كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
«الكتابة تقول: لا» لزياد آل الشيخ: لستُ جزءًا من هذا التقليد
«الكتابة تقول: لا» (الدار العربية للعلوم ناشرون) للكاتب السعودي زياد آل الشيخ، المتخصّص في علم البرمجيات، وكاتب الأدب على أنواعه. صدرت له أربع مجموعات شعرية ومقالات علمية محكمة عدّة. جاء عمله الأخير على مثاله؛ أسلوب في الكتابة يشبه صاحبه على قاعدة «قُل كلمتك وامشِ». أسلوب في الكتابة لا يخوّلك أن تختار، أو أن تقف وسطًا بين أن تحبّ فكرة أو تحتار في أخرى؛ فإما أن تحبّ أو لا تحبّ، أبيض أو أسود، لا حلول وسطيّة، ولا شعور حائر أو متقلّب. عناوين عدّة طرحها الكاتب، بدءًا من «عادات نيرون اليومية»، و«في وصف المأساة»، و«في انتظار الباص رقم 8»… ختامًا بـ«أين أينك الآن؟». نصوص مليئة بالآنيّة وإعلاء قيمة اللحظة، كما تمتلئ بالرموز الهادفة إلى إحداث تغيير ما في توجّه أشخاص، أو حتى مجتمعات، اعتادت ما تتلقَّاه واتّخذته نهجًا دون أن تسعى إلى زلزلة هذه الأفكار والعادات وغربلتها واختيار الصالح منها.
يقدّم الكاتب عمله تحت عنوان «الكتابة تقول: لا» في محاولة لخلق نص حداثي متحرّر من التعقيد والقوانين المتبعة في الكتابة، مضفيًا بعضَ المرونة والحيوية، وطارحًا عددًا من التساؤلات التي تمنح القارئَ الحقَّ في إبداء الرأي واتخاذ القرار وإعادة النظر في قضايا عدّة تتحكّم في نظرتنا إلى الواقع؛ فعرض لقضايا مثيرة للجدل، ولم يلجأ إلى تصفية الحسابات، بل جاءت الكتابة بحدّ ذاتها بمنزلة «إنهاء» للأنا التقليديّة السائرة على غير هدى؛ لتبرز في أعمال آل الشيخ محاولات على قدر عالٍ من الجديّة لتغيير «الأنا»، ولوم الإنسان الخاضع والمستسلم. وما يعزّز هذه الفرضيّة هو: ذهاب الكاتب في هذا الاتجاه على طول نتاجه الأخير. وصلت الرسالة بوضوح، وإن كانت مغلّفة بطابع كتابة هادئ قد يتعارض مع القضية المطروحة نفسها، التي لا تتحدد بلون أو شكل، بل بفكرة، لكنّها قادرة في الوقت نفسه على الوجود والتميّز ككيان، أو ربما كفرد، ما دامت تطول الكثيرين.
يبدأ الكاتب بسرد قصة صغيرة عمادها تفاصيل دقيقة تنذر بالسوء؛ قصة نيرون وحياته اليومية، حياة يرسمها البطل لوحةً جميلة في مخيلته لتضيء كل الأشياء من حوله. أشياء تظهر لنا واقعًا سوداويًّا محزنًا من جهة، ومحاولة الإنسان التأقلم معه، بل تجميله، من جهة أخرى، كأنْ يتخيّل الذباب فراشات؛ ما يعكِس واقعًا يعيشه أغلب الأشخاص، كما يدلّ على تجذُّر المعاناة في بيئات عدّة تعيش هذه الحياة. وهكذا، يستمر الكاتب حتى الأسطر الأخيرة في تصوير حالة من الخوف؛ خوف من زمان يأخذ معه كل ما هو جميل، زمان أصبحت فيه الخيانة مشروعة حقيقةً ومجازًا «أخ يقتل أخاه، وسكين يجرح نفسه، وحرف يخون الوزن والقافية».
تستمرّ قراءتنا لنصوص أخرى أجاد الكاتب فيها وصْفَ المعاناة بكل أشكالها وتجلِّياتها، وصولًا إلى حالٍ ليست بأقل من الهلاك، حين وصف ما يعيشه طفل وامرأة ذاقا مرارة العذاب. ومن الموضوعات الأخرى: استرجاع ذكرى شعراء خلّدتهم موهبتهم، مثل امرئ القيس الذي وصفه الكاتب بـ«الشاعر الخصم». وعن حب الوطن، نتذكر كل تفصيل صغير عشناه في وطننا، يعيد لنا الأمل ببنائه، ويزيدنا حبًّا وتعلُّقًا به، يخاطبنا بأسلوبٍ رفيع يلمس كلّ حسّ انتماء في عروقنا، إضافة إلى موضوعات أخرى مرتبطة، سواء بحياتنا أم حتى بيومياتنا، بأسلوب سلس لا يعرف تعقيدًا أو غموضًا، شأنه في ذلك شأن قضايا نصوصه، عمل فريد ذو نكهة خاصة.
وبذلك يكون الكاتب قد طرح في نتاجه الأخير قضايا عدّة: سياسيّة، واجتماعيّة، معاصرة، ومتنوّعة ذات عناوين مختلفة، ارتفعت بالنص فوق التزاماته الخاصّة. قضايا يعرفها الكاتب جيدًا، نذكر منها حديثه عن الثورات والبيئة والحروب ومآسيها، الفن والعمارة، الحب والغربة، وموضوعات أخرى، تطرّق إليها بشكل عام دون الإشارة إلى أشخاص أو أماكن بعينها. وأتت عباراته ذاتَ تراكيب سلسة شملت في محتواها أدقَّ التفصيلات، تفصيلات زمان أو مكان أعطت النصوص واقعية جذبت القارئ ليتفاعل مع كل شخصية طُرحت ضمن إطار معيّن، سواء الفقر أم الظلم أم التعاسة أم المحبة… وغير ذلك من القصص التي تركت صدًى يحفز الإنسان كي يبتعد من الظل، ويرفض أن يحدّ نظرته إلى الأمور بالأبيض والأسود… كما رفض الكاتب أن يكون جزءًا من هذا التقليد.
تنوّعت أفكار كاتبنا مستحدثًا مضامينها، أفكار تجدّدت بشكل فاعل، وتأسّست من خلاله هذه السطور والموضوعات. «الكتابة تقول: لا» هي صوت مواطن مفكّر، وكاتب حسّاس، يأخذ الكتابة إلى مساحة أوسع، تكون فيها حرّة وربيعيّة، تقوم بدورها في نشر الضوء والأكسجين والخضرة، وكل ما من شأنه أن يجمّل حياة الإنسان ويعيده إلى طبيعته الأولى حرًّا طليقًا مبدِعًا، أن يعود ليكون الضد، قبل أن تروّضه الأحزاب والأديان والعادات وتكبّله بحبالها. فهل وصلت الرسالة؟
سيكون من الأسهل أن نختم ببضع كلمات، والكلمة الأبرز التي تتبادر إلى الذهن هي تميُّز هذا العمل، الذي أظهر كثيرًا من الجودة و«الوفرة» في استكشاف قلب الإنسان؛ إذ تظهر في النصوص طاقة جبّارة ورغبة حقيقيّة في التغيير، سواء بالحوار أم بالمشاجرات، بحيث أقام الكاتب المواقف المتباينة دون التزام أيٍّ من الجانبين. ولعلّ أحد الدروس المهمة من هذا الكتاب هو: كل ما يحدث لنا في حياتنا يأتي على شكل سرد يروي لنا قصص حياتنا ليحرّرنا من خيالنا. وإن لجأ الفن إلى الخيال في مواقع كثيرة، إلا أنه يكسر قبضته ليقودنا إلى رؤية الحقيقة، إلى تمزيق الستار؛ لنقف في النهاية أمام كاتب حرّرتْه الكلمة، فحلّق خارج حدوده، ليعالج همومًا أشمل؛ لأنه يدرك بوعي الباحث ومنطق العلم أنها هموم مشتركة مع كل إنسان.
المنشورات ذات الصلة
«جوامع الكمد» للشاعر عيد الحجيلي… عوالم شعرية بسيطة
يثير ديوان «جوامع الكمد» (الدار العربية ناشرون) للشاعر السعودي عيد الحجيلي مجموعة من الأسئلة القصيرة المتعلقة بالذات...
«حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس التخييل المرجعي للذاكرة
تأخذ رواية «حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس -منشورات المتوسط- أذهاننا إلى زمن الحرب، إنها إحالة إلى الزمن، ولم...
السيد الجزايرلي في ديوانه الجديد بصير يتلمس عبر التصوف حنينه إلى الوطن
العلاقة بين التنبؤ والشعر قديمة ووطيدة منذ قصة وادي عبقر، والقول بأن لكل شاعر عفريتًا من الجن يلهمه أشعاره، مرورًا...
0 تعليق