كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
الوعي واللاوعي في عملية الإبداع
يقول الروائي البريطاني المعروف إف. إس. نيبول (1932م) إن الكتابة: «تأتي من أكثر أعماق المرء سرية، والكاتب نفسه لا يدرك تلك الأعماق، لذلك فإن الكتابة نوع من السحر». ترى ما أكثر أعماق المرء سرية التي لا يستطيع حتى الكاتب نفسه سبر غورها؟ إنها بكلمة واحدة «اللاوعي». وقد كان عالم النفس المعروف سيغموند فرويد (1856- 1939م) أول المعتقدين بأن الفن نتاج عوامل نفسية لاواعية، وأنشطة اللاوعي الخفية. إلا أن المبالغة في تلك النظرة أدت إلى طمس حقيقة أن الأعمال الأدبية والفنية عامة ليست ثمرة اللاوعي بمفرده، أو الوعي بمفرده، لكنها نتاج تفاعل مركب بين الجانبين يصعب أن نستبين فيه الطرف المبادر من الطرف الآخر. في هذه العلاقة قد نجد طرفًا موجهًا وآخر تابعًا، طرفًا يبدأ ثم يستمد قوته من الآخر إذا جاز القول. على سبيل المثال عند نجيب محفوظ في «أحلام فترة النقاهة» الصادر عام 2005م، سنرى كيف يكون «اللاوعي» هو الطرف الموجه. وقد قال نجيب محفوظ بصدد كتابه ذلك: إنه كان يستعيد ما يعلق بذاكرته من أحلام كل صباح، يتأملها، ثم ينتقي منها ما يجده صالحًا ويعمل قلمه فيما اختاره. انظر مثلًا الحلم رقم (213): «بينما أسير في الطريق إذ رأيت نارًا تشتعل في بدروم مخزن الأدوية، ومع أن النيران لا تهدد بيتي تهديدًا مباشرًا إلا أنني أبلغت عنها عملًا بتعاليم إدارة المطافئ، وبعد فترة وجيزة وصلت سيارات المطافئ وحاصرت النيران ثم أخمدتها وعرفت الأسباب وحولت المسؤولين إلى التحقيق».
في هذا الحلم سنلمح خوفًا دفينًا من الحريق في لا وعي الكاتب، ربما نشأ لديه في طفولته بسبب حادثة، ثم عاد ذلك الخوف إلى الظهور في الشيخوخة. لكن حلم محفوظ، لم يكن في المنام – مثل كل الأحلام – سوى صور غير مترابطة، فوضعه محفوظ تحت مجهر الوعي الذي يتدخل باللغة والخبرة الأدبية ليمنحنا نصًّا محكمًا في إطار مترابط هو ثمرة تفاعل بين عالمين أو مستويين من الوعي. وقبل أن يكتب محفوظ «أحلام فترة النقاهة» كانت له ملاحظة حول الوعي واللاوعي في غاية الأهمية عبر عنها في كتاب «أنا نجيب محفوظ»(1) حين قال: «الكاتب يعبر عن نفسه وليست هناك خطة يمكن أن يفرق فيها بين الوعي واللاوعي… ولقد بدأت بعض الأعمال هكذا، وهكذا انتهت على النحو المكتوب. أين الوعي واللاوعي في ذلك كله؟ لا أدري». هناك مثال خاص على قوة اللاوعي في عملية الإبداع وسخريته من الوعي يتجسد في حالة الكاتب الروسي الكبير نيقولاي غوغول (1809- 1852م)، صاحب المسرحية الشهيرة «المفتش العام» سنة 1836م، التي سخر فيها بشدة من فساد النظام البيروقراطي في عهد القيصر نيقولاي الأول. عرضت المسرحية مرة واحدة ثم منع عرضها بعد أن أثارت عاصفة من الغضب الرسمي بما تحتويه من تنديد قاس بالنظام الروسي البيروقراطي. وكانت العاصفة أشد من احتمال غوغول فقرر السفر إلى الخارج لينأى بنفسه عن حملات الهجوم العنيفة. وخارج روسيا، في روما، وسويسرا، قرر غوغول أن يكتب رواية يصالح بها السلطات الروسية، فكتب «نفوس ميتة». هنا كان وعي غوغول السياسي والاجتماعي هو نقطة الانطلاق التي تملي عليه عملًا يهادن به القيصر والبلاط والإعلام. إلا أن اللاوعي أملى عليه عملًا آخر تمامًا جلب عليه المزيد من الهجوم! ذلك أنه في «نفوس ميتة» كتب كل ما كان مخزونًا في لاوعيه من حقيقة نظام العبودية الروسي وجهامته، فجلب على نفسه المزيد من حملات الغضب! وإذا كان اللاوعي من القوة بحيث إنه سخر من وعي غوغول، وإذا كانت أحلام محفوظ تبدأ من اللاوعي لتنتهي بالوعي، فإن هناك في الأدب الحالة الأخرى المعاكسة حيث تكون المبادرة للوعي الذي ما يلبث أن يشتبك بمملكة الظلام المسماة اللاوعي. مثال ذلك «قصة حب» التي نشرها يوسف إدريس ضمن مجموعة بالاسم ذاته عام 1957م وكتب لها طه حسين المقدمة، وتدور القصة حول شاب يدعى حمزة يشارك في كفاح الفدائيين ضد المحتل الإنجليزي. لقد طرقت فكرة القصة وعي يوسف إدريس قبل أي شيء آخر، وذلك حينما التقى عام 1954م في معتقل أبي زعبل في القاهرة الدكتور حمزة محمد البسيوني الذي حكى لإدريس عن حياته ودوره الشخصي في العمل الفدائي وكيف أطلق الجنود الإنجليز عليه وعلى زملائه الرصاص في المنشية بالإسكندرية فقتلوا منهم الكثيرين. وقرر إدريس أن يكتب قصة حمزة، انطلاقًا من الوعي بأهمية قضايا التحرر الوطني، والكفاح المصري من أجل ذلك. وقد حول المخرج صلاح أبو سيف القصة عام 1963م إلى فلم بعنوان «لا وقت للحب» بطولة فاتن حمامة. بدأت العملية الإبداعية بالوعي، لكن إدريس كان يغترف من اللاوعي وهو يصوغ عمله، حين رسم شخصية فوزية، المعلمة، التي تشد على أيدي الرجال بقوة. بالطبع فإن خيال الكاتب يقوم بدوره في رسم الشخصيات، لكن أليس هناك احتمال أن مصافحة اليد القوية قد قفزت إلى وعي إدريس من صورة بعيدة مطمورة في اللاوعي؟ من شخصية نسائية ما كان الكاتب قد التقاها ثم غابت في اللاوعي، وظهرت مجددًا أثناء الكتابة؟ لا شك أن هناك مئات التفاصيل التي تبرز من اللاوعي لتكسب العمل حيويته وخصوبته، تفاصيل قد تتعلق بوصف الأماكن، أو بجملة عابرة، أو بعادة ملازمة لشخصية. هذه المرة –مع يوسف إدريس وكثيرين– سنجد أنفسنا أمام الوعي، وهو يستمد قوته من اللاوعي الذي يشارك في إغناء العمل لتغدو القصة ثمرة تفاعل بين عالمين. وهناك بالطبع مئات الأمثلة الأدبية الأخرى على حالة الوعي عندما يكون هو الطرف المبادر.
وإذا كان الوعي يعرف بأنه عملية عقلية مرتبطة باللغة لاستجلاء كنه الوجود، والذات الإنسانية، فإن كارل يونغ مؤسس علم النفس التحليلي (1875- 1961م) يعتبر أن «اللاوعي» عقل آخر، أو هو بالأحرى «العقل الطبيعي» الأكثر شمولًا من عقلنا الواعي، ونحن نعرف بوجود هذا «اللاوعي» من آثاره، مثلًا عندما نجد أنفسنا مسوقين للقيام بعمل نجهل هدفه مع أننا ندري أننا نقوم به، أو من كلمة تفلت في غير سياقها، وغير ذلك. وهكذا فإن العقل الواعي الذي يمكننا من الإحساس بالعالم اليومي قد لا يكون على أدنى علم بما يحدث في مملكة «أخيه الأكبر» أي اللاوعي. ومن الأهمية بمكان إدراك أن هناك اللاوعي الشخصي personal unconscious الذي يشتمل على الأمور والهموم الشخصية للفرد، وبين اللاوعي الجمعي collective unconscious الذي يجسد إرثًا مشتركًا للبشرية، وإذا كان عدد كبير من أحلام نجيب محفوظ يشير إلى اللاوعي الفردي للكاتب، فإن بعضًا من تلك الأحلام يدل على اللاوعي الجمعي، كالخوف من النيران، والموت، والمجهول، وما توارثته البشرية من مخاوف متجذرة من ظلمات الغابات والكهوف الأولى.
نعم، تأتي من أعماق سرية كما قال «نيبول»، أي أنها إما أن تأتي من اللاوعي، أو أن اللاوعي يشتبك لاحقًا بالفكرة الواعية. لذلك يجد الكاتب أحيانًا كثيرة خاطرًا أو فكرة قد وثبت إلى ذهنه، لا يدري من أين، ولا يعرف حتى سبب ظهورها المفاجئ في هذا التوقيت «أحيانًا يسمون ذلك الإلهام»، خاطر كامن في اللاوعي أثاره وحركه عامل خارجي، رائحة معينة، لون زجاج أو قماش، نبرة صوت، نظرة، تستدعي شيئًا من غور اللاوعي. وعلى الكاتب أثناء كتابة العمل الأدبي أن ينتبه بشدة للعلاقة بين العالمين بداخله، لكي لا يفسد العمل. ماذا أعني بذلك؟ كان عندي صديق كتب قصة جميلة عن شاب وقع في غرام فتاة في منطقة شعبية، لكن أهلها لم يجدوه أهلًا لها. بذلك كانت القصة تنتهي، مؤثرة، وعذبة. خلال إعادة كتابة القصة زج الكاتب بمشهد تقدم فيه رجل أعمال ثري لخطبة الفتاة. ولم يكن للمشهد أي علاقة بلب العمل. وحين سألته عن ذلك قال: إنه أراد الإشارة إلى دور الفوارق الاجتماعية في سحق المحبة! أهلًا بالفوارق الاجتماعية ودورها السلبي، لكن ليس هذا موضعها ولا سياقها. وبعد تفكير أدركت أن «وعي» صديقي أملى عليه أن يضيف لمسة اجتماعية إلى العمل، فأفسد ما أملاه من قبل اللاوعي الذي ألهمه قصة حب جميلة. لهذا يجب على الكاتب أن ينظر بحذر إلى هذين العالمين من الوعي، والعلاقة بينهما، بحيث لا يجره الوعي إلى إتلاف جهده الإبداعي. وكم من أعمال أفسدها التدخل الواعي فيها لغرز هدف، أو مبدأ. وجدير بالذكر في هذا الصدد أن يوسف إدريس صرح مرة بأنه لا يعيد كتابة قصصه قط. وقال عن ذلك: «زمن كتابة القصة عندي جلسة واحدة فقط، طالت أم قصرت، فإذا ما جلست إلى نفس العمل مرة أخرى أكتب قصة مختلفة. في كل مرة تتغير العوامل النفسية ويتغير التوهج العقلي نوعًا وكمًّا، لذلك لا أُبَيِّض قصصي، ولو فعلتها لجاءت قصصًا أخرى، إن القصة تخرج دفعة واحدة»(2). وحين يشير إدريس إلى ما أسماه «تغير التوهج العقلي» فإنه يشير في واقع الأمر إلى ذلك المزيج السحري، الغامض، من الوعي واللاوعي في الكتابة. لا يعيد إدريس كتابة قصصه، خلافًا لما قاله همنغواي من أن الكتابة ليست سوى إعادة الكتابة، لكن إدريس يخشى بإعادته الكتابة أن يتدخل الوعي فيصبح العمل عملًا آخر.
ولا شك أن طريقة عمل إدريس لا يمكن أن تكون نموذجًا يحتذى، لأن الكتابة تستلزم التجويد والإعادة والإتقان، وبهذا الصدد أشار يحيى حقي في كتابه «أنشودة البساطة» إلى أنه يكتب الجملة الواحدة ثلاثين وأربعين مرة! وكان يعتز بأن كتابه «صح النوم» يضم صفحات كاملة «لم يتكرر فيها لفظ واحد»! ولكن إذا كان بقدرة الوعي أن يدمر العمل بالتدخل، أو يضلل الكاتب في مجرى العملية الإبداعية، فإن في مقدرة «اللاوعي» أيضًا، منفصلًا، أن يدمر العمل الأدبي، وأن يضلل الكاتب، إذا ظل ذلك «اللاوعي» قائمًا بمفرده، أو إذا ظل المبدع يعتقد أن الفن لا يصدر عن العقل والوعي والتفكير، بل يصدر فقط عن «اللاوعي» بمفرده الذي يمثل العنصر الرئيسي في العملية الإبداعية. فقد قادت هذه النظرة التي ضخمت دور «اللاوعي» إلى عزلة الأدب، واستغراقه في رموزه الذاتية، وعوالمه الخاصة التي لا تجد شيئًا مشتركًا بينها وبين تجارب البشر الآخرين. والأصح في تقديري أن كل عمل أدبي وفني هو ثمرة اشتباك بين عالمين، ومستويين من العقل، اشتباك قد يبادر به الوعي ثم يمضي ليتغذى على العوامل الدفينة في اللاوعي، أو يبادر به شيء ما، يثب إلى السطح من العوالم الخفية، فيعمل العقل فيه التأمل والصياغة، وخلال ذلك تبقى روح المبدع ساحة معركة مشتعلة بأنوار الانفعالات والتوتر.
هامش:
1-كتاب أنا نجيب محفوظ. سيرة ذاتية. تقديم إبراهيم عبدالعزيز. صدر في السلسلة الثقافية لطلائع مصر. المجلس القومي للشباب. ديسمبر 2005م. ص 104.
2- مجلة فصول المصرية – العدد الرابع – سبتمبر 1982م- شهادات كتاب في ملف وضعية القصة القصيرة من خلال تصورات كتابها.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق