كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
هل يُضحكنا المستبدّ؟
تُروى قصّة طريفة عن كيم إيل سونغ، جدّ الحاكم الحاليّ لكوريا الشماليّة كيم جونغ أون، والرجل الذي عاش مهووسًا بتعظيم نفسه وإسباغ الألقاب الفخيمة عليها. فقد استقبل «الزعيم المحبوب من أربعين مليون كوريّ» -حسب أحد ألقابه- وفدًا من صحافيّين لبنانيّين كان على رأسه النقيب الراحل ملحم كرم. ويبدو أنّ «كرم»، الذي كان ضليعًا في الشعر الجاهليّ ومفرداته الغريبة، أراد أن يتسلّى ويسلّي رفاق رحلته: هكذا كتب خطابًا يعجّ بالمصطلحات الجاهليّة المنقرضة ثمّ ألقاه في حضرة الزعيم كيم. لكنّ المترجم الكوريّ الواقف بين الزعيم والنقيب، الذي هو المترجم الرسميّ للأوّل، راح يترجم الخطاب إلى الكوريّة ترجمة فوريّة وسريعة، وهو ما أذهل «كرم» وباقي أعضاء الوفد.
في مساء ذاك اليوم، وفي حفل أقيم لتكريم الضيوف اللبنانيّين، لمح ملحم كرم المترجم الكوريّ في طرف القاعة نفسها، فهرع نحوه كي يسأله عن البلد الذي درس العربيّة فيه. لكنّ المفاجأة بدت صاعقة، إذ تبيّن له أنّ المترجم لا يقرأ العربيّة ولا يكتبها، والأهمّ أنّه لا يفهم حرفًا واحدًا منها. فحين أمعن في الاستفهام، شرح له المترجم هذا الأمر الملغز: «إنّني منذ سنوات طويلة أترجم للزعيم من 17 لغة لا أجيد أيًّا منها. إنّني أقول له دائمًا الحقيقةَ، والحقيقةُ هي أنّه الأقوى والأذكى والأشجع والأجمل والأثقف والأحرص على مصالح شعبنا وأمّتنا. أمّا النصّ الذي يلقيه الآخرون وأتولّى ترجمته له فليس مهمًّا بالقياس إلى تلك الحقيقة الخالدة. على هذا النحو ينشرح وجه الزعيم وصدره فيما أمضي أنا في عملي خدمةً للأمّة الكوريّة وزعيمها».
مَن روى لي هذه القصّة بادلتُه قصّةً بقصّةٍ سبق لي أن قرأتها عن ألبانيا في ظلّ دكتاتورها الشيوعيّ الراحل أنور خوجا. فآنذاك لم يكن في ذاك البلد إلا جهاز تلفزيونيّ واحد هو الذي يملكه الزعيم خوجا نفسه. هكذا كان المذيع يوجّه كلامه مباشرة إليه كلّما ظهر على الشاشة: «مساء الخير، حضرة الزعيم الموقّر أنور خوجا. إنّ برامجنا اليوم تدور كلّها حول نضالك العنيد من أجل إسعاد ملايين الألبان وتعزيز السِّلْم العالميّ».
قصص كهذه، وهناك المئات منها، تُضحكنا بالتأكيد. لكنْ حين نتذكّر أنّ هؤلاء الأشخاص يحكمون بلدانًا ويتحكّمون بحياة وموت الملايين ينقلب الضحك إلى غصّة عميقة. ونحن نعلم كيف أنّ في وسع حاكم مستبدّ واحد أن يحجب بلدًا بكامله وكامل ملايينه. هكذا يقال مثلًا: «سوريا الأسد»، كما لو أنّ حافظ الأسد أو ابنه «بشّار» يختصران كلّ شيء فوق هذه الرقعة الجغرافيّة ذات المساحة التي تتجاوز الـ 185 ألف كيلومتر مربّع، كان يقطنها «قبل تهجير نصفهم» 23 مليونًا من البشر. الشيء نفسه يمكن قوله عن التاريخ، حيث يتحوّل الحاكم المستبدّ إلى عصارة لعشرات السنوات، وأحيانًا مئاتها. ذاك أنّ الحقب الزمنيّة التي سبقت كانت عاقرًا لا تنجب رجالًا ونساء يستحقّون الذكر! فالوجوه والرموز الذين حكموا قبل الانقلاب العسكريّ لم يولدوا أصلًا ولم يوجدوا قطّ!
لقد سبق لشارلي شابلن، عام 1940م، أن سخر في فيلمه الشهير «الدكتاتور العظيم»، من دكتاتوريّي ذاك الزمن، ولا سيّما منهم أدولف هتلر، أو أدينويد هِنكل كما أسماه. هكذا علّمنا كيف نسخر ممّن لا نملك في وجوههم إلا السخرية، وممّن يخافون من السخرية كما يخافون الطاعون. فهي تكسر الوقار والتراتُب والجدّيّة التي يُفترَض بالأتباع أن يعاملوا الزعيم بموجبها، كما تكسر تقديسه المزعوم والمفروض بقوة الخوف لتردّه شخصًا عاديًّا تثير أفعاله الضحك.
والحقّ أنّ السخرية انبثقت من الاعتراض. فأوائل الكوميديّين السياسيّين نشطوا سرًّا خوفًا من انتقام الحاكم الجائر. وهم عبر منشورات ورسوم مطبوعة توزّع سرًّا، نبّهوا الجمهور الأوسع إلى مسألة الحرّيّة. ومعروفٌ، مثلًا، أنّ الثورة الأميركيّة تدين بأحد أسبابها للسخرية التي دفعت بعض «الوطنيّين» من طلاب الاستقلال لأن يرسموا ويكتبوا ما يثير الهزء بـ«الموالين» الذين حافظوا على ولائهم للإمبراطوريّة البريطانيّة، وصولًا إلى اجتذاب قطاعات أعرض من الرأي العام. لكنّ شارلي شابلن نفسه صرّح لاحقًا، وتحديدًا في 1960م، بأنّه ما كان ليصنع فلم «الدكتاتور العظيم» لو أنّه كان على بيّنة من أفعال هتلر الرهيبة. ففي 1940م كانت الحرب العالميّة الثانية في بداياتها، ولم تكن المحرقة قد نُفّذت بعد. ذاك أنّ المعرفة بضخامة الجريمة لا تترك أيّ مجال للضحك حتّى لو كان ضحكًا على دكتاتور تافه. أمّا بعض الذين وافقوا شابلن على رأيه فاعتبروا أنّ مَن نضحك عليه أو نسخر منه ينبغي أن يمتلك ولو حدًّا أدنى من الإنسانيّة، وإلا بات الضحك في غير مكانه.
وقصارى القول: إنّ هذا الصنف من الطغاة قد يحرمنا حتّى الضحك عليه في سرّنا، بينما نبادله الهديّة بهديّة أخرى مفادها أنّه لا يستحقّ أن نضحك عليه.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق