كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
لنؤسس وكالة لـ«التنمية الثقافية» ولنرعَ «المعرفة السعودية»!
نحن نعيش في «قرن المعرفة»، ويبدو أن هذا القرن أوجد صياغة جديدة للوجود الإنساني (كوجيتو)، مفادها: «أنا أعرف، إذن أنا موجود». بات من الواضح أن للمعرفة القدح المعلّى في إنتاج الثروات وبناء الاقتصاديات الحديثة وتوليد الوظائف وامتلاك أسباب القوة طيلة عقود القرن الحادي والعشرين. البقاء سيكون لـ«الأعرف» و«الأبدع»، حتى لو بدا صغيرًا أو هامشيًّا. توليد ثروات اليوم والغد يعتمد بدرجة كبيرة على قدرة الدول على خلق المعرفة وإدارتها وإعادة تشكيلها وتنظيمها واستخدامها في قوالب تشبع «النهم المعلوماتي» والاحتياجات المتزايدة للإنسان المعاصر الفضولي (هذا لا يعني البتة أنه فضول جيد أو عميق!). وفي سياق استعدادات السعودية لتفعيل رؤيتها الإستراتيجية وتبنيها لبرنامج تحوُّل وطني طموح، يلزمنا طرح سؤال جوهري عن مدى إمكانية توليد ثروات من المعرفة والثقافة، تفلح في تنويع مصادر اقتصادنا الوطني؟
لكي تولد إيرادًا من شيء أو أصل، يجب أولًا أن تمتلكه، أليس كذلك؟ هذا يطرح بدوره سؤالًا آخر: هل نمتلك «معرفة سعودية»؟ هنا أنوه إلى شيء مهم، وهو أنني بطرحي مفهوم «المعرفة السعودية»، لا أقصد إطلاقًا صبغ مفهوم المعرفة بالنزعة الثقافية المجتمعية أو النزعة الأيديولوجية، إنما أشير إلى «المعرفة المولدة للثروة» التي ننتجها نحن في السعودية عبر باحثينا ومخترعاتنا ومنتجاتنا ومنظماتنا ومبدعينا وفنانينا، من خلال برامج خلق المعرفة الجديدة وإدارة المعرفة القديمة وإعادة تشكيلها واستخدامها بقوالب مبتكرة مربحة. إذن، مفهوم «المعرفة السعودية» يساوي في الدلالة مفهوم «المعرفة الوطنية» أو«الذخيرة المعرفية الوطنية»، أي المعرفة التي ينتجها وطننا السعودي، وتسهم في إكسابه إيرادات جيدة دائمة.
هل ثمة معرفة سعودية؟ جوابي عن هذا السؤال المحوري: نعم أرى معرفة سعودية يمكن أن تكون مولِّدة لقدر من الثروة بطريقة مباشرة وغير مباشرة. وحين نجيب بالإيجاب عن مدى وجود معرفة سعودية، فإنه يتوجب علينا التأكيد على التمييز بين: امتلاك أو توافر المعلومات لدينا، وقدرتنا على خلق المعرفة وإدارتها بطريقة تدر إيرادات. ومن هنا، أرجو ألا يتوهم البعض أن بإمكاننا أن نعد المعلومات المتوافرة لدينا بشكل أو بآخر على أنها ضمن «الذخائر المعرفية السعودية» المدرّة للإيرادات. المعلومات كالرمال التي نتوفر عليها في أراضينا وصحارينا، وأما المعرفة فهي كالزجاج الذي ننتجه من تلك الرمال، وشتان بين رمال لا قيمة لها، وزجاج فاخر نادر؛ له أثمانه وأسواقه. وتجدر الإشارة إلى أن المعرفة السعودية تنقسم إلى: معرفة علمية بحثية، ومعرفة ثقافية مجتمعية، ولعلي أركز على النوع الثاني لارتباطه بوزارة الثقافة، وهو ما يتناسب مع الموضوع المطروح في هذا العدد من مجلة الفيصل.
الصناعات الإبداعية
كل مجتمع إنساني يتوفر على «معرفة محلية» يمكن أن تكون مصدرًا للإيراد الجيد وتنويع مصادر الدخل الوطني، إن حظيت بتخطيط إستراتيجي محكم. المعرفة المحلية السعودية تعكس كل معرفة يمكن للسعوديين إنتاجها بشكل دقيق ومفصل وكامل وموثوق عن ثقافة المجتمع السعودي وتجلياتها الأدبية والفنية والشعبية والتراثية والمعمارية. ويدخل في هذه المعرفة المحلية أيضًا ما يسميه البعض بـ«الصناعات الإبداعية» Creative Products؛ التي تتضمن –ضمن أشياء أخرى– المنتجات الفنية والثقافية في سياق الثورة المعلوماتية عبر الشابكة (الإنترنت)، حيث يستخدمها مستهلكون تفاعليون جدد، مواطنون وغير مواطنين. ويندرج تحت الصناعات الإبداعية صناعة النشر بمختلف أشكاله. وكل ما سبق يمثل مجالًا خصبًا لتوليد إيرادات ضخمة وخلق عشرات الآلاف من الوظائف الجيدة للشباب السعودي.
ظهر مفهوم الصناعات الإبداعية في أستراليا أوائل التسعينيات من القرن 20، وقد تفاعلت معه بعض الحكومات الغربية بشكل جادّ، ومن ذلك الحكومة البريطانية، حيث أسست وحدة خاصة للصناعات الإبداعية في وزارة الثقافة البريطانية مع تأكيد الوزارة على حتمية دعم وتشجيع الإبداع الناتج من (الملكية الفكرية) أو المتعامل معها، ومع الوقت أصبح التركيز بشكل أكبر على الصناعات ذات النزعة الفنية والثقافية وحقوق النشر (أي مع تركيز أقل على براءات الاختراع والماركات المسجلة التي تلقى اهتمامًا أكبر لدى وزارة التجارة والصناعة) (انظر: الصناعات الإبداعية، تحرير: جون هارتلي، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، عالم المعرفة عدد 338، ج1، 2007م، ص 160 -158). وفي هذا الكتاب المهم، ورَدَ العديد من المؤشرات المؤكدة على أهمية الصناعات الإبداعية، ومنها على سبيل المثال:
في عام 2001م قُدِّر صافي عوائد الصناعات الإبداعية الناتجة فقط من (صناعة حقوق النشر الأميركية) بنحو 791 مليار دولار وهو ما يعادل 7.75% من إجمالي الناتج القومي، ويقدر عدد العاملين في تلك الصناعة بـنحو 8 ملايين، وتسهم في قرابة 89 مليارًا من الصادرات، وهذا يعني تفوقها على الصناعات الكيميائية والسيارات والطائرات وقطاع الزراعة والقطع الإلكترونية والحاسوب.
أما في بريطانيا فقد قُدرت عوائد الصناعات الإبداعية بـنحو 112 مليار جنيه إسترليني، ويعمل بها نحو 103 ملايين، وتشكل ما يقارب 5% من الناتج الإجمالي، وفي أستراليا تشهد تلك الصناعات نموًّا مطردًا بلغ ضعف معدل نمو الاقتصاد ككل.
وفي اتجاه يعزز الحديث عن الدور الخطير لمثل تلك الصناعات في هذا القرن يؤكد أحد مؤلفي الكتاب (ريتشارد فلوريدا) -أستاذ كرسي Hirst للسياسة العامة في جامعة جورج ميسون- أن الطبقة الإبداعية (من علماء ومخترعين وفنانين وموسيقيين) ستكون هي الطبقة الأكثر تأثيرًا، وأنها ستفرض أنماطها في التنظيم والإدارة وساعات العمل. وقد تعرض الكتاب إلى مفهوم «صناعة الثقافة» مع إيراد جملة من الانتقادات لهذا المفهوم (على سبيل المثال من قبل مدرسة فرانكفورت) وربطها بمفهوم «الاستنتاج الآلي» ومفهوم «تجميل السياسة» ومفهوم «تسليع الثقافة»، وهو ما يتوجب تجنبه. وفي هذا السياق، يلزمنا التنويه إلى أن الثقافة ارتبطت في عالمنا العربي بممارسات لا تمت بصِلة بالأبعاد التنموية في كثير من تصوراتها وممارساتها ونتاجاتها؛ إذ يتوهم كثيرون أنها معنيّة بالأدب والفكر من زوايا كتابية أو تنظيرية صرفة، من دون أن يكون لها دور ملموس في التعبئة الاجتماعية الواجبة لبناء منصات قوية للتنمية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية. وهذا وهم يجب إزالته.
في رأيي، يمكننا الإفادة الناجعة من فكرة «الصناعات الإبداعية» من جانب وزارة الثقافة بالتنسيق والتكامل مع وزارة الإعلام والجهات الأخرى ذات الصلة، عبر تأسيس وكالة متخصصة في وزارة الثقافة باسم: وكالة الوزارة للتنمية الثقافية، تُعنَى بجعل الثقافة رافدًا لتنويع الاقتصاد الوطني، بما في ذلك البناء والتعضيد لـ«رأس المال الثقافي» و«رأس المال الاجتماعي» وتعزيز «الابتكارية الوطنية»، حيث تمتلك السعودية مقومات كبيرة لتحقيق ريادة على المستوى العربي في هذا الفضاء الثقافي التنموي الإبداعي. وأحسب أنه سيكون للوكالة الجديدة دور رئيس في تقوية الذراع التخطيطي الإستراتيجي للوزارة في كل ما يخص الممارسات الثقافية على نحو يزيد من جودة المحتوى التخطيطي للثقافة وانعكاساتها في الخطط التنموية.
غياب الركائز القوية للفعل الثقافي
ومن خلال قراءة متمعنة في الخطط التنموية عبر مراحلها المختلفة، لم أجد ركائز قوية للفعل الثقافي والإبداعي حيث لم تفلح تلك الخطط في تفعيل الثقافة والإبداع وجعلهما رافدين للتنمية والاقتصاد، وقد يكون ذلك راجعًا لعدم وجود وحدة متخصصة في وزارة الثقافة قادرة على بلورة أهداف ناضجة ومبادرات ملائمة. وللمعاونة في تأسيس الوكالة المقترحة، أضع جملة من النقاط العملية:
أولًا- الإسراع في تكوين فريق وطني متخصص في الصناعات الإبداعية وفريق آخر للمعرفة السعودية (المحلية)، مع إمكانية الإفادة من بعض الخبرات الدولية الجيدة في الفريقين وبالذات الأول. على أن يكون الفريق ممثلًا لوزارات الثقافة والإعلام والتعليم (التعليم العالي)، وبقية الجهات ذات العلاقة.
ثانيًا- إعداد وثيقة لخطة إستراتيجية للتنمية الثقافية مشفوعة بخطة تنفيذية تفصيلية جيدة. وقبل إعداد مثل ذلك يتوجب علينا –بطبيعة الحال- القيام بتحليل إستراتيجي نقدي دقيق. وهنا أشير إلى أنه ليس من المبالغة في شيء إنْ قال أحد بأننا لم ندخل بعد قرن «المدن المعرفية»؛ إذ لا توجد أي مدنية سعودية تحقق إيرادات ضخمة عبر المعرفة التي تخلقها وتديرها، و«الإيرادات المعرفية» لا تشكل نسبة تذكر من دخلنا الوطني. نحن لا نريد أن نعيش فيما يشبه «عشوائيات المعرفة» مع انخداعنا بأننا في مخططات منتظمة ومعتمدة من جانب «السلطة المعرفية». نحن نمتلك بعض المقومات والإمكانيات ولدينا بعض البحث الجيد وبعض المعرفة التي تدرّ إيرادات أو التي يمكن أن تدرّ إيرادات، هذه حقيقة، ولكن الطريق طويل وشاقّ، والرؤية الملهمة يجب أن تكون حاضرة وموجهة للتفكير البحثي والقرار المعرفي، مع تشريعات مشجعة وآليات ميسرة، وضبط وتقنين، يعين على إعادة ضبط البوصلة البحثية بالاتجاه الصحيح؛ بما يوصلنا إلى الكنوز المعرفية، فهي مشاعة لكل من يطلبها بجدّ وتفانٍ.
ثالثًا- الاستعداد الحسن للإجابة عن أسئلة محورية، من قبيل: هنالك أسئلة فرعية عديدة تتطلب إجابات دقيقة، ومنها: هل نتوفر على معلومات دقيقة عن «المعرفة السعودية الناجزة» وتلك التي يمكن أن تكون «ناجزة»، ولو بعد حين؟ ما مصادر هذه المعرفة وتلك؟ وكيف تتحقق؟ وما قيمتها؟ وماذا تحتاج؟ وإلى أين تتجه؟ ما المزايا التنافسية للمعرفة السعودية؟ وماذا عن الصناعات الإبداعية السعودية؟ وماذا عن المعرفة السعودية المحلية؟ هل هنالك تنسيق كافٍ بين مؤسساتنا البحثية فضلًا عن التكامل؟ ماذا عن ربط البحث العلمي التطبيقي بالصناعة؟ وماذا عن ربطه بالابتكار؟ ما خصائص الابتكار الذي يقودنا إلى اقتصاد معرفي؟ كل هذه الأسئلة تتكثف حول سؤال واحد كبير: «المعرفة السعودية» هل أحد يرعاها؟
رابعًا- التنسيق الكافي من أجل إدماج المكون الثقافي العميق في الخطط والبرامج التنموية؛ إذ المفترض أن يكون ضمن الافتراضات والمدخلات الأساسية (Basic Assumptions) في أي نموذج تنموي، ولنعلم أن «غياب المكون الثقافي سيجعل من الإستراتيجية الوطنية حبرًا على ورق التنمية!!».
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب في الوطن العربي
صورة النخب وجدل الأدوار محمد شوقي الزين - باحث جزائري مثل المنطوق الأوربي (elite)، تنطوي مفردة «النخبة» في اللسان...
الإبل في الثقافات: شراكة في الحضارة قفْ بالمطايا، وشمِّرْ من أزمَّتها باللهِ بالوجدِ بالتبريحِ يا حادي
آفاق السنام الواحد عهود منصور حجازي - ناقدة سينمائية منذ فجر التاريخ، كان إدراك الإنسان لتقاسمه الأرض مع كائنات أخرى،...
تجليات الفن في العمارة… رحلة بصرية عبر الزمن
العمارة والفنون البصرية علاقة تكافلية مدهشة علاء حليفي - كاتب ومعماري مغربي منذ فجر الحضارة حتى يومنا الحالي، لطالما...
0 تعليق