كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
«شحاذون نبلاء» كرواية مصوّرة .. قصيري يدخل «الكادر»
نادرون هُم الكُتاب الذين اقترنت أسماؤهم بعنوان واحد كما لو كان طفلهم الوحيد، حتى صار وجهًا آخر لوجودهم، أو ربما الوجه الحقيقي لهذا الوجود. «شحاذون نبلاء» فعلت ذلك مع ألبير قصيري، أو فعل ذلك معها، حد أنها صارت شهادة ميلاده وموته معًا، ميلاده ككاتبٍ مختلف، وموته كصاحب نصٍّ بلا إخوة، رغم أن «شحاذون نبلاء» ليست الرواية الوحيدة للكاتب المصري الفرانكفوني. الرواية «المحظوظة» وجدت طريقها لشاشة السينما المصرية قبل سنوات في فلم أخرجته «أسماء البكري»، وها هي، بعد «الفن السابع»، تجد لنفسها موطئ قدم في «الفن التاسع» أو الكوميكس، عبر روايةٍ مصوّرة كتب لها السيناريو ورسمها الرسام الفرنسي الشهير «جولو»، وصدرت في دار النشر الباريسية الأشهر «غاليمار»، قبل أن تصدر نسختها العربية، بترجمة «د. منى صبري».
النسخة العربية من «شحاذون نبلاء» صدرت في إطار الاحتفال بمرور عشر سنوات على وفاة قصيري، وتزامنت مع احتفالية كبيرة به أقامها المركز الثقافي الفرنسي بالقاهرة، الذي دعم نشر الطبعة العربية بالاشتراك مع برنامج طه حسين لدعم النشر بالمعهد الفرنسي بباريس، لتصدر عن مطبوعات «الفن التاسع»، المؤسسة المستقلة المعنية بنشر ثقافة القصص المصورة، التي تُصدر مجلتي «توك توك» و«الفن التاسع»، ويشرف عليها رسام الكوميكس المصري المقيم بباريس «شناوي»، الذي صمم النسخة العربية من الكتاب وأخرجها فنيًّا.
يتضح من اللحظة الأولى أن جولو قرر تقديم «نصه» الخاص من داخل «شحاذون نبلاء»، محاولًا الاقتراب من «البصري» و«المشهدي» في عالم قصيري ذي النزعة التأملية الاستبطانية، ليقدم العالم البصري الصريح الذي يمثل البطولة في رواية مصورة من دون أن يُفقد النص وهج اللغة الأدبية. فعلها جولو من قبل مع رواية أخرى لقصيري هي «ألوان العار»، التي صدرت ترجمتها العربية في القاهرة قبل عامين. لكن «جولو» بدا هذه المرة أكثر إصرارًا على تقديم «قاهرة» ألبير قصيري وتعميق شخوصها معًا، تاركًا المدينة تبسط نفوذها على العالم البصري من خلال استعراض «توثيقي» يتناص مع رسوم المستشرقين ذات الدقة الفوتوغرافية وإن وفق قانون الكوميكس الأكثر تبسيطًا على مستوى الخطوط والتلوين. المدينة المفتوحة، والمقسمة عنصريًّا وطبقيًّا بين مدينة للمصريين الفقراء وأخرى للأجانب الأثرياء، تُقدِّم نفسها في نص «جولو» الذي بدا كأنما يتجول فيها تاركًا الشخصيات الرئيسية، في أحوال كثيرة، تذوب في زحامها، وتغيب في كتلتها التي تقدم دلالةً بصرية شديدة الأهمية حول ذوبان الفرد في آلة المدينة التي تفرض في النهاية نفسها ككتلةٍ وحيدة قادرة على ابتلاع ألوان الجميع في لونها.
قراءة بصرية
من الواضح أن «جولو» أعد قراءة «بصرية» لشخصيات الرواية الأصلية، ليعيد تكوينها في نصه الدرامي المتقاطع مع النص الأدبي، محافظًا على الخط الدرامي الأصلي لرواية قصيري ولأفكارها العميقة (العدمية والهزلية) حول الحياة الإنسانية. يستيقظ «جوهر» مدرس التاريخ السابق والمحاسب الحالي في بيت مشبوه بقاهرة الأربعينيات، بعد حلمٍ بالغرق، لتبدأ معه رحلة الرواية. تترى الشخصيات: «الكُردي أفندي» الموظف الشاب الثوري والحالم بتغيير العالم، و«يكن» الشاعر الصعلوك دميم الخلقة الغارق في عالم المخدر، وتلميذ «جوهر» المخلص. في لحظة يتورط جوهر في جريمة قتل، يخنق إحدى فتيات البيت المشبوه ظنًّا منه أنها ترتدي أساور ذهبية قد يحقق ببيعها حلمه بالسفر إلى الشام، غير أنه ما إن يقترف جريمته حتى يكتشف أنها مصوغات رخيصة مقلدة، وهي المعلومة التي يعرفها غير أنه نسيها في غمرة احتياجه للمخدر. في هذه اللحظة دراميًّا يظهر ضابط البوليس «نور الدين» ليحقق في مقتل الفتاة، وتبدأ حياته في التقاطع مع حياة «الشحاذين» الثلاثة، كمشتبه فيهم أولًا، قبل أن يغيروا نظرته للعالم، ليقرر مع نهاية الرواية أن هدفه لم يعد العثور على القاتل، بل العثور على ذاته، ولينتهي النص به وهو يتجول في شوارع القاهرة، مقررًا أن يتحول بدوره إلى شحاذ، لكن يفتقد النبل ولا يعرف السبيل لاكتسابه.
من هذه «الحبكة» يقدم جولو نصه في ثمانين صفحة من القطع الكبير، بأسلوبه الفني الذي يميل للخطوط التبسيطية من دون أن يغفل التفاصيل وبمسحةٍ واقعية لا تميل كثيرًا للمبالغة أو التضخيم الكاريكاتوري. مبدئيًّا، سجن جولو مظاهر كل من شخصياته في رداء واحد، يمثل العلامة «اللونية» في الإحالة لعمق الشخصية، رغم أن زمن السرد لا يتحقق في يومٍ واحد. يرتدي جوهر بذلة بنية كابية تمنحه مذاقه البصري كشخصيةٍ خريفية لم تترك فقط الحياة خلفها، بل أفكارها القديمة أيضًا. في المقابل يحل «الكردي» طيلة النص في بذلة رمادية فاتحة، إنه لونه، هو الثائر على النظام الذي ينخرط في آلته في الوقت نفسه، الذي يحب إحدى فتيات البيت المشبوه من دون أن يقدم شيئًا سوى انتهاكها كالآخرين، مع فارق واحد، أنه يفعل ذلك مجانًا باسم الحب. أما «يكن»، ابن الظلمة، الذي يخشى الضوء لأنه ينير قبحه، فيرتدي بذلة رثة سوداء، حالكة، تعمق ظلمته ككائن يتمنى في أعماقه أن يكون غير مرئي، ويقطن العتمة. قبالة السواد الرث ليكن، ينهض سوادٌ آخر، هو السواد السلطوي للضابط، فهو أيضًا يرغب في أن يكون غير مرئي، لكن لسبب مختلف يخص ميوله المثلية. كلاهما يختبئ من عيون الآخرين، رغم أن أحدهما خارج على القانون (تعرّض يكن للحبس أكثر من مرة بسبب حيازة الحشيش) والآخر يمثل القانون نفسه. ولذلك لم يكن غريبًا أن ينهي جولو نصه بلقاء يجمع الضابط بيكن في قسم الشرطة، يعذبه ثم يطلق سراحه، كأنه يطلق سراح نفسه من خلاله، فهو بعد هذا المشهد مباشرة يخرج في أعقاب يكن ليذوب في شوارع القاهرة وقد قرر أن يصبح شخصًا آخر.
اتجاهان متواشجان
بين غرقين تتحدد شخصية «جوهر» كشخصية في رواية مصورة، فبين حلم نوم بالغرق تُفتتح به الرواية، وحلم آخر بالغرق في حقل/ بحر المخدر لحظة إقدامه على قتل الفتاة، يحركه جولو، محافظًا على الغرقين باللون الأخضر، ليقدم اللون نفسه في قيمتين مختلفتين: الخضرة كنوع من ركود الماء، والخضرة كشروق الحصاد الذي يتناقض واللون البني الذي يحيا فيه جوهر. في المقابل، يكاد «يكن» لا يظهر بألوانه الطبيعية إلا نادرًا، فهو دائمًا معتم، بألوان تذهب من الأسود للأزرق والبنفسجي، ولا يقدم سوى في الليل، كأنه عدو النهار باعتباره المرادف الأعظم للضوء. أما «الكردي» فهو ابن العوالم المغلقة للبرجوازية الصغيرة، عالمه هو الحوائط، من حوائط العمل لحوائط المقهى لحوائط بيت البغاء، كأنه بصريًّا أسير العوالم المغلقة، حتى عندما يقرر في مرة السطو على محل مجوهرات لإنقاذ حبيبته، يتراجع بسرعة عن شوارع المدينة المفتوحة لائذًا من جديد برحم عالمه المغلق.
بنائيًّا، تحرّك «جولو» في اتجاهين متواشجين: النص البصري الحواري، مدعومًا بتعليق هيمن على النص، كمقتبسات سردية مجتزأة من سطور الرواية الأصلية لقصيري، ليحفظ الحس الأدبي الروائي للنص، وليجعل من «لغة» قصيري شريكًا أصيلًا مع لغة «جولو». وبدورها قدمت الترجمة (التي اعتمدت العامية المصرية في الحوار وأبقت على الفصحى في التعليق السردي) التفاتة حيوية لعامية مصر الأربعينيات، التي حفظتها السينما المصرية، وربما أضفى ذلك طرافة مضاعفة على نص قصيري الساخر، وضاعف من دون قصد من هزليته حيث اغتربت لهجة تلك الحقبة المبالغة في تهذيبها عن اللهجة المصرية الآن، وبدت بتهذيبها المبالغ فيه متناقضة مع خطاب شخصيات تعاني جميعها الانحراف وتُجافي التهذيب.
المنشورات ذات الصلة
التشكيلية السعودية غادة الحسن: تجربتي بمجملها نسيج واحد... والعمل الفني كائن حي وله دوره في الحياة
تصف الفنانة التشكيلية السعودية غادة الحسن، المتلقي الواعي بأنه شريك للفنان بتذوق العمل الفني وتحليله وإضافة أبعاد أخرى...
تجربة التشكيلي حلمي التوني خريطة رؤيوية لمسارات محددة نحو بلوغ الحياة الحقيقية... وقنص جوهرها الصافي
على امتداد رحلته الثرية في حقول الفن المتنوعة، تمكّن التشكيلي المصري البارز حلمي التوني، الذي ترجّل عن دنيانا في...
المخرج الجزائري سعيد ولد خليفة: ما يثير اهتمامي دائمًا هو المصاير الفردية للأبطال اليوميين... وفي الجزائر المقاومة كانوا يُعدون بعشرات الآلاف
يملك المخرج الجزائري سعيد ولد خليفة تصوّرًا مختلفًا للسينما، تشكّل من خلال تقاطع حياته الشخصية المصقولة على نار الغربة...
0 تعليق