كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
فنان ليبي عاد إلى وطنه بعد 37 سنة من العيش في القاهرة .. عمر جهان: تجربتي هي منفاي الاختياري وثورتي الخاصة والمعادون لدولة مدنية في ليبيا كثيرون
الذين يعرفون الفنان التشكيلي عمر جهان يدركون كم يعيش حياة الراهب في صومعة الفن، كانت شقته بحي الدقي بمنزلة مركز ثقافي متعدد الأنشطة، بدءًا من اجتماعات شعراء جماعة إضاءة (حلمي سالم، وجمال القصاص، ورفعت سلام، ومحمد عيد إبراهيم وغيرهم)، وصولًا إلى لقاءات الفنانين التشكيليين المصريين في صومعته، تلك التي تعرفها من على الباب، حيث الرسومات التي تستقبلك عليه، والدلاية التي تهتز بمجرد أن يفتح الباب ويطل عليك بلحيته الطويلة بعض الشيء، وشعره المنفوش دائمًا، وابتسامته الوديعة كصوفي في محراب، ما أن تدخل بأقدامك حتى تصدم بتماثيل من الخردة القديمة التي أحالها إلى حالات فنية مدهشة، ووجوه إفريقية استعارها من الصحراء الليبية كي تكون جزءًا من عالمه في القاهرة، ستجد الحوائط وقد تحولت إلى معرض استعادي كبير لكل أعماله، وتجد الأرضيات بمنزلة ورشة مليئة بالجرائد والأوراق الكوشيه البيضاء التي يجري عليها تجاربه، ستجد الألوان المائية والأحبار بمختلف ألوانها أمامك، ستجد نفسك تندفع لتصبح فنانًا تشكيليًّا على غرار عمر جهان في طريقته في الحياة والفن.
لم يكن عمر مجرد فنان حط رحاله في القاهرة، لكنه كان ظاهرة تشكيلية تبث الروح الإيجابية في كل من حولها، تمدهم بالأفكار والمعارف، وتحيل طاقة الغضب لديك إلى سخرية عارمة من كل شيء. جاء إلى المحروسة في منتصف السبعينيات، ورحل عنها عقب رحيل القذافي عن ليبيا، عاد إلى مسقط رأسه مصراتة، لكنه ما زال بروحه في مصر مع أهلها وفنانيها ومثقفيها، حتى الآن لا يبدو أنه قادر على التأقلم مع واقعه الجديد. في هذا الحوار مع «الفيصل» نتعرف مع صاحب معارض «أقنعة»، و«كهفيات»، و«الحبر والشمع» و«لوبيات»، على محطات في تجربته، وعلى سؤال الفن وما يعنيه بالنسبة له، وكيف يتعايش الفنان المغترب بداخله مع الوطن الذي تركه أربعين عامًا ثم عاد إليه.
● بعد سبعة وثلاثين عامًا من الإقامة في القاهرة؛ كيف تفاعل الفنان التشكيلي مع واقعه الجديد؟
■ بعد سبع وثلاثين سنة زمن الإقامة في القاهرة بعيدًا من وطن أراد له الطغاة طمس اسمه الجميل رسمًا ولفظًا… ليبيا… ها أنذا أجرّب العودة إلى البيت وأرسم منذ انتفاضة السابع عشر من فبراير عام 2011م، رسوماتي المتواترة تحت عنوان واحد: «قريبًا سيكون لنا وطن»؛ لأن الطريق إلى الحرية أطول من الطريق إلى الثورة؛ ولأن الطريق إلى الوطن الذي ينعم فيه الإنسان بالعدل والمساواة والتحرر الاجتماعي لا يزال شاقًّا وطويلًا، ربما يومئ هذا المعنى إلى ما رسمته في بعض الأعمال كاللوحتين اللتين أشارك بهما في المعرض المقام بقاعة المريخية بدولة قطر وبدعوة نبيلة من المشرفين على المعرض. لوحتان لا تعبران عن الفرحة العارمة في الشوارع والميادين الليبية، لكنهما يوحيان ويشيران إلى تذكر العذاب والسلوى لمعاناة الليبيين شيبًا وشبابًا رجالًا ونساءً وأطفالًا. حاولت اختزال ما لا يمكن اختزاله من عذابات واستحضار آلامهم وآمالهم وهم يرزحون تحت نير الطغيان، ويقاومون العسف والجور، ويصنعون مستقبلهم الذي كان غامضًا ومجهولًا متطلعين إلى شمسهم؛ وطنهم ليبيا الذي قد تغرب شمسه لكن سرعان ما تُشرق من جديد.
تجدني أحاول أن أمزج بين أقنعة إفريقية مجهولة ورسومات خارجة من كهوف تادرارت أكاكوس إلى جانب الأسطح الخشنة في رسوماتي المسماة «سراب الرمل» كأني أحاول الابتعاد من لغتي القديمة دونما جدوى، كأني أحاول الانفلات من لوحات الأقنعة وكهفيات والحبر والشمع ولوبيات، أظن أن المسألة تحتاج إلى تجارب جديدة، وسفر آخر، ورئات أخرى، وأفق مفتوح؛ لذلك حاولت ألا أقف عند الرصد، رصد العلاقة بين الجزء والكل، بين القديم والجديد، بين الواقع والخيال، بل جرّبت أن أعقد مزاوجة تتحرك بين طرفين مختلفين: ثقيل، خفيف. تجريد، تشخيص. لوحتي سيرة ذاتية لا تستدعي خرافة ما، ولا تذهب إليها حيثما تكون بل تحاول أن تخلق ذاكرتها البصرية عن طريق اللعب على مستويين: مستوى الرؤية الذي يتبنى الحذف والمحو والنسيان. ومستوى البديهة الذي يتبنى الاختراق إلى الداخل، الاختراق النزق لحاجز سكونية العقل وصرامة المنطق. كان الفشل حليفي في كثير من الأعمال وصادفت نجاحًا ولياقة فنية في بعض منها. ستظل تجربتي المتواضعة، هي منفاي الاختياري وثورتي الخاصة لمعانقة الزمن الآتي رفضًا للاستعباد. وسيظل فعل التحرر متجددًا لأنّ القيود والعوائق الموروثة، أوسع من مفهوم السلطة والمؤسسة، وسيظل السؤال الذي يشير إلى استكناه علاقة الفن بالواقع الطبيعي والسياسي والاجتماعي والتاريخي قائمًا؛ لأنه يستدعي مناخًا عامًّا لا ينفصل فيه البحث في وحدة الشيء المرئي، وعلاقة الكل بالجزء وصياغات العناصر الفنية عن البحث في حرية الفنان وعلاقاته بوصفه كائنًا اجتماعيًّا بالسلطات العامة: النقاد، وتجار الفن، وقبل ذلك وبعده صلة الفنان بالمتلقِّي والجمهور، وستظل الصورة أخطر في تأثيرها في شخصية الإنسان وثقافته، وأعمق مما يتصور رجالات التربية والمشتغلون بعلم النفس والسياسيون، واللوحة في شتى تحولاتها لا تستمد قيمتها من كونها جميلة شكلًا أو عميقة موضوعًا، إنما تستمد قيمتها من ذلك المخزون المعرفي والأرشيف النفسي الممزوجين بالتقنية. قيمة فنية لا يمكن الوصول إليها بواسطة ما عداها. لكن كيف يتمثل الفنان مصادره البصرية، ويجعلها تمر من فلتر الروح وتفك شفرة الإحساس، وتعيد إنتاج الإدراك؟ ليس لديّ إجابات خارج العمل الفني.
الأزمة ليست فنية فقط
● كيف ترى مسيرة الفن في ليبيا الآن؟
■ قافلة الأدب والفن في ليبيا تسير، والأزمة الفنية ليست فنية فقط. إن عقلية متحجرة أفرزت منظومة من القوانين والآراء النمطية المضادة للتجديد والابتكار، كانت الثقافة في ليبيا تحت وطأة النظام الدكتاتوري مصابة بعطبين لا براءَ منهما: أولهما أسبقية الأيديولوجيا الزائفة عن الثقافة، وثانيهما غياب مفهوم التساوق داخل الحركة الثقافية ذاتها.
● الواقع السياسي الليبي، متى سيتكشف عن دولة مدنية؟
■ الطريق إلى تكوين دولة مدنية في ليبيا طويل دونه خرط القتاد، وهذا القتاد المعادي للدولة المدنية قوامه ثلاث فئات لكل منها ثقافتها المتجذرة في النسيج الاجتماعي والواقع المعيش بنسب متفاوتة، الفئة الأولى: أتباع النظام الدكتاتوري السابق، والفئة الثانية: المنحرفون اقتصاديًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا، أولئك الوالغون في المال العام والدم الحرام والأفكار القبلية والجهوية، أما الفئة الثالثة فهي: الجماعات الدينية المتشددة، تجد الفئات الثلاث متفرقة كما تجدها متحالفة. لقد عانينا التشوهات التي صنعتها السلطة الدكتاتورية ببلادنا ليس في نفسية الشعب المقهور فحسب بل في النسيج النفسي لأولئك السلطويين أنفسهم… إذ يفقد الواحد منهم شروطه الإنسانية شيئًا فشيئًا منقلبًا إلى ما يُشبه الآلة الباردة الصلدة، والانسان كما نعتقد أيًّا كان أشرف وأقدس من أن يتحول إلى مجرد شيء استعمالي تافه.
● هل توجد حركة ثقافية فاعلة في مدينة مصراتة التي تقيم بها الآن؟
■ هناك بعض الأنشطة المتناثرة، المتكلسة على مستويين: أولهما المستوى الرسمي المحكوم بالشللية والموسمية ومنظومة الفساد القديمة، أما المستوى الثاني فيظهر بين الحين والآخر في صورة مقاولات، ويتصف العمل فيه بالقطعة وبالجملة أيضًا. لا تعرف له مكانًا محددًا وفي الأغلب يكون الوكلاء القائمون عليه في الظل ولا يظهرون في الصورة. هناك مستوى ثالث مأمول يجتهد في وضع آليات يتلافى بها العيوب، ويؤسس لبنية تحتية للثقافة تعالج تلك الأمراض الموروثة، هذا المستوى الثالث من دون المستويين السابقين، وهو المستوى المجهض دائمًا وباستمرار. ومن هنا يجب أن نوضح أن الحرب ليست بالسلاح فقط، ولا بد من مواجهة ثقافة العنصرية والجهوية والتعصب.. ثقافة المؤتمرات واللجان والميليشيات.
● في هذا الوضع، علامَ يمكن المراهنة؛ على اتحاد للفنانين التشكيليين أم على ميليشية تشكيلية؟
■ أتمنى أن أشاهد اتحاد التشكيليين في مصراتة وقد أصبح فرعًا من اتحاد التشكيليين الليبيين، وصار له مقر دائم وجمعية عمومية وانتخابات ولائحة داخلية وآليات أخرى تنظم العمل وتساهم في فعاليات ثقافية، وذلك من أجل الأهداف البعيدة لنشر الثقافة البصرية وإثراء الحركة التشكيلية نقدًا وإنتاجًا وتذوقًا، والمساهمة في تفكيك وبناء العلاقة الملتبسة بين الفن والمؤسسة الدينية والسياسية والاقتصادية المتمثلة في آليات السوق ورأس المال… بدلًا من الاكتفاء بصفحة افتراضية أو اجتماعات شللية على قارعة طريق فرعي أو مقهى (مُنزَوٍ) واجترار معارك دنكيشوتية وأحقاد صغيرة لا تؤدي إلا إلى شيء واحد كريه… أتمنى أن أرى مؤسسة تنشر رسالة الفن والحب والسلام بدلًا من ميليشيات الثقافة المستشرية كالتقرحات والدمامل داخل الجسد الليبي العليل وعلى سطحه. أو كما قيل: الفن لن ينقذ العالم… الفن في العالم يجب إنقاذه.
● لمَ لم ترسم للأطفال؟
■ في تصوري كثير من أعمال بعض الفنانين تلائم مخيلة الأطفال، فيستجيبون لها ويستمتعون بها، وإن لم ترسم لهم مباشرة أعمال بول كلي مثلًا وبعض أعمال خوان ميرو، وأغلب رسومات الفنانين التلقائيين، وكثير من رسومات جورج البهجوري.. أما أنا فقد ظل هاجس الرسم للأطفال يراودني ويقضّ مضجعي خلال تجربة «كهفيات» و«الحبر والشمع»، وأيضًا في مجموعة «موتيفات عابرة» لكنني لم أقدم على هذه التجربة الصعبة مباشرة، وتركتها تتسلل وتسري في كثير من أعمالي دونما قصدية مباشرة، وأنا أزعم أن أعمالي تنهل من ثلاثة مصادر رئيسية: رسومات الكهوف وغريزة اللعب عند الأطفال، والطبيعة التي تحب التخفي بلغة هيدغر، والشعر بوصفه تأسيسًا وتشكيلًا، لا توصيفًا وتعبيرًا.
وفيما أظن أن بعض أعمالي وبخاصة «كهفيات» و«الحبر والشمع» كانت مثيرة لدهشة الأطفال الذين شاهدوها. أتمنى للأطفال أن يظلوا أطفالًا، لكي تظل الوعود التي أعيشها في طفولتي، هي ذاتي الأخرى الغامضة التي تمنحني اللوحة وتهبني الدلالة والرمز.
المنشورات ذات الصلة
التشكيلية السعودية غادة الحسن: تجربتي بمجملها نسيج واحد... والعمل الفني كائن حي وله دوره في الحياة
تصف الفنانة التشكيلية السعودية غادة الحسن، المتلقي الواعي بأنه شريك للفنان بتذوق العمل الفني وتحليله وإضافة أبعاد أخرى...
تجربة التشكيلي حلمي التوني خريطة رؤيوية لمسارات محددة نحو بلوغ الحياة الحقيقية... وقنص جوهرها الصافي
على امتداد رحلته الثرية في حقول الفن المتنوعة، تمكّن التشكيلي المصري البارز حلمي التوني، الذي ترجّل عن دنيانا في...
المخرج الجزائري سعيد ولد خليفة: ما يثير اهتمامي دائمًا هو المصاير الفردية للأبطال اليوميين... وفي الجزائر المقاومة كانوا يُعدون بعشرات الآلاف
يملك المخرج الجزائري سعيد ولد خليفة تصوّرًا مختلفًا للسينما، تشكّل من خلال تقاطع حياته الشخصية المصقولة على نار الغربة...
0 تعليق