المقالات الأخيرة

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند راسل الأخير «النظرة العلمية». نقتبس منها ما يلي: «يبدو الآن أنه بدأ يخشى من «المنظمة العلمية للإنسانية» (نوع من الدولة البلشفية بقيادة جي جي [طومسون]...

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

يلاحظ المهتم بالأدب الروسي أن معظم الكتّاب الروس الكبار خاضوا في ميدان الكتابة للأطفال، بدءًا من شيخ كتّاب روسيا ليف تولستوي، الذي أغنى مكتبة الأطفال وقدم كتبًا لمختلف الأعمار، هي عبارة عن حكايات شعبية وقصص علمت الحب، واللطف، والشجاعة والعدالة. نذكر منها «الدببة...

الأدب والفلسفة

الأدب والفلسفة

هناك طريقتان للتعامل مع مشكل علاقة الفلسفة بالأدب: الطريقة الأولى، طبيعية تمامًا، وتتمثل في البحث عن الدروس الأخلاقية التي يقدمها الأدب من خلال الشعر والرواية مثلًا، وذلك ما قام به أندريه ستانغوينيك في كتابه «La Morale des Lettres» (أخلاق الحروف)، وأيضًا مارثا...

برايتون

برايتون

... يصل القطار إلى «برايتون»، يعلن ذلك قائد القطار، يشاهد اللوحات الجانبية على رصيف المحطة تحمل اسم «برايتون»، خدر لذيذ يعبر رأسه، تخلبه أشتات يوم قديم، يمسك بمعصم ابنه ويسيران إلى خارج المحطة، ينحدر بهما طريق يمتد من محطة القطار ويصب في شاطئ البحر، يقف أمام البحر...

لم يحدث إلا بعدما مرَّ عام كامل على انتقالي إلى شقتي في برشلونة أن عرفت أن غابرييل غارثيا ماركيز قد سبق أن عاش هو الآخر في الشقة نفسها. كان ذلك في أوائل مارس، فيما كان ينبغي أن يكون عيد ميلاده الحادي والتسعين. كانت صحافية تكتب تحقيقًا عن السنوات التي قضاها ماركيز في برشلونة حينما وقعت على مقالة قديمة نشرت في عام 2014م وأشارت إلى بيتين عاش فيهما في المدة التي قضاها هنا. ورنَّ هاتفي بالخبر.

أول ما شعرت به هو حضور غابو. طبعًا كنت أبحث عنه، بوصفي كاتبة تسرد طوال الوقت حياتها الخاصة، باحثة عن قصص ملموسة كامنة وراء ما يحيط بي ماديًّا، كنت أريد أن أتصوَّر المكان مسكونًا بشبح غابو. كنت أرى بطريقة أقلَّ انتماء إلى أفلام الرعب أن شقتي ممسوسة بضرب من السحر قد ينسرب إلى كتابتي أنا. كنت أريد أن أفسح له المجال فيلهمني، وأستعمله ذريعة لتمرير ربَّات الفن اللاتي كنت أشعر بهن بالفعل على مدار حياتي في الأماكن الأخرى التي سكنت فيها وكانت أقل فتنة.

وإذ ذاك تجاوز غابو الحدود. بعد أيام من اكتشافي الخبر، صحوت في جنح الليل متصوِّرة أن باب غرفة نومي قد انفتح. ولما فتحت عيني رأيت الباب مغلقًا. لا بدَّ أن الوقت كان مبكرًا للغاية من الصباح، فقد كانت الدنيا لم تزل مظلمة بالخارج، ولكن ثقلًا في صدري جعلني أفكر في أنني لا بد أن أكون قد نمت ساعات كثيرة وساعات. ثم سمعت، خارج الغرفة، انغلاق باب آخر، باب غرفة المكتب التي تستعملها شريكتاي في السكن، ووقْع خطى. في الصباح التالي أقسمت شريكتاي في السكن أنهما نامتا الليلة من أولها إلى آخرها. وسواء أكانت تلك الخطى حقيقية أم لم تعدُ تأكيدًا منحازًا، كان ثمة أمر واحد واضح: هو أن غابو هنا.

* * *

انتقل غابرييل غارثيا ماركيز إلى برشلونة في عام 1967م مع زوجته مرسيدس وابنيه الصغيرين رودريغو وغونزالو، ليقضي في العاصمة الكتالونية سبع سنين. وهنا كتب رواية «خريف البطريرك» التي تناول فيها حياة طاغية كاريبيٍّ نموذجي، أو هي بحسب وصف غابو نفسه لها «قصيدة عن عزلة السلطة». قبل بضعة أشهر من انتقاله إلى هنا، كانت «مئة عام من العزلة» قد نشرت في جنوب أميركا ولقيت ثناءً هائلًا، فحظي على إثرها مباشرة بوضعية النجم. وما كاد يضع قدميه في إسبانيا -التي لم يكن الكتاب قد نشر فيها بعد- حتى أتاح له ذلك النجاح للمرَّة الأولى منذ بداية مسيرته في الكتابة أن يعمل كاتبًا متفرغًا من دون أي عمل جانبي آخر.

بعد خمسين عامًا، أي في عام 2017م، انتقلت أنا إلى برشلونة، بغير شريك حياة أو أبناء، بل وحيدة تمامًا. لم أجئ وقد نشرت أنجح الروايات نقديًّا في أميركا اللاتينية ولا كنت أدخلت على متن الأدب جنسًا أدبيًّا جديدًا، ولكنني كنت قد جئت لغرض مماثل: وهو أن أكون صحافية متفرغة. وبضربة حظ الكتاب، أو ربما بإرشاد كوني أعلى، حططت الرحال في البقعة نفسها التي قضى فيها غابو عامه الأول في برشلونة، في «شارع جمهورية الأرجنتين»، وفي الشقة نفسها.

أول ما جذبني إلى الشقة هو اسم الشارع. فأنا في الأصل من الأرجنتين، ولما رأيت الإعلان في النسخة الإسبانية من صحيفة كاريجليست، قلت في نفسي: هذه علامة. كانت الصحيفة الأولى التي نظرت فيها، بعد ما قيل لي مرَّات ومرات: إن العثور على شقة مناسبة بسعر مناسب أمر يستغرق أسابيع، وعرفت على الفور أنها هذه الشقة. كانت الغرفة التي استأجرتها غارقة في الإضاءة الطبيعية، وأكبر من غرفتي السابقة في الولايات المتحدة، ولها شباك ضخم مطل على الطريق الرئيس. لم يكن المكان مفروشًا بالكامل، ولكنني لم أستغرق وقتًا يذكر حتى تخيلت مكتبًا تحت الشرفة، أقضي عليه ساعات في القراءة والحلم والكتابة.

في ذلك الوقت، لم تكن لديَّ فكرة بأن كاتبًا آخر سبق له أن امتلك تلك الإطلالة نفسها. فالصحافي خافي آين من صحيفة «لافنغارديا» الكتالونية حظي بفرصة الحديث مع غابو في عام 2005م في أثناء بحثه لكتاب «Aquellos años del Boom» الذي يرصد فيه قصة كتاب أميركا اللاتينية في برشلونة في ستينيات القرن العشرين وسبعينياته، فأكد -دونما أدنى دهشة لي أو لأي ممن قرؤوا أعمال ماركيز- أن غابو كان يؤمن بالأرواح والخرافات وبقوى البيوت وتواريخها. حكى لي آيس أيضًا أنه من الوارد تمامًا أن يكون غابو قد بدأ كتابة «خريف البطريرك» في الغرفة نفسها التي أكتب فيها هذه القصة الآن.

قال آيس: «أنا واثق أنه كان يؤمن بأن شيئًا من حضوره ومما كتبه قد بقي في روح الشقة بعد رحيله هو عنها. ما من شك في ذلك».

حصل ماركيز على جائزة نوبل في الأدب سنة 1982م، وهو يشتهر أكثر ما يشتهر بأنه أبو الواقعية السحرية، وأشهر أعماله «مئة عام من العزلة» و«الحب في زمن الكوليرا». لكنه كان أكثر من مجرَّد روائي. فقد كان سياسيًّا «يساريًّا ملتزمًا» ونشطًا أحاط نفسه بثوريين من أمثال فيدل كاسترو والرفاق المناهضين للفاشية في إسبانيا. كذلك كان صحافيًّا ظلَّ يكتب المقالات حتى بعد تحقيقه النجاح ككاتب روائي. قام بتغطية الثورة الكوبية في الخمسينيات من القرن العشرين. وكتب عن تحطم سفينة حربية كولومبية كاشفًا عن فضيحة عسكرية وتسبَّب في اضطراب وطني. ولعل الأوثق علاقة بي -أنا المهووسة بالبيتلز- أنه نشر نعيًا لجون لينون بعد مقتله في سنة 1980م. وقال فيه: إن «لوسي في السماء مع الماس» -التي بسببها سُمّيت باسمي- هي واحدة من أجمل أغنيات لينون. ولقد قام ماركيز قبل وفاته بتأسيس منظمة غير ربحية تستثمر في الصحافيين الإسبان وتدعمهم. مصادفة أخرى: نظرت في «مؤسسة غابرييل غارثيا ماركيز للصحافة الجديدة» لأرى على واجهة موقعها الإلكتروني صورة ثلاثة صحافيين من بينهم أستاذ سابق لي. ولما سألت آيس عن رأيه فيما لو كان غابو يروقه أن يسكن صحافي في بيته القديم، كان جوابه تعبيرًا إسبانيًّا فريدًا هو Hombre, sí أو «بالطبع».

* * *

كان ماركيز الحلقة الأولى في سلسلة كتاب أميركا اللاتينية الذين وصلوا إلى برشلونة في أواخر الستينيات، وهي الحقبة المعروفة اليوم في تاريخ الأدب بــ«الانفجارة الأميركية اللاتينية». أغلب هؤلاء الكتاب -ومن بينهم ماريو فارغاس يوسا، وخوسيه دونوسو، وخوليو كورتاثار- جاؤوا إلى برشلونة بسبب كارمن بالسيلز وهي الوكيلة الأدبية الكتالونية التي يوعز إليها فضل تغيير وجه النشر في العالم الناطق بالإسبانية. والحق أن كورتاثار كان يعيش في باريس لكنه كان دائم التردد على برشلونة. وما كادوا يحضرون في برشلونة حتى توسَّع سوق الكتّاب وحققوا بغتة النجاح في أرجاء أوربا كلها، لا في الدول الناطقة بالإسبانية فقط. وجدت لوتشيا إسكاريو نفسها وزوجها لويس فيدوتشي في قلب عاصفة أدبية جديدة. التقى الزوجان -وهما عالمة نفس وطبيب نفسي- بغابو ومرسيدس في عشاء أقامه صديق مشترك في أثناء شهورهما الأولى في برشلونة. وسرعان ما توطدت بينهم الصداقة، وأثبتت تلك الصداقة أهميتها في حياة غابو، وبقي الزوجان يتزاوران ويتواصلان طوال عقود.

غابرييل غارثيا ماركيز مع جورج إدواردس وماريو فارغاس يوسا، وخوسيه دونوس، وواي ريكاردو سواي، والوكيلة الأدبية كارمن بالسيلز

قالت إسكاريو حينما التقيتها ذات صباح ربيعي مطير: «لقد كان الإنصات إليه وهو يحكي الحكايات متعة. في كتابته وفي حديثه كان فاتنًا».

من أوائل الأشياء التي سألتها عنها -وأنا لا أكف عن تنبيه نفسي إلى أن تلك المرأة الجالسة أمامي كانت من أقرب أصدقاء غابو- سؤال عما لو كانت زارته في شقته الواقعة في شارع الأرجنتين التي باتت شقتي الآن؟ قالت إسكاريو: إنها لم تفعل، وإنهما كان لا يعرف أحدهما الآخر تلك المعرفة الوثيقة في أثناء إقامته هناك، وإنها لا تعتقد أن غابو ومرسيدس كانا يستقبلان الكثيرين في تلك السنة الأولى. لكنها تتذكر أنها أوصلتهما إلى تلك الشقة في ليلة لقائهم الأولى. قالت إسكاريو: «بقينا نثرثر في السيارة وقررنا أن نلتقي في اليوم التالي على الغداء مصطحبين الأطفال». ولإسكاريو بنت في مثل سن ولدي غابو. «لكننا لم نصعد إلى الشقة».

حتى جيرالد مارتن -كاتب سيرة ماركيز- لا يعرف غير القليل عن المدة التي قضاها في شارع الأرجنتين. وبعد تبادل كثير من الرسائل الإلكترونية والحوارات المطولة عبر سكايب، قام مارتن -الذي لم يكن قد رأى شقتي إلا من الشارع- بزيارة الشقة، في أثناء رحلة عمل إلى برشلونة، راجيًا هو الآخر أن «يستشعر غابو». كنا نشرب الشاي في غرفة المعيشة التي جلس فيها غابو في يوم من الأيام، ولعله جلس أيضًا يشرب الشاي مع أسرته، حكى لي مارتن عن السنوات التي قضاها في العمل مع ماركيز في أثناء كتابته سيرته الصادرة بعنوان «غابرييل غارثيا ماركيز: حياة». التقى غابو في شتى أرجاء العالم، في كولومبيا وفي المكسيك، ومرة في كوبا حيث قابل كذلك فيدل كاسترو. قال مارتن: إنه «كان صاحب حدس مذهل. كان قادرًا بحقًّ على قراءة عقول الناس»، وكان خرافيًّا، فقد حدث مرة أن امتنع ماركيز عن شراء بيت لمجرد زعمه أنه مسكون. وإذ ذاك فكرت إن كان ليردعه شيء عن سكنى بيتي.

*  *  *

ألقى بي خبر ماركيز هذا إلى حمّى التقصِّي: كيف كان شكل حياته في شقتي؟ ما الذي كان يفكر فيه ويكتبه ويحلم به وهو مقيم هنا؟ هل كان يشاهد نفس الشجرة المنتصبة أمام غرفة نومي إذ تنفض أوراقها في الخريف ليراها بعد ذلك إذ تسترده في الربيع؟

غير أنه فيما عدا لقائي بإسكاريو وجيرالد مارتن، لم يقدني بحثي عن حياته في شقتي إلى الكثير. كنت أعرف أنه عاش هنا فيما بين نوفمبر 1967م وفبراير 1969م، أي ما يربو قليلاً على العام. كنت أعرف أن المكان كان صغيرًا جدًّا عليه هو ومرسيدس فلم يستضيفا فيه أحدًا. لم يتذكر أحد ممن تكلمت معهم أنه زار الشقة، ولم يكن أيٌّ من جيراني الحاليين مقيمًا قبل خمسين سنة، وما من صور فوتوغرفية -في حدود علمي- للمدة التي قضاها هناك. أما ملاك مقاهي الحي العديدة، التي تمتلئ بشيوخ يقرؤون الجرائد في الأركان المعتمة، أو بمن يشربون البيرة، فنظروا إليَّ بأعين خاوية حينما سألتهم إن كانوا يعرفون أن غابو قد زار أماكنهم قط. كنت أسأل مشيرة إلى شباكي: «هل كنت تعرف أنه أقام في هذا المكان من الشارع؟». كانوا يهزون أكتافهم ويعبسون، ويقولون: إنهم لم يسمعوا بشيء من ذلك. فضلًا عن أن أقدم حانة في الشارع -حسبما أضاف بعضهم- قائمة منذ نحو ثلاث وثلاثين سنة فقط. والمقهى الوحيد الذي كان يمكن أن يفضي إلى أي كشوف مقهى في الحي أغلق في أكتوبر الماضي بعد أكثر من ثمانين عامًا. فضلاً عن أن والد مالكه مات، وابنه لا يكاد يتذكر السنين التي قضاها غارثيا ماركيز مقيمًا على بعد عمارتين.

لكن في حين أن الحي الذي أقيم به قد محاه من ذاكرته الجمعية فيما يبدو غير تارك إلا شبحًا باهتًا لمن يأتون باحثين، فلا تزال في حي ساريا القريب  قصص عنه حائمة في الهواء.

انتقل غابو إلى ساريا سنة 1969م مع أسرته وقضى بقية المدة التي قضاها في برشلونة هناك قبل أن يتوجه إلى العاصمة المكسيكية في عام 1974م. ساريا حي راقٍ شبه قروي لا يزال يعطي الإحساس بأنه بلدة مستقلة، وقد ألحق ببرشلونة سنة 1921م بشوارعه الضيقة الملتوية ومقاهيه ذات الجلسات الخارجية وميادينه القديمة المرصوفة بالحجارة. انتقالك إليه يشعرك بالانتقال إلى زمن آخر، أو هو عالم آخر. فلم يحدث مرة أن تركت الحافلة هناك إلا وجدت نفسي غارقة في ذروة سنوات غابو البرشلونية.

نشأ لويس ميخيل بالوماريس -وهو ابن الوكيلة الأدبية كارمن بالسيلز- وهو يتردد على شقة غابو في ساريا بصورة شبه يومية بصحبة أمه. قال من مكتبه في وسط مدينة برشلونة: «أتذكر كل ركن في ذلك البيت، أستطيع أن أذكر لك كلَّ تفصيلة فيه». بعد وفاة والدته في 2015م تولَّى بالوماريس وكالة كارمن بالسيلز الأدبية التي لا تزال تمثل كتابًا مثل فارغاس يوسا وإيزابل أليندي. «كنا نذهب إلى بيت غابو فألعب مع رودريغو وجونزالو».

في حوارينا أشار بالوماريس مرارًا إلى ماركيز بـ«العم غابو». تكلم عنه بمحبة قائلًا: إنه كان في غاية السخاء والعطف، وقال: إنه ورث عن غابو أشياء كثيرة، منها أول كاميرا وأول سيارة. قال: إنه نشأ محاطًا لا بماركيز وحده بل بجميع كتاب المجموعة الذين كانوا يقضون الساعات وهم يتكلمون في السياسة والمبادئ. قال بالوماريس: يا مريم العذراء، يا لها من ميزة. كان مجرَّد الإنصات لتلك الحوارات يكفيني. فحتى قبل أن أبلغ السادسة عشرة، ومن خلال الإنصات لكل تلك الحوارات وحدها، حصلت على كثير من الشهادات».

اليوم تبدو العمارة التي أقام فيها غابو في ساريا شبيهة شبهًا كبيرًا بما كانت عليه أيام سكناه إياها. هي مبنى صغير من خمسة طوابق له حديقة أمامية، وتقع عند ملتقى شارعين صغيرين مخصصين للمشاة. أردت أن أتكلم مع ساكنها الحالي، وهو عالِم محيطات يقضى من وقته تحت الماء أكثر مما يقضي على البرِّ شأن شخصية تكونت من رواية لغارثيا ماركيز. كنت أشعر بالفضول: هل ألهمه مكان ماركيز هو الآخر؟ هل رأى أو سمع أي شيء مفارق للطبيعة؟ وتراه تساءل ربما إن لم يكن من قبيل المصادفة أن انتهى مقيمًا حيثما عاش في يوم من الأيام غارثيا ماركيز؟

وقفت خارج العمارة، غير متأكدة بأي من أرقام الشقق ينبغي أن أضغط الزر، حينما بدأت تمشي على المنحدر عجوز تتكئ على عصا. سألتها: منذ متى وهي تعيش هنا، فقالت: «أنا عندي إحدى وثمانون سنة، وقد عشت طويلًا فلم أعد أتذكر». لم أدر أتتكلم عن إقامتها في الشقة أم الدنيا. وسرعان ما انضم للحوار جار آخر، ولم يكن بينهما من يعرف في أي شقة بالضبط عاش ماركيز هنا، ولكنّ الاثنين سمعا قصصًا عنه «في هذه الأنحاء». لم يحدث قط أن تكلمت مع الساكن الحالي، ولكن على بعد بضع نواص من العمارة، عثرت على كشك الجرائد الذي كان غابو يشتري منه الورق لآلته الكاتبة في كثير من الأحيان. قال لي مالك المتجر الحاليُّ: إن غابو ساعد مُلَّاكه السابقين على إقامة المتجر في أول عهده بالسكنى في الحي. المتجر صغير، مكدَّس بالكتب والجرائد. على الجدار الأيمن صورة ضخمة بالأبيض والأسود لغارثيا ماركيز، كما لو أنه ملك البلد أو زعيم ديني فيها.

*  *  *

ثمة جزء واحد من المدينة يبدو أن ماركيز تلاشى منه تمامًا. ففيما أنت سائر الآن في شارع لاس رامبلاس، يصعب أن تتخيل غابو فيه. لقد كان هذا الشارع السياحي المخصص للمارة في قلب برشلونة هو الجزء المفضل لديه في المدينة، فهو شارع كانت تصطف على جانبيه في يوم من الأيام أكشاك الكتب والأسواق المفتوحة المختصة ببيع الطيور والحيوانات الأليفة. لكنه من أسف صار بعد خمسين عامًا مكانًا مزدحمًا يمتلئ بعصي السيلفي والمجموعات السياحية المستولية على كامل الشارع والمارة الماضين يراوغ بعضهم بعضًا. نظريًّا، ينبغي أن يكون في المكان شيء من السحر، فوق البقاع التي سار فيها ماركيز، لاس رامبلاس له تاريخ ثري من الثورة والمظاهرات والكتاب الآخرين الذين قضوا بعض أوقاتهم فيه من أمثال جورج أوروِل. لكني بينما أسير بمجموعة من السائحين تلو مجموعة، وقد ظل أولئك يتوقفون أمامي لالتقاط صور في لاس رامبلاس، بدأت أتشكَّك في رومانسيتي السابقة. ربما لا علاقة للأماكن بمن سكنها من الناس، وقضوا فيها أوقاتهم، وساروا على أرضها.

منذ أن اكتشفت أن غابو عاش يومًا ما حيثما أعيش الآن، صار كل رجل ذي شارب في منتصف العمر ممن أصادفهم في شوارع برشلونة هو إياه ولو لجزء من الثانية. على الرغم من أنني قبل أن أعرف تاريخ شقتي لم أنظر مرتين لأيٍّ من أولئك. ومثل ذلك يسري على القصص التي بتُّ وشريكتاي في السكن نحكيها حاليًّا عن شقتنا. فبعد الليلة الأولى التي حاول فيها غابو أن يفتح باب غرفة نومي، توقف المصعد في عمارتنا عن العمل، ولكنه توقف في طابقنا فقط. وظلت جارتنا العجوز عالقة فيه لدقائق عدة حتى جاء رجال المطافئ فساعدوها على الخروج. وجاء فريق صيانة العمارة لإصلاحه مرات كثيرة ومع ذلك ظل يتعطل، وفي طابقنا الرابع وحده. ولا أحتاج إلى القول: إنني ما زلت أستعمل الدرج على سبيل الاحتياط. وفي ليلة أخرى، بعد إصلاح المصعد إصلاحًا نهائيًّا، استيقظت شريكتي في السكن صارخة من رعب ليلي. لو كان ذلك كله قد حدث قبل شهور لما جمعت بين تلك القصص، محاولة ومتعمدة أن أصنع منها سردية متماسكة. فالأرجح أن ذلك كله ليس سوى جزء من نزوعي إلى رؤية الحياة كأن ثمة من يكتب هذه الأحداث من مكان آخر. والعثور على ثيمات وموتيفات ونُذُر. وإدخال شبح كاتب إلى غرف شقتي.

قد تكون طاقة غابو حاضرة، بطريقة يتعذَّر تفسيرها ولم يتوصّل إليها بعد علماء الفيزياء وإنني أعد الثواني انتظارًا لأن يبعث لي أخي الفيزيائي رسالة ينقض فيها كل ذلك. وربما لا يكون الأمر كذلك. بوسعي أن أختار التصديق، أو عدم التصديق. فما الفارق؟ لا شيء يتغير، في نهاية المطاف، فغرفتي تبقى مربعة رباعية الجدران بيضاءها، وفيها علم للأرجنتين، ولها شباك مطل على شارع يحمل اسم الأرجنتين. الشيء الوحيد الذي يتغير هو نظرتي. وما دمت أشعر أن غابو هنا، فهو هنا، ولو في عيني أنا، ومن واقع تجربتي أنا. وفي نهاية المطاف أنا أحب القصص. وأي شيء أفضل من قصة عن شبح غارثيا ماركيز في غرفتي؟

نشرت هذه المادة في موقع ليت هب.

…………………….

المنشورات ذات الصلة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *