أفضل مني. مرفق أعمال الكاتب فرانك فيديكِند، لا ينقصها سوى الجزء السابع، لـتعـدّها إشارةً صغيرة إلى امتناني العميق لشخصكَ، خالص التحيات القلبية لكَ ولزوجتكَ. ماكس فريش».

لطَّفَت الكلمات السابقة من سخـونة ضربات الرسائل السابقة، فتطوّع ماكس فريش لكتابة رسالة قصيرة إلى دورينمات، مؤرّخة في 14 يوليو 1949م يقول فيها: «كيلا أنسى، برجاء إرسال نسخة من مسرحية «مكتوب» ومسرحية «بيلاتوس» إلى دار زوركامب الألمانية (العنوان 31 فرانكينشتاينر شتراسِه، فرانكفورت/ ماين)، فقد تحدّثتُ مع السيد بيتر زوركامب بشأنهما، وأعرب عن اهتمامه بقراءة العمليْن. أنا هنا في منتجع كامبِن/ ستيل، المشهد باهر بين السماء الزرقاء والمياة اللامتناهية، هذا ما كنتُ أبحثُ عنه؛ عالمٌ مختلف كليًّا، تحياتي القلبية… ماكس». في إحدى الرسائل المؤرّخة في 11 مايو 1952م يقول ماكس فريش عن سبب ذيوع صيتهما خارج حدود سويسرا: «… أتعلم يا فريتس، لماذا ذاع صيتنا هكذا؟ لأن معظم الكتّاب الألمان بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية كانوا في السجون أو في طور الاستعداد للعودة إلى ألمانيا. كانت الساحة خالية، وهو ما أدى إلى اشتهار اسميْنا بسرعة رغم الفارق الزمني بين عمريْنا».

انكشاف هوة الصدع

في مطلع الخمسينيات، ومع سطوع نجمَيِ الكاتبيْن، ليس في سماء سويسرا فحسب، بل في سماء الأدب الناطق بالألمانية، تــنــكــشــف هوّة الصدع الذي شـقّــه مِعـول الشهـرة والانتشار الجماهيري. إذ نأى دورينمات بنفسه عن التعليق بأي ردّ فعل عن نجاح رواية فريش «شتيللر 1954»، التي كانت قد حقّقت نجاحًا مدوِّيًا بعد صدورها، مكتفيًا بتعليق مقتضبٍ حولها. يقول محرّر الكتاب: إنّ الأمر بدأ يتفاقم منذ ذلك الحين؛ ففي سنة 1961م تطلّب الأمر ثلاث محاولات من جانب المقرّبين من دورينمات لحـثـه على تهنئة صديقه ماكس فريش بمناسبة عيد ميلاده الخمسين، وإرسال كلمات تهنئة بمناسبة عرض مسرحية «آندورا» على خشبات مسارح زيوريخ. إلا أنّ دورينمات رفض الأمر رفضًا قاطعًا، بل كتب رسالةَ نقدٍ حادٍّ للمسرحية، لكن الرسالة بقيت حبيسة الأدراج ولم ترَ النور. في منتصف الستينيات بدأ اسم فريش يلمع كروائيّ مخضرم بعد صدور ثلاثيته الروائية «شتيللر»، و«هومو فابر»، ثم «لنفترض أن اسمي جانتينباين»، التي رسّختْ اسمه في المشهد الأدبي الأوربي كروائيّ محنّكَ مثلما ترسّخ اسمه من قبلُ كمسرحيّ قدير. على أنّ الأمر لم يتوقـف على جفوة بين الكاتبيْن، إذ لم يستنكف الرجلان عن محاولات الاستفزاز، فاستمرّ ماكس فريش في رسم صور وبورتريهات شخصية تظهر دورينمات في مظهر القروي المُنعزل، في حين استمرّ دوريمنات في سخريته اللاذعة من حياة فريش.

إلى جانب المراسلات، ضـمَّ الكتاب شذرات ورسائل بقيتْ حبيسة الأدراج حتى أُفــرِجَ عنها بمعرفة الناشر. في إحدى الشذرات (أحد أيام سنة 1963م من دون تاريخ محدد)، التي كتبها دورينمات حول فريش، واحتفظ بها لنفسه قال: «أتساءل أحيانًا، ما الذي يجـمعني بمثل هذا الإنسان (يقصد فريش)؟ أخادع نفسي حين أطيل الحديث معه؟ هل يشعـر ماكس أيضًا بالشعور نفسه؟» يكشف الناشر بيتر رودي عن شذرة أخرى بقلم ماكس فريش يتحدّث فيها عن دورينمات قائلًا: «الحوار بيننا صعب، فآرائي لا تجد أذنًا مصغية لديه، لا يزال فريتس كما هو، لديه وقاحةٌ غير عادية، يحتاج دورينمات جمهورًا أعمى يركع أمامه من دون مناقشة، وهكذا الحال أيضًا مع أصدقائه، وإلا كانوا خونة… أي شخص لا يدور في فلك دورينمات يصير خائنًا من وجهة نظره». تتطوّر هذه الشذرة إلى خطاب، مؤرَّخ في يوليو 1969م، يرسله فريش إلى دورينمات: «عزيزي فريتس: لا أعلم إن كان أحد قد أخبركَ قبل ذلك أن مسلككَ في الحياة يجانبه الصواب، ربما أكتب الآن رسالة لا ينبغي أن تُرسلَ إلى صديق، ولكني بحكم دبلوماسية التعامل مع مواقف الحياة اليومية (أو سمِّها ما شئتَ) تبيّن لي أنك لا ترى إلا أمريْن: إما عدوًّا يغالي في قدحكَ، أو صديقًا يبالغُ في مدحكَ. وهذا خطأ، عليكَ اختيار السلوك السليم. لا أقصد بكلامي هنا مؤتمر بازِل الصحافي، بل أعني مقالَكَ في جريدة Sonntag-Journal».

في سنة 1973م حدثت قطيعة بين الكاتبيْن، وصفها دورينمات بالكلمات الآتية في شذرة دوَّنها في دفتر يومياته: منذ وقوع القطيعة قبل شهور (لأسبابٍ لم أستوعبها يومًا!)، «سقط ماكس في وحدة كاملة». وفي شذرة أخرى في السنة نفسها يقول: «كان ماكس لا يجد غضاضةً في مناقشة علاقاته الغرامية وتفاصيل زواجه، لذا عليّ الاعتراف أنني كنتُ أحبّه، وما زلتُ أحبه: ماكس هـو المقابل الجدليّ لشخصي، أودّ الاعتراف أيضًا أنني لم أحظَ بصديقٍ أكثر وفاءً من ماكس فريش». وفي سنة 1975م يُصدر ماكس فريش روايته السيرية «مونتاوك»، فيسخـر دورينمات من علاقات فريش النسائية المتعددة قائلًا في شذرة أخرى: «من الطريف أن يحوّل كاتب ذاته ومشاكله الشخصية إلى مادة أدبية».

تمضي السنوات وفتور العلاقة يزداد. في خريف سنة 1978م التقى دورينمات في حضور صديقٍ مشتركٍ «ماكسَ فريش» في مطعم Kronenhalle الشهير في قلب زيوريخ، حيث أهدى دورينمات إلى فريش كتابه الأخير، مُصدرًا الإهداء بكلمة: «إلى الـــKumpan ماكس، وهي كلمة دارجة، مِـن بين معانيها الحرفية (زميل في عـصابة). وكان فريش قد أفرط في الشراب، فـثارت ثائرته وألقى بالكتاب فوق الطاولة قائلًا: «هذا الإهداء الذي تتصدّره كلمة Kumpan غير لائق، وأعدّه تطاولًا ووقاحة.. سأتصل بالمحامي.. كلمة Kumpan تعـدّ سبًّا يليق بمجرمٍ، أنا لا أستحق منكَ ذلك». يعلّق الناشر على ذلك بقوله: «أخبرني صديق مشترك حضر السهرة أن دورينمات ذُهِـلَ من ردّ فعل فريش، وظـلّ مشدوهًا يحدّق إلى ماكس الثائر، ولم ينطق بكلمة واحدة». بعد هذه الواقعة بأيام، تلقى دورينمات من فريش الرسالة التالية، مؤرّخة في نوفمبر 1978م: «عزيزي فريتس، خالص الشكر على إهدائكَ نسخة من كتابكَ الأخير، وألتمس منك العذر على ما بدر مني ليلة أن التقينا في مطعم Kronenhalle، لم يكن الإفراط في تناول «الكونياك» هو السبب، بل كان اليأس الذي أخذ يتراكم فوق صدري منذ سنوات بسبب أخطائي المتكرّرة، تلك الأخطاء التي لا يعرفها أحدٌ سواي. عزيزي فريتس، أودّ إخباركَ شيئًا قبل أن نلتقي ثانيةً، إياكَ أن تظنّ أنني أرى في سلوكي الفـظّ شيئًا حسنًا أو حتى قابلًا للصفح، فلا ذنب لكَ في شيء، الأمر كله متعلّق بي أنا، هذا مرض، تحياتي، صديقك العجوز ماكس». بينما كتب فريش في سنة 1982م شذرة عن دورينمات لم يُرسلها تقول: «كلانا كان ظلًّا لصاحبه».

لأسباب متفرّقة من بينها تقدّم السنّ وعدم قدرته على الكتابة والإنتاج كما كان في السابق، مـرّ ماكس فريش بأوقات عصيبة أثّرتْ في حالته النفسية تأثيرًا سيئًا، وهو ما دفعه للتفريط في كلّ شيء، بما في ذلك صداقاته القديمة حتى إن كانت صداقات عرجاء. في هذه السنوات (1981– 1986م)، بدأت الجفوة بين الكاتبيْن تأخذ مسارًا رسميًّا صوب القطعية النهائية. قال ماكس فريش في حوارٍ غير منشور أدلى به سنة 1982م، وأورده المحرّر في الكتاب: «أشعر أنني تحرّرت من حمـلٍ ثقيل بعد تخلّصي من أواصر هذه الصداقة، لقد ذوت روابط هذه العلاقة بشكل طبيعي. أستطيع القول: إن تحرّري من صداقتي مع فريتس شيء رائع، بل ممتع، بل شكَّـل تحدّيًا مثيرًا لي. على الرغم من أننا كنا نعرف منذ زمنٍ بعيد بأننا نسير في مساريْن متعاكسيْن، فإنني كنتُ أشعر شعورًا قويًّا أنّ قطار دورينمات لا يزال واقفًا ومتشبثًا بمحطة لا هوتية، لا يغادرها أبدًا».

صداقة فريش ويونسون

أوفِه يونسون

ويبدو أنّ القدر قد هيأ صداقةً أخرى عميقة في أواخر السبعينيات بين ماكس فريش والكاتب الألماني أوفِه يونسون (1934- 1984م)، خـفّفـتْ قليلًا من أثـر انهيار صداقته بدورينمات. فقد تبادل الكاتبان (فريش ويونسون) مجموعة من الخطابات التي تناولت مختلف القضايا الأدبية والسياسية التي كانت محط اهتمام الكاتبيْن وقتها (وتناولت موضوعات متنوعة مثل الحرب الباردة وسياسة المستشار الألماني فييلي براندت،… إلخ). يقول المحرّر: إن فريش الذي كان يكبر يونسون بعشرين سنة تقريبًا، بدا أكثر انفتاحًا وتـقـبلًا للنقد والملاحظات من كاتب أصغر سنًّا وأقل تجربةً مثل يونسون، في حين لم يتقبّل النقد من رجل في مثل سنّه تقريبًا مثل دورينمات.

وردًّا على سؤال من أوفِه يونسون حول إمكانية «التصالح» مع دورينمات لعودة المياه إلى مجاريها، أجاب فريش في رسالة قصيرة: «نتصالح حول ماذا؟ أوشكُ أن أنسى موضوع فريتس برمّته، أريد أن أستريح». في خطاب أرسله دورينمات إلى فريش، والمؤرّخ في 15 مايو 1986م بمناسبة بلوغ فريش الخامسة والسبعين، قال: «عزيزي ماكس.. لقد اتّسمتْ صداقتنا بالشجاعة. أعلمُ أنني أثرتُ إعجابكَ في أوجه عدة، كما أثرتَ أنتَ اندهاشي في أوجه أخرى، لكن كل واحدٍ منا تركَ جروحًا لدى صاحبه، تركت بدورها ندوبًا غائرة. أكتب الآن هذه السطور ونوستالجيا الأيام الخوالي تغمرني. لم أهـتمّ يومًا بأعمال معاصرينا من الكُتّاب، وكنتَ أنت الكاتب الوحيد الذي شغـلتني أعماله، وبقيتَ كذلك الكاتب الوحيد الذي رأيت فيه منافسًا حقيقيًّا. أما وقد افترقتْ بنا السُّبـل، فهذا أمر محسوم سلفًا، لا يحتاج الأمر مني إلقاء محاضرة في تاريخ الأدب عن قضاء وقدر من هذا النوع. المحبّ دائمًا… فريتس».

كان دورينمات على يقين أنّ فريش لن يردّ على خطابه السابق، لكنه رغم ذلك أرسله. يقول دورينمات عن هذه اللحظة: «لقد وصل القطار الذي أقّلنا إلى محطّته الأخيرة، محطة المربع صفر، لقد كتبتُ خطابًا صادقًا، أعددته بحرصٍ وتدقيق، ذكرى وهــديةً إلى الصديق المفقود». وبالفعل، لم يُجب ماكس فريش عن رسالة دورينمات السالفة حتى توفيّ الكاتبان؛ حيث تـوفي فريدريش دورينمات في الرابع عشر من ديسمبر 1990م، وبعد أربعة أشهر فقط من وفاته، وتحديدًا في الرابع من إبريل سنة 1991م لحق به ظِـلّه الأكـبر سنًّا ماكس فـريش.

المنشورات ذات الصلة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *