كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
المجتمع المدني بين «التقديس» و«الشيطنة»
من الآفات العربية؛ الولع بالموضات والتقليعات السياسية والفكرية التي تردنا متأخرة، في الأغلب الأعم، من سياقات سياسية وثقافية أخرى، غربية في الأغلب، فنأخذ بها، ونكررها من دون تمعن في محتواها، والتفكر في التطبيق الخلاق لها على ظروفنا الخاصة. من صور ولعنا بالمفاهيم من دون أن نسعى لتجليسها في بيئتنا؛ لأن أشكال تجليها عندنا لا يمكن أن تكون صورة طبق الأصل، أو بالحذافير، لصور تجليها في مجتمعات أخرى تختلف عنا، في ملابسات تطورها السياسي والثقافي والاجتماعي- طريقة تعاطينا مع مفهوم المجتمع المدني الذي يجري اجتراره بالكثير من السطحية، وعدم التمعن.
غدا هذا المفهوم اليوم من أكثر المفاهيم تداولًا في الحياة السياسية والثقافية العربية، ولو قارنا ذلك بما كان عليه الأمر قبل عقدين، أو ثلاثة، لكدنا نقول: إن مفهوم المجتمع المدني مفهوم جديد على الثقافة السياسية العربية، فالنظرة إلى هذا المفهوم، قبل ذاك، كانت هامشية، وربما انطوت على شيء من الازدراء، لكن انقلبت الحال الآن، وأصبح المفهوم من الموضوعات الأثيرة لدى نخبنا السياسية والفكرية. غير أن هذا التداول الواسع للمصطلح لا يعني أنه يُستخدم في حالات كثيرة في مكانه الصحيح، فما أكثر ما يطلق على مظاهر من النشاط، أو على تجمعات أو جماعات، يصعب إدراجها في إطار مفهوم المجتمع المدني، فبات، لدى الكثيرين، كل ما هو غير الدولة، أو خلاف المؤسسات الحكومية، يصنف على أنه مجتمع مدني من دون النظر في طبيعة الوظائف التي تؤديها تلك التجمعات والجماعات، أو الرسالة التي تنطوي عليها بعض الأنشطة التي تدرج، خطأً، في سياق المجتمع المدني.
لا يجري، كما يجب، التفريق بين مفهومين مختلفين، حتى لو انطويا على درجة من التقاطع أو الالتقاء في ظرف من الظروف أو في مرحلة من المراحل، وهما مفهوما المجتمع الأهلي والمجتمع المدني، فبينما يمكن للمجتمع الأهلي أن يستوعب في ثناياه كل ما هو «لا دولة»، نعني كل ما هو خارجها، بصرف النظر عن الحمولة الفكرية أو السياسية أو الاجتماعية التي ينطوي عليها، حتى لو كانت تقليدية وأشدَّ محافظة من الدولة ذاتها؛ يعكس المجتمع المدني رؤية ومصالح الشرائح الحديثة من المجتمع، وهو إذ يتخذ لنفسه موقعًا مقابلًا أو معارضًا للدولة، فإنما بهدف حملها على المزيد من تدابير وإجراءات تجذير الممارسة الديمقراطية والشراكة مع المجتمع، وفي اتجاه تطوير بنى المجتمع هيكليًّا، نحو الحداثة وإقامة دولة القانون والمؤسسات، التي يفترض فيها أن تكون نافية للولاءات السابقة لبنية الدولة، والتي تعمل على النقيض من آلياتها. فلا يصح أن ندرج الحركات الاجتماعية، التي تبرز على شكل تيارات دينية أو مذهبية، في خانة المجتمع المدني، وهي التي تتحرك بإرادة مرشد روحي أو زعيم قبيلة، ولا صلة لها، من قريب أو بعيد، بالمجتمع المدني الذي هو، في المقام الأول، مؤسسات ومنظمات وجمعيات وهيئات مستقلة ليس عن الدولة وحدها، إنما أيضًا عن الأطر التقليدية القائمة في المجتمع، أو هكذا يجب أن تكون. ولأنها كذلك، فعلينا اشتراط صفة الحداثة فيها، لا أن تكون خاضعة للكوابح الاجتماعية والسياسية القائمة في مجتمعاتنا، التي تعوق فكرة الحداثة أو ترفضها جملة وتفصيلًا.
التقليدية الجديدة
ويفاقم من خطورة هذا طبيعة الحراك السياسي الاجتماعي في البلدان العربية الذي لم تعد القوى التي بشَّرت بفكرة الحداثة، أو رفعت رايتها هي المؤثرة والفاعلة فيه، حيث تراجع دورها كثيرًا لمصلحة قوى أخرى لا يمكن أن نصفها بأنها جديدة، رغم حداثة انخراطها في مثل هذا النوع من النشاط السياسي، وهي تمثل، برأينا، نوعًا من التقليدية الجديدة، أو أنها التقليدية ذاتها، منبعثة في ظروف اليوم، حاملة معها خصائص هذه الظروف، وهي تنخرط في النشاط السياسي والمجتمعي تحت تأثير ما يمكن اعتباره ردة الفعل القوية على ما أتى به التحديث المجتمعي، حتى لو اتفقنا على عشوائيته، الذي زعزع البنى التقليدية وأفقد رموز هذه البنى الكثير من مكانتهم ودورهم، حيث يسعون جاهدين لاستعادتهما، متكئين في ذلك على القاعدة الاجتماعية الواسعة التي تلتحق بهم في الظرف الراهن ومستخدمين إياها وقودًا لبلوغ هذا الهدف.
نحن من دعاة أن يكون هناك مجتمع مدني مستقل وفعّال في البلدان العربية، غير تابع للحكومات ولا يأتمر بأوامرها، من دون أن يعني هذا، بصورة آلية، أن يكون على خصومة مع الدولة، إنما يؤدي دوره في الحياة السياسية والاجتماعية للبلد المعني، موجهًا ورقيبًا ومُرشِدًا لأداء السلطة التنفيذية، دون أن يترتب على ذلك «تقديس» كل ما يمت للمجتمع المدني بصلة، إزاء «شيطنة» كل ما يمس للدولة بصلة. المجتمع المدني، من حيث هو مقابل للدولة، يتعين عليه أن يكون أكثر جذرية من الدولة ذاتها في انحيازه لقيم الحداثة والتقدم والحقوق الديمقراطية، حازمًا في نضاله من أجل بناء الدولة الحديثة والعصرية، التي عليها أن تتحرر من ثقل الولاءات والتعاضدات التقليدية السابقة لها، من قبيل القبلية والعشائرية والطائفية والمذهبية والمناطقية وسواها، عبر تكريس مفهوم المواطنة المتساوية للناس جميعًا، وإخضاعهم جميعًا، وعلى قدم المساواة، للقانون بما ينص عليه من حقوق ومن واجبات، ونبذ أشكال التمييز والمحاباة كافة، بناءً على أي من الولاءات والانتماءات الفرعية.
نقول هذا إزاء الكثير من الأطروحات التي يسعى أصحابها لإقامة التضاد بين المجتمع المدني والدولة، فيقدمون هذه الأخيرة، في الأغلب الأعم، بصفتها خصمًا لا شريكًا. هذا الطرح محمل بالخطورة، ليس لأن دولتنا العربية بريئة من حالة الخصومة التي كثيرًا ما تختارها لنفسها في مواجهة المجتمع المدني، ناظرة إليه على الدوام نظرة الريبة والشك، إنما لأن هذه المقابلة بين «ما هو دولة (وبين) ما هو غير دولة»، يمكن أن يقود إلى مزالق في وضعنا اليوم الذي باتت فيه الدولة ككيان حديث مستهدفة من الطوائف والعشائر والقبائل، التي نظرنا إليها دائمًا على أنها سابقة للدولة وعائقة لبنائها.
لوجود مجتمع مدني يلزمنا وجود الدولة الحديثة، وبالتالي فإن أولوية التكوين يجب أن تعود لها، ففي غيابها يصبح الحديث عن المجتمع المدني ضربًا من العبث، فهي المنظم والناظم الضروري لأمن المجتمع واستقراره وتنميته، إذا وفت بشروط العدل والمساواة بين مواطنيها، وحين تضعف الدولة أو تنهار، يضعف المجتمع المدني أو ينهار. وعلينا أن نتمعن فيما شهده، ويشهده، عدد من بلداننا العربية اليوم: العراق، وسوريا، وليبيا، واليمن وغيرها، فما إن انهارت الدولة المركزية أو ضعفت، حتى استشرى نفوذ الجماعات المتكئة على الإرث السابق لقيام الدولة، من تكوينات قبلية وعشائرية ومذهبية وما إليها، التي أصبح للكثير منها أذرع مسلحة، على شكل ميليشيات، تفرض سلطتها بالقوة على البلاد والعباد، وتحول بعضًا منها إلى أحصنة طروادة لقوى ودول خارجية. لكن قوة الدولة يجب ألا تكون على حساب قوة المجتمع، فلا بد من بلوغ مرحلة من توازن المصالح، بموجبها يحفظ المجتمع مهابة الدولة ويحترمها ويلتزم بالأنظمة والقوانين التي تنظم سبل الحياة في البلد المعني، مقابل أن تحترم الدولة استقلالية المجتمع المدني، وتقرّ بمجاله المستقل عنها الذي لا يجوز احتواؤه.
ثمة نقطة هنا جديرة بالوقوف عندها، حيث بات الكثيرون يماهون بين مفهوم المجتمع المدني وبين منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان، مقتصرين المجتمع المدني عليها وحدها، وغافلين عن أنه أوسع بكثير وأرسخ مكانة وتأثيرًا منها، من دون التقليل من شأن مسألة الدفاع عن حقوق الإنسان وحيويتها وراهنيتها أيضًا، ولكن أيضًا من دون تجاهل أن الكثير منها عبارة عن «دكاكين» صغيرة تتلقى الدعم من جهات غربية، حيث يسترزق الكثير من الحزبيين السابقين والفاشلين، أو غيرهم من الباحثين عن أدوار، على هذا الدعم، من دون أن يكون لما يُديرونه من لجان مرتكزات قوية في مجتمعاتهم، وسبق أن كان هذا الأمر موضع جدل كبير في بعض البلدان العربية، ومثال ذلك ما قيل وكتب عن هذا الموضوع في مصر في عهد حسني مبارك.
بلدان الخليج والقضايا المسكوت عنها
في بلدان الخليج العربي، هناك توجه لا يزال بحاجة إلى تعزيز وتوطيد، بأن تخرج مسألة حقوق الإنسان من نطاق القضايا المسكوت عنها، وليندرج في نطاق القضايا المتداولة والمطروحة للنقاش بغية إيجاد الآليات الملائمة للنهوض بها، بما يتسق والمعايير المتبعة والمصالح الوطنية العليا لدول المنطقة، التي لا يمكن أن تكون في حالٍ من الأحوال مناقضة لاحترام حقوق الإنسان، وصونها. وشهدت بعض بلدان المنطقة تأسيس لجان للدفاع عن حقوق الإنسان، كما جرى إلغاء بعض التشريعات والقوانين التي تُشكل عائقًا في هذا المجال، ونُفذت تدابير في السياق نفسه، حظيت بترحيب داخلي ودولي، لكن يظل هناك جملة من المسائل الكبرى ذات الصلة بهذا الموضوع لا تزال محل نقد، بما فيها أوضاع العمالة الأجنبية في هذه الدول.
إن إحدى سمات تطور المجتمع الدولي الراهن، والمجتمعات المختلفة بوصفها وحدات مستقلة، هو التأكيد على دور المنظمات غير الحكومية في تحقيق التنمية المستدامة، المتوازية والسوية، وتوكيد قيم الشفافية السياسية والإعلامية واحترام حقوق الإنسان، وفي مقدمتها حقوق التعبير الحر عن الآراء المختلفة، وحق هذه الآراء في أن يعبر عنها من قبل أصحابها بوضوح. ومجتمعات الخليج ليست خارج استحقاقات هذا العصر، فهذه المجتمعات هي في قلب التدويل الاقتصادي الذي جعل العالم كله معنيًّا بأمر هذه المنطقة بحكم القيمة الإستراتيجية لسلعة النفط التي تنتجها بلدانها، بل إن هذه المنطقة كانت خلال عقود ثلاثة مسرحًا لحروب اكتسبت اثنتان منها على الأقل أبعادًا دولية، وبعض هذه الحروب اشترك العالم في خوضها إما بشكل مباشر أو غير مباشر، كما أن المنطقة محاطة بتحديات إقليمية كبرى، تُشكل، أو يمكن أن تُشكل، خطرًا على أمن بلدان المنطقة واستقرارها، وتظل هشاشة مؤسسات المجتمع المدني، وضعف دورها، وبالتالي قلة تأثيرها في مجريات الأحداث في بلداننا، إحدى الثغرات التي يجب العمل على تفاديها، لتقوية الجبهات الداخلية لبلداننا إزاء المخاطر المختلفة.
وإذا درسنا ما شهدته بلدان المنطقة من تحولات مهمة في العقود الماضية تحت تأثير التحولات الاقتصادية وتوسع نطاق الخدمات التعليمية والاجتماعية، والانفتاح الثقافي الواسع على العالم الخارجي، وتفاعل المجتمعات المحلية مع تيارات العصر وثقافاته، سنجد أن نواة مجتمع مدني أخذت في التشكل والنمو والتأثير على شكل هيئات مهنية وجمعيات نفع عام واتحادات معنية بشؤون الثقافة وحماية البيئة وحقوق المرأة… إلخ. وبحكم ملابسات التطور الخاصة ببلدان المنطقة، أو بعضها على الأقل، فإن عددًا من هذه الهيئات ظل متكئًا على دعم الدولة، ورغم أن مثل هذا الدعم قد يبدو ضروريًّا، فإن فكرة هيئات المجتمع المدني تتطلب في الأصل استقلالًا في الحركة عن الحكومات؛ لأنها تغطي فضاء آخر مختلفًا، يجب ألا تتدخل الدولة فيه، ويبدو ذلك ضروريًّا للدفع بالمجتمعات نحو النضج السياسي واستكمال مؤسسات الدولة الحديثة.
وإذا كان مبررًا أن الدولة في البداية مطالبة برعاية بعض المؤسسات، وبخاصة ذات الطابع الاجتماعي والخيري، فإن ما نحن بصدده من تحولات يجب أن يدفع بمؤسسات المجتمع المدني لأن تشب عن الطوق وتمتلك آلية مستقلة لنشاطها، وتلك هي المهمة المعقودة على رجال الفكر وقادة الرأي العام في الحقول المختلفة.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب في الوطن العربي
صورة النخب وجدل الأدوار محمد شوقي الزين - باحث جزائري مثل المنطوق الأوربي (elite)، تنطوي مفردة «النخبة» في اللسان...
الإبل في الثقافات: شراكة في الحضارة قفْ بالمطايا، وشمِّرْ من أزمَّتها باللهِ بالوجدِ بالتبريحِ يا حادي
آفاق السنام الواحد عهود منصور حجازي - ناقدة سينمائية منذ فجر التاريخ، كان إدراك الإنسان لتقاسمه الأرض مع كائنات أخرى،...
تجليات الفن في العمارة… رحلة بصرية عبر الزمن
العمارة والفنون البصرية علاقة تكافلية مدهشة علاء حليفي - كاتب ومعماري مغربي منذ فجر الحضارة حتى يومنا الحالي، لطالما...
0 تعليق