كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
سمير أمين.. العربي الذي فكّر للعالم
لم يحظَ سمير أمين (1931– 2018م)، المفكر السياسي المصري الأصل – الفرنسي الجنسيّة وأحد أهم أساتذة الاقتصاد السياسي وأمتن منتقدي النظام الرأسمالي العالمي في صيغته المتأخرة بما يستحقه من اهتمام على الصعيد العربي. إذ هو بعد تجربة قصيرة لم تزد على ثلاث سنوات نهاية الخمسينيات في بلاده مصر مكلفًا بملف التخطيط المركزي فيها انتهى إلى خلافات مع الضباط الأحرار؛ إذ كان أمين وقتها شابًّا صغيرًا وصريحًا جدًّا وربما راديكاليًّا أكثر مما يمكن أن يتحمله العسكر، فغادر مسقط رأسه إلى منافٍ اختياريّة بين باريس ودكار مرورًا بعدة حواضر إفريقيّة أخرى، مع تجوال معولم أخذه خلال ستين عامًا من العطاء المهني والفكري الثري إلى معظم عواصم العالم الثالث محاضرًا ومحاورًا ومستشارًا لقادة وأنظمة سياسيّة فيما يعرف بدول الجنوب، كانت تبحث عن بدائل لحل معضلات التنميّة في مواجهة تمركز الثروة والنفوذ عند دول الشمال الأوربي – الأميركي الغني. كان أمين بالفعل وفق وصف البروفيسور المكسيكي فرانشيسكو كاربويو «نوعًا مختلفًا من الخبراء التكنوقراط: لديه مواقف سياسية نظريّة جدية، ولكنه أيضًا ذو خيال واسع في وظيفة تتطلب سلوكًا مهنيًّا جامدًا، وهو بالفعل عمل دائمًا بمنهجيّة علميّة صارمة لكنّه وعلى النقيض من معظم التكنوقراط الغربيين كان مهتمًّا بإنتاج سياسات تستجيب للظروف الخاصة بالمجتمعات المحلية بدلًا من استيراد الوصفات الأجنبية أو تطبيق دوغما الكتب المدرسية بشكل أعمى على حياة الأشخاص الحقيقيين».
أمين في مجموع أعماله العديدة المنشورة (أكثر من ستين كتابًا ومئات الدراسات والمقالات والمقابلات) ومحاضراته التي كانت تحظى دائمًا بإقبال كبير ترك منظومة نظريّة متكاملة لا تكتفي بتفسير حالة العالم الشديد التعقيد كما انتهت إليه في عهد «خرف» الرأسماليّة المتأخرة –على حد تعبيره– بل ترسم طريقًا ومنهجيّة عمل لتغييره نحو غدٍ أفضل للبشريّة في مجموعها، لمصلحة الكثرة المهمشة لا لاحتكارات القلّة الثريّة. أفكاره الجريئة والمبنية على أسس أكاديميّة صارمة جعلته من أعلى الأصوات في نقد الإمبراطوريّة الرأسماليّة المعولمة، وأكثرها إثارة للجدل مع الاقتصاديين النيوليبراليين الذين عادوه بشدّة. البرفيسور نيرمال تشاندرا، مثلًا، قال: إن «نظريات أمين وعلى أهميتها الأكاديميّة فإنّها تبقى في النهاية شديدة التبسيط، تحاول الادّعاء بالقدرة على فهم الهوة المتزايدة بين الشمال والجنوب باستخدام عدد محدود للغاية من المتغيّرات»، كما لا يكاد يخلو عدد من المجلات الأكاديميّة المخصصة لدراسات التنمية من مقالة أو اثنتين في نقد أمين من منظور أساتذة الاقتصاد النيوليبرالي الذين يسيطرون على معظم كليات الاقتصاد في الغرب. لقد كان مفكرنا الراحل من أشد منتقدي فكرة السوق ذاتي التنظيم –المركزيّة في الاقتصاد الليبرالي- وصاغ في ذلك نقدًا علميًّا قاسيًا للمناهج النيوليبراليّة التي عبثت بمجتمعات دول الجنوب وسلمتها فريسة قريبة ليد مؤسسات المال والبنوك الدوليّة فعاثت فيها خرابًا، كرّس تبعيتها لمنظومة الرأسماليّة المتأخرة واستهلك مواردها في مشاريع تنميّة مستحيلة. وقد كتب هوراس كامبل يقول عن دور أفكار أمين في الكشف عمّا أسماه الاحتيال المموه تحت عباءات دراسات التنميّة وتقارير المؤسسات الدوليّة بشأنها: «وحدها إعادة قراءة سمير أمين اليوم تمكننا من استيعاب حقيقة أنه بعد خمسين عامًا من تقرير بيرسون (شركاء في التنمية) وتقرير براندت (نحو إنهاء الفقر والجوع) والتقارير التي لا عدد لها من البنك الدوليّ، وما سمي مبادرة الألفيّة لأهداف التنميّة ولجنة بلير من أجل إفريقيا، أصبح الأفارقة اليوم أفقر وأكثر عرضة للاستغلال مقارنة بهم في عام 1960م».
تجاهل من الرفاق الماركسيين
وإذا كان فكر أمين مثار جدل مع الليبراليين، فإنه تعرّض أيضًا إلى إعتام وتجاهل متعمد من جانب الرّفاق الماركسيين في اليسار الغربي الذين لم تشفع لهم ماديتهم التاريخية من الوقوع في شباك المركزيّة الأوربيّة –الغربيّة– وافتقدوا الخيال اللازم لتصور منجز فكري أو حضاري يأتي من خارج فضاء الغرب. ويقول أندريه فليتشيك عن ذلك: «كان المفكر الراحل يدرك تمامًا أنّه في الغرب، تكاد لا توجد رغبة بالتخلي عن الامتيازات، أو الدخول في صراعات من أجل عالم يتسم بالمساواة والعدل. وبينما يندد العديد من المثقفين الغربيين -التقدميين- بالظّلم العالمي وبإمبرياليّة الغرب (المركز الشمالي)، فإنهم لم يرغبوا في النّضال أو حتى مجرّد التصويت من أجل كوكب يتسم بالمساواة. اليسار الغربي معنيّ فقط ويكافح لأجل تقديم الامتيازات لشعوبه (ساعات عمل أقصر، وتحسين الرّعاية الطبيّة، وزيادة الأجور، وما إلى ذلك) وفي الغالب على حساب الفقراء والشّعوب شبه المُستعمَرة في العالم أو ما يسميه أمين بالجنوب».
تخلّف دول الجنوب المشهود وفق رؤية المفكر الراحل ليس نتاج محدوديّة تشبيكها في منظومة الاقتصاد العالمي، بقدر ما هو حصيلة لازمة لارتباطها الشديد بتلك المنظومة كمجرّد جرم تابع. وقد جزم بأن عمليّة نقل التصنيع الكثيف من (المركز) الغربيّ إلى (الأطراف) -أي دول العالم الثالث- لم تهدد أسس هيمنة المركز بقدر ما كرّست ارتهان وتبعيّة دول الجنوب، في الوقت الذي مكنت فيه لدول المركز من إضعاف طبقاتها العاملة المنظّمة. ولذلك يقول البروفيسور كاربويو: إنّه «لا عجب في أن مثقفين وقادة كثرًا عبر الجنوب من الصين وأميركا اللاتينية وبالتأكيد إفريقيا وجدوا أمينًا روحًا ملهمة. لقد قدّم للعالم صياغة قوية لموضوعات كانت معضلات أساسية لليسار خارج الغرب وتأكيده -كمفكر من الشرق الأوسط- على أن المشاكل التي تواجهها دول الجنوب تكاد تتطابق في جذورها».
لم يقع أمين في نظرته إلى الغرب رهينة مركزيّة منعكسة من الأطراف هذه المرّة. فهو كان يرى أن استقلال دول الجنوب وتحالفها معًا في مواجهة المركز المهيمن سيهيِّئ المناخ لإنقاذ النوع البشري كلّه من أنياب النظام الرأسمالي فيما إذا تمكنت القوى العاملة في الشمال الغني من موازاة ذلك بكسر احتكار برجوازيّة بلادها لمصلحة علاقات متوازنة مع دول الجنوب تغني الطرفين، وتسمح بنَشْل بلايين البشر من أوضاعهم الرثّة وحياتهم عديمة المعنى. ووفق نيك ديردن فإن أمينًا بهذا المعنى «يطرح تحديًا وجوديًّا على الناشطين في الشمال الغني؛ إذ إن دعم تغييرات جذرية تمسّ بنية الاقتصاد العالمي قد يعني في الوقت نفسه تقلّص امتيازات مجتمعات دول الشمال، وينهي أسطورة التدخل الإنساني الغربي ونظام المساعدات الخيريّة الطابع التي تخفق دائمًا في تغيير علاقات القوّة التاريخيّة الطابع بين الطرفين».
وللأمانة فإن رؤية أمين لكسر هيمنة المركز الغنيّ لم تكن يومًا من خلال ثورات عنفيّة حاسمة تنقل المجتمع إلى يوتوبيا اشتراكيّة في اليوم التالي كما عند اليساريين الحالمين، بقدر ما كانت نوعًا من طريق طويل ورحلة بناء مجتمع جديد – قد تكون أحيانًا مؤلمة – نحو الغد الأفضل، لكنها عنده بمنزلة الأمل الوحيد لوصول المجتمعات إلى العيش الرغيد. وعن ذلك كتب ديردن: «ربما يبدو سمير أمين مثاليًّا في تصوراته عن المستقبل، لكن هذا أبعد ما يكون من الحقيقة. فهو يرفض صراحة فكرة الثورة في يوم وليلة وأعمال التمرد التي تدعي التحول إلى الاشتراكية. وهو يتقبل وجود حاجة لاستخدام رأس المال الخاص، حتى الدولي، من أجل تنويع اقتصادات الجنوب. الشيء المهم عنده هو السيطرة الممهنجة على توجهات ذلك المال ولذلك تحدث عما أسماه (الطريق الطويل للانتقال إلى الاشتراكية)».
وعلى الرغم من أنه تحوّل إلى أيقونة أكاديمية عالميّة وخبيرًا لا يشق له غبار في الاقتصاد السياسي فإنه لم ينعزل يومًا خلف أسوار الجامعات، بل أخذ خبرته ومعارفه إلى تجارب حركات التحرر الوطني والدول الحديثة الاستقلال التي ورثت الاستعمار الكولونيالي المباشر في القرن العشرين، بداية من تجربته الأولى مع مصر الناصريّة ثم مستشارًا اقتصاديًّا لعدد من القادة الأفارقة الثوريين في تنزانيا وأنغولا والسنغال، ولاحقًا كأحد المفكرين العالميين الأكثر قربًا من القيادة الصينية إلى جانب رئاسته لمنتدى العالم الثالث في السنغال لحين وفاته. وقد أغنت تلك التجارب فكر أمين كما أغناها هو بفكره، وجعلت من كتاباته أقرب ما تكون تدوينات عالم آثار بارع يصف لُقْيَاتِهِ من الخنادق الأماميّة. وعن ذلك كتب البروفيسور باربات باتنك يقول: «يتمايز أمين عن معظم المثقفين الحداثيين الآخرين في عصره بالتزامه الكلي والمطلق بالتطبيقات العمليّة للأفكار الاشتراكية. فهو لم يكن مجرد منظّر يجلس في برجه العاجيّ ويستخدم أدوات الماديّة التاريخيّة لتحليل الواقع المعاصر كنوع من النشاط الفكري المنفصل عن الحياة، بل كان على عكس ذلك تمامًا: ناشط ملتزم بشغف يوظّف مشروعه الفكري كمساعد له على الممارسة العملية. وهو لم يملّ يومًا من محاولة تنظيم زملائه الناشطين للقيام بتدخلات فاعلة تستهدف إحداث تغيير وقد استعانت به العديد من المنظمات غير الحكومية لتوجيه جهودها الإنمائيّة».
ومع أن الراحل صنع مجده الفكري في أجواء غربية فإنه لم يسقط أسير تناقضات انشطار الهويّة التي انتهى إليها معظم مثقفي العالم الثالث، الذين درسوا في الغرب وتملكتهم الدونية تجاهه. وعلى حد وصف فليتشيك: «لقد تمتع أمين بثقافة موسوعيّة وذائقة نقديّة عاليّة واستقلال فكريّ حاسم مكنه من تقديم قراءة تحررت من المواقف المسبقة والنظريّات المنزوعة من سياقاتها التاريخية والثقافية والجغرافية التي تتداول بكثافة على يمين الفكر الغربي كما على يساره». ولذا يحق له أن يكون كما وصف نفسه تمامًا (مفكر ماركسيّ خلّاق) يبدأ من ماركس لكنه لا ينتهي عنده أو عند لينين أو ماو تسي تونغ أو عند أي أحد، بل يأخذ من هؤلاء وغيرهم أدواتهم النقديّة ليبني فوقها تصورًا محدّثًا للعالم كما هو في عصر الرأسماليّة المتأخرة ليس بغرض تحليله فحسب، بل الأهم من ذلك لتقديم حلول عمليّة لمواجهته وتغييره. ويصفه البروفيسور كاربايو «بالمفكر غير المطيع الذي تمرد على كل عقيدة ممكنة واصطحب أفكار ماركس في رحلة استثنائية حول الكوكب. بفضل أمين أخذ الاقتصاد السياسي لماركس شخصية عالمية الطابع أكثر. وقد أظهر للمثقفين في جميع أنحاء الجنوب بأنه ليس ضروريًّا اقتصار تفكيرهم على قضايا مجتمعاتهم الضيقة ولكن يمكنهم أيضًا تقديم مساهمات حاسمة في النظرية الاجتماعية. فمنظرو الجنوب وعلماؤه، ليس عليهم الاكتفاء بإنتاج حواش للعمل الذي أُبدع شمالًا، لكن بإمكانهم في الواقع صياغة جدول أعمال للمناقشات العالمية. هذا جزء من إرث أمين وله أهمية كبيرة».
صورة أمين الفيلسوف والأكاديمي والخبير الدولي لا ينبغي أن تخفي جانبه الإنساني الفذّ، وهو جانب لا يقل لمعانًا عن إرثه الفكري المبهر، وكما قال فيه البروفيسور باربات باتنك: «لن يكتمل سرد لحياة أمين من دون الإشارة إلى دفئه الكبير وكرمه وحماسه، كما ضحكته التي لا تغيب، وطاقته اللافتة للنظر وقدرته على التقريب بين الناس لدفعهم للعمل معًا في تجارب تغيير. لقد كان شخصية تثلج الصدر، والتحدث إليه تجربة تعلُّم استثنائيّة، سواء أكان متفقًا معك أم غير متفق».
لقد خسر العالم سمير أمين مرّة، لكن العالم العربي خسره مرتين.
المنشورات ذات الصلة
بعد سنوات من رحيله… زيارة جديدة لإبراهيم أصلان
ربما كان الدافع الأساسي لكتابة السطور التالية هو اكتشافي لنفاد غالبية كتب الراحل الكبير إبراهيم أصلان 1935– 2012م،...
ابتكر نمطًا جديدًا في الشعر الأميركي ما بعد الحرب فرانك أوهارا: جماليات الأشياء الصغيرة
يصنف النقاد الشاعر الأميركي فرانك أوهارا ضمن «مدرسة نيويورك»، وهي جماعة من الشعراء والرسامين والراقصين والموسيقيين...
القدس مدينته وروحه وحياته محمود شقير.. ثلاثة وثمانون عامًا ولم يسأمْ تكاليف الأدب والثقافة
يدخل محمود شقير الكاتب والروائي الفلسطيني المعروف عامه الثالث والثمانين وهو بكامل بهائه الأدبي وعطائه الثقافي. هو...
0 تعليق