كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
الصحوة والوجاهة وتدني الوعي عوامل تضعف فاعلية مؤسسات المجتمع المدني
في السعودية وجود لا بأس به لمؤسسات مجتمع مدني، وإن أخذت أسماء أخرى، وبدأت تدريجيًّا هذه المؤسسات في إيجاد مكان لها، وكذلك أيضًا عملت على تأسيس علاقة مع شرائح المجتمع، الذين بدؤوا يثقون، بشكل أو بآخر، في أدوارها وطروحاتها. بيد أن المؤمل من هذه المؤسسات هو أكثر من طاقتها، وأكبر من المساحة التي تتحرك فيها. فهذه المؤسسات، على الرغم مما سبق، تعاني أمورًا عدة وتواجه تحديات من داخلها، لناحية المشتغلين فيها ووعيهم بطبيعة المؤسسة التي ينضوون تحتها، وتحديات أخرى من خارجها، نظرة المجتمع والحكومة لها، والإمكانات المتاحة أمامها. لكن معظم المهتمين بهذه المؤسسات، يعلقون آمالا على دور فاعل لها في ما يشهده المجتمع السعودي من تحولات وتطوير. في هذا التحقيق يتحدث عدد من الناشطين والحقوقيين لـ«الفيصل»، عن طبيعة مؤسسات المجتمع المدني في السعودية، وعن دورها، كما يتطرقون إلى التحديات التي تواجهها، وإلى إسهامها في مواجهة قضايا حساسة مثل قضية الفساد، الذي تحاربه الحكومة بصورة لا هوادة فيها.
يقول الناشط والكاتب الدكتور عبدالرحمن الحبيب: «يتوافق مجموعة من أفراد ذوي تخصص علمي أو أدبي معين أو عمل خيري أو تطوعي أو تعاوني على إنشاء جمعية، يتحمسون كثيرًا، ويقومون بالإجراءات الرسمية، ويرفعون طلبهم للجهات المختصة.. وينتظرون، ويعلقون في الصحف لائمين الجهة الفلانية أو العلانية على التأخر في الرد.. تصدر الموافقة الرسمية.. يجتمع الأعضاء بالعشرات بنشاط مفعم حيوية وحماسًا وآمالًا كبرى.. تشعر بأن كل شيء سيتحسن في هذا القطاع.. ينتخبون مجلس الإدارة، يدفعون الرسوم.. ثم ماذا؟ في أغلب الحالات: لا شيء مهم، سوى قصاصات ورقية وأخبار صحفية أو موقع هزيل في الإنترنت. مؤسسات المجتمع المدني من جمعيات خيرية وتعاونية وعلمية ومؤسسات أهلية تتفاوت في عملها وعطائها؛ من تلك التي لا تحمل إلا اسمها فقط وتأخذ من الواجهة والحضور الإعلامي أكثر مما تعمل، إلى مؤسسات تصارع ذاتها وتتخاصم على من سيكون المدير. بطبيعة الحال هناك جمعيات تعمل بشكل جيد، لكن الطرح هنا هو عن النسبة الأكبر».
ويقسم الحبيب الواقع الحالي لجمعيات ومؤسسات المجتمع المدني في المملكة إلى ثلاثة مستويات: «الأول هو المستوى الرسمي حيث تشجع الدولة إنشاء جمعيات خيرية وتعاونية ومؤسسات أهلية وتدعمها؛ الثاني مستوى التشريع، فالتشريعات الجديدة وعلى رأسها نظام الجمعيات والمؤسسات الأهلية الصادر عام 1437هـ يشكل نظامًا واعدًا وفعَّالًا؛ أما المستوى الثالث فهو المعيار الوظيفي أو التطبيق على أرض الواقع، الذي يظهر متواضعًا أمام المفترض والمأمول، سواء من ناحية العدد أو النوعية أو الإدارة أو النضج المؤسسي والتنظيمي اجتماعيًّا وثقافيًّا.. فمن معوقات نشاط جمعيات ومؤسسات المجتمع المدني هو ضعف الكفاءة وعدم النضج المؤسسي للناشطين المتطوعين في مجتمعنا التقليدي، سواء من ناحية الوعي والرؤية وبالتالي في وضع الإستراتيجيات وبرامج التنفيذ، أو من ناحية التطبيق والتواصل مع المجتمع، فكثير من الناشطين غير مؤهلين للعمل التنظيمي التطوعي إنما اعتمدوا على أنفسهم بالفطرة وبالممارسة المباشرة على طريقة التجربة والخطأ. كذلك يلاحظ عدم التفريق بين العمل التطوعي والتعاوني (التشاركي) من جهة، والعمل الخيري من جهة أخرى، فالأخير تقدم به مساهمتك مرة واحدة (مبلغ من المال مثلًا) وتمضي بينما العمل التطوعي يمثل مشاركة عضوية متواصلة».
ويلفت إلى أن الدراسات «لاحظت أن من أهم أسباب ضعف إنجازات الجمعيات: الافتقار للخبرة التطوعية والتعاونية، وقلة الكوادر الفنية المؤهلة، وتدني مستوى الوعي التطوعي والدعاية له، فشل بعض التجارب التطوعية والتعاونية يثبط الآخرين. كما يبدو أن من أسباب ضعف الجمعيات والمؤسسات الأهلية هو أن المشاركة والانضمام لمجلس الإدارة يأتي من باب الوجاهة في كثير من الحالات. كما أن ضعف ثقافة العمل التعاوني والتطوعي أدى إلى عدم مبالاة منتشرة بين أعضاء العديد من الجمعيات، وضعف التعاون بين الجمعيات المتشابهة في الأهداف والنوعية. وقد سجلت بعض الدراسات اتكالية الجمعيات التعاونية على الدعم الحكومي، فعلى سبيل المثال تنال الجمعيات التعاونية مئة مليون ريال سنويًّا إضافة إلى الهبات الملكية وآخرها 200 مليون تبرع بها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان (دراسة عبدالله الفرج).
هناك سبب آخر أثّر سلبًا وأضرّ بالتجربة الخيرية والتطوعية وهو تسييس الجمعيات خلال الثلاثين سنة الماضية، رغم أنه تم معالجته لكن لا تزال بقايا آثاره. لقد سبق أن طُرح من المختصين أن سبب ضعف مؤسسات المجتمع المدني يرجع إلى سيطرة تيار ما يسمى بالصحوة على المجتمع خلال العقود الماضية وما نتج عن ذلك من تشويه وخلل ساعد على ضعف المؤسسات المدنية التي نشأت في هذه الأجواء؛ مما أدى لخنق أنشطتها وبرامج عملها آنذاك. وكذلك أشار الدكتور فايز الشهري لبعض مظاهر الانتهازية وتوجيه العمل التطوعي لخدمة أجندات سياسية وحركية في كثير من البلدان مما أفرغ العمل الخيري من نقائه».
ويرى الحبيب أنه لمواجهة السلبيات التي تعترض عمل جمعيات ومؤسسات المجتمع المدني، فإنه من المهم «تدريب وتثقيف الناشطين والمتطوعين والأعضاء والمهتمين في العمل المؤسسي المدني، وتوعية المجتمع بالدور الكبير والمهم لهذه المؤسسات باعتبارها مكملًا لعمل الدولة وداعمًا للاستقرار الاجتماعي والجبهة الداخلية وحصنًا من حصون الوطن. لذا كان من توصيات المؤتمر السعودي الثاني للتطوع المطالبة بقيام جمعية وطنية سعودية للخدمات التطوعية تسهم في تطوير العمل التطوعي في المملكة تخطيطًا وتأهيلًا وتدريبًا، ويُفتَح لها فروع في مختلف المناطق وتنسق مع الجهات العاملة في الخدمات التطوعية بمختلف مجالاتها».
حاجة ماسة لتطوير واقع المؤسسات
ويوضح صاحب منتدى الثلاثاء الثقافي جعفر الشايب أن من أبرز مميزات مؤسسات المجتمع المدني «الاستقلالية عن المؤسسة الرسمية وكذلك عن القطاع الخاص، وهو ما يوفر لها مناخًا أفضل وبيئة أنسب للتحرك الجاد في مواجهة القضايا التي تتبناها والتعاطي معها بصورة واضحة ومباشرة». ويتطرق إلى قضية الفساد وإسهام مؤسسات المجتمع في مواجهته، فيقول: «تلعب مؤسسات المجتمع المدني دورًا مهمًّا في تثقيف وتوعية المواطنين والمسؤولين بأشكال الفساد وأضراره على الوطن اقتصاديًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا، وحول السبل الأفضل لتعزيز النزاهة في القطاعين العام والخاص ودور الجهات التشريعية والقضائية والرقابية في التدقيق على قضايا الفساد وتعزيز الشفافية في عمل مؤسسات الدولة وأجهزتها».
ويشير إلى أن معظم الدول لا تتمكن الهيئات الرقابية فيها «من متابعة جميع حالات الفساد والكشف عنها ومحاسبة القائمين عليها بصورة دقيقة وواضحة لأسباب بيروقراطية وإجرائية، ولتداخل عمل مؤسسات الدولة ولاحتمالات التأثير في سير عمليات التفتيش والرقابة. من هنا تبرز أهمية دور مؤسسات المجتمع المدني لما تتمتع به من مرونة في الحركة وفاعلية في التأثير، بحيث تقوم بإبراز القضايا محل الاهتمام، كما تسهم في التوعية الوقائية في المجتمع لكونها أكثر قدرة على الوصول لمختلف شرائحه بصورة تفاعلية. ومع أن مؤسسات المجتمع المدني لا تمتلك سلطات إجرائية تجعلها قادرة بمفردها على كبح جماح الفساد، فإنها قادرة على خلق رأي عام ضاغط عبر آليات المدافعة المعروفة، للكشف عن مكامن الفساد وإبرازها كطريق لمعالجتها. كما أنها قادرة على تهيئة المادة الخام لحالات الفساد للجهات الرقابية كي تلفت الأنظار لهذه الحالات. وتسهم مؤسسات المجتمع المدني في تأهيل وتدريب عناصر وأفراد جهات التفتيش والمراقبة على أحدث سبل الرقابة والمتابعة، وتدرس الآليات المتبعة في هذا المجال، وتعمل على تطويرها والتنسيق بين مختلف الجهات والإدارات المعنية بهذا الموضوع».
ويرى الشايب أن المرحلة الراهنة ومع التطورات المتلاحقة تبرز حاجة ماسة، «إلى تطوير واقع المؤسسات الحقوقية، وإلى إيجاد المزيد من المؤسسات الحقوقية التخصصية التي تهتم بحقوق الإنسان كالمرأة أو الطفل أو البيئة أو مكافحة الفساد، وغيرها من المجالات التخصصية من أجل أن تحقق إسهامًا نوعيًّا وحقيقيًّا في عملها لتطوير المجتمع».
الحوار الوطني وتعزيز الوحدة الوطنية
وتطرقت آمال المعلمي مساعد الأمين العام لمركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني، إلى المهام التي لعبها مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني، «في إشراك فئات المجتمع كافة في الحوار الوطني، وأخذ على عاتقه جعل المواطنة أساسًا ترتكز عليه جميع حواراته، وجنبًا إلى جنب المؤسسات الحكومية أولى المركز اهتمامًا كبيرًا لمؤسسات المجتمع المدني، إيمانًا منه بالدور الكبير والمهم الذي تضطلع به في المجتمع، وأن التشاور والحوار حول ومع المجتمع المدني يعد شرطًا أساسيًّا لتعزيز الوحدة الوطنية وحماية النسيج المجتمعي من خلال ترسيخ قيم الحوار والتنوع والتعايش والتلاحم الوطني، ونتيجة لذلك أضحى فضاء الحوار الوطني السعودي حول مؤسسات المجتمع المدني وأدوارها فرصة تاريخية لتحقيق التكامل والتعاون بين مؤسسات الدولة كافة، والمساهمة في عملية اتخاذ القرار بما يكفل مشاركة واسعة في عملية بناء الدولة، وفي تحقيق النهضة والتنمية».
وتذكر المعلمي أن المركز ترجم هذا الاهتمام «عبر تخصيصه العديد من برامجه وأنشطته لمؤسسات المجتمع المدني بهدف تنمية ثقافة الحوار الإيجابي داخل هذه المؤسسات وتطوير أدواتها، إضافة إلى تشجيع جهودها ومبادراتها والإفادة منها في توثيق عُرَى الوحدة الوطنية، ترجمة لجهود وخطط وُضعت ضمن توجهات المركز المستقبلية في إطار رؤية المملكة 2030 من أجل الاستمرار في تقديم رسالته بتعزيز مسيرة التلاحم والتعايش المجتمعي. وتحقيقًا لأهدافه يضطلع المركز بدور محوري، من خلال السعي بالتنسيق والعمل المشترك مع مؤسسات المجتمع المدني إلى تبني آليات متعددة لتفعيل المشاركة المجتمعية في أنشطته كافة».
وتذكر مثالًا على هذه الأنشطة، وهو إنشاء المركز الوطني لاستطلاعات الرأي العام «رأي»: الذي يعد إحدى مبادرات المركز الهادفة لدعم صناع القرار في الجهات الحكومية والأهلية، وتزويدها بمعلومات فنية وموثوقة عن توجهات الرأي العام، وقد نجح «رأي» منذ تأسيسه في إجراء مئات الاستطلاعات حول اتجاهات المجتمع نحو العديد من القضايا. ومن برامج المركز، المشروع الوطني «نسيج»: «الذي يهدف لتعزيز التلاحم من خلال ترسيخ القيم المشتركة لدى فئة الشباب وبناء الوعي المجتمعي، حول ضرورة حماية النسيج المجتمعي وبناء حصانة ذاتية ضد كل ما يهدد وحدته لا سيما الإرهاب والتطرف». وتذكر المعلمي أن المركز أطلق «لقاءً مفتوحًا يقام كل شهر، ويهدف إلى تعزيز مفاهيم الحوار البناء حول عدد من القضايا الجوهرية التي تهم المجتمع، بما يسهم في تلاقح الآراء وتعزيز دور المثقفين والفاعلين اجتماعيًّا، لتعزيز مسيرة التلاحم والتعايش المجتمعي».
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب في الوطن العربي
صورة النخب وجدل الأدوار محمد شوقي الزين - باحث جزائري مثل المنطوق الأوربي (elite)، تنطوي مفردة «النخبة» في اللسان...
الإبل في الثقافات: شراكة في الحضارة قفْ بالمطايا، وشمِّرْ من أزمَّتها باللهِ بالوجدِ بالتبريحِ يا حادي
آفاق السنام الواحد عهود منصور حجازي - ناقدة سينمائية منذ فجر التاريخ، كان إدراك الإنسان لتقاسمه الأرض مع كائنات أخرى،...
تجليات الفن في العمارة… رحلة بصرية عبر الزمن
العمارة والفنون البصرية علاقة تكافلية مدهشة علاء حليفي - كاتب ومعماري مغربي منذ فجر الحضارة حتى يومنا الحالي، لطالما...
0 تعليق