كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
مجتمع جديد وثقافة أخرى
لا يمكن لنا أن نعالج الأسباب التي تساءل عنها المحور حول تراجع مفهوم الثقافة وعدم حظوته بتقدير عند شرائح واسعة من المجتمع، بل الاستخفاف به كذلك فضلًا عن معالجة أثر ذلك في المثقفين أنفسهم من دون أن نراجع مفهوم الثقافة نفسها وما طرأ عليها من تغيير وضعها على عتبة أخرى من الفهم يتوجب علينا الوقوف عليها قبل الحديث عن موقف المجتمع منها ومدى استخفافه بها أو تثمينه لدورها. ذلك أن المحور المطروح هنا وما استند عليه من مسلمات وما طرحه من تساؤل إنما ينطلق من المفهوم التاريخي للثقافة الذي ظلت محتفظة به ومحافظة عليه قبل أن يلج عصرنا الحديث ثورة التقنية، وما أتاحته من وسائل التواصل وما مكنت به شرائح واسعة من المجتمع من الانتقال من تلقي الثقافة والانفعال بها إلى المشاركة في الفعل الثقافي وممارسة الفعل به، وإذا كانت الثقافة بذلك قد خسرت دورًا تاريخيًّا لها فإنها قد اكتسبت أثرًا وتأثيرًا لم يكن لها من قبل.
لم تعد الثقافة هي ثقافة النخبة، ولم تعد أسئلتها هي تلك الأسئلة الكبرى المتعلقة بالقضايا المصيرية والقيم العليا المتصلة بالحقيقة والجمال، ولم يعد المثقفون هم تلك النخبة التي يسكن كثير من أفرادها في أبراجهم العاجية فإذا ما استشعروا مسؤوليتهم تجاه المجتمع هبطوا إليه «من المكان الأرفع» هبوط الناصحين والمبشرين والمعلمين يأخذون بأيدي الناس لما يرون فيه خيرهم وصلاحهم.
لم تعد الثقافة كذلك ولم يعد المثقفون كذلك بعد أن مكنت التقنية ووسائل التواصل المختلفة جميعها الناس جميعهم من المشاركة في تبادل الأخبار والنصائح والتوجيهات وفضح كل ما يمكن أن يستهدف سلامة المجتمع وأمنه واستقراره، والمشاركة في صياغة الوعي بما يُتداوَل من تغريدات ومقاطع سواء كانت مجتزأة من أخبار مصورة أو أعمال فنية أو خطب عابرة، كأنما هناك عودة إلى مفهوم الثقافة في المجتمعات البدائية، أو البدوية، حين كانت المجالس معتركًا ثقافيًّا يتبادل فيه أفراد تلك المجتمعات الأخبار والنصائح والخبرات، وذلك قبل أن تمتاز منهم فئة وتستحوذ على هذا الدور ثم تمضي به إيغالًا في المعرفة وتحليقًا بالقيم العليا بعيدًا من معترك الحياة اليومية للمجتمع.
لقد غُيِّر مفهوم الثقافة، فلم تعد أكثر عمقًا واستشرافًا للمستقبل وتكريسًا للقيم العليا، غير أنها أصبحت أكثر قربًا من المجتمع وأعمق تأثيرًا في مجرى حياته اليومية، وتغير مفهوم المثقفين، فلم يعودوا هم أولئك المعلمون العالمون العارفون الموجهون، أصبحوا أفرادًا من داخل المجتمع لا يكاد يعرف أحد أسماءهم، بل ربما لا أسماء لهم غير أن ما يقولونه أو يتحدثون عنه أو يحذرون منه أو يوجهون له لا يلبث أن يطير في الآفاق كما كان يطير المثل والقول المأثور والحكمة السائرة.
لم يُدِرِ المجتمع، إذًا، ظهره للثقافة، إنما أدار ظهرَه للثقافة كما استقر فهمها لدينا نحن معشر المثقفين، ثقافة النخبة في استعلائهم أو ثقافتهم حين يتواضعون كذلك محتفظين بدورهم الذي يستمدون منه نخبويتهم تلك، وإذا لم يكن لهم بُدّ من أن يستشعروا الإحباط فليستشعروه حين يجدون أن تغريدة واحدة قادرة على أن تفعل ما لم تكن كتبهم مجتمعة قادرة على فعله، وليس لهم بعد ذلك من دور إلا أن تكتب النخبة للنخبة وأفراد المجتمع الجديد عنهم في ثقافتهم الجديدة فكهون.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب في الوطن العربي
صورة النخب وجدل الأدوار محمد شوقي الزين - باحث جزائري مثل المنطوق الأوربي (elite)، تنطوي مفردة «النخبة» في اللسان...
الإبل في الثقافات: شراكة في الحضارة قفْ بالمطايا، وشمِّرْ من أزمَّتها باللهِ بالوجدِ بالتبريحِ يا حادي
آفاق السنام الواحد عهود منصور حجازي - ناقدة سينمائية منذ فجر التاريخ، كان إدراك الإنسان لتقاسمه الأرض مع كائنات أخرى،...
تجليات الفن في العمارة… رحلة بصرية عبر الزمن
العمارة والفنون البصرية علاقة تكافلية مدهشة علاء حليفي - كاتب ومعماري مغربي منذ فجر الحضارة حتى يومنا الحالي، لطالما...
0 تعليق