كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
الأمل الذي ضيّع يأسه
كنت أبني أملًا كبيرًا على الهجرة إلى أوربا، كأنها بلسم فوري سيحول حياتي إلى جنة، فكثير من الكلام سمعناه هنا وهناك عن الأجواء المريحة للكتابة، وأكثر من مرة شهدنا صراعًا محتدمًا بين الكُتاب للحصول على منحة كتابة لمدة شهر أو حتى أسبوع مستخدمين الطرق كافة بما فيها طريق التملق وملحقاته العفنة جدًّا. وغالبًا ما ينجح معظم هؤلاء الكتاب في ذلك وحينما يعودون يتحفون القارئ بمادة وصفية عن الرحلة سرعان ما تتحول إلى كتاب غالبًا ما يتحصل على جائزة تُعنَى بهذا النوع من الكتابات. الوسط الثقافي الذي عشنا فيه صور لنا أوربا كأنها جنة، قامات إبداعية يتوافر فيها كل شيء يساعد على الكتابة، ومصروف جيب سخي يمكنك من الصرف على نزواتك البريئة والخبيثة معًا، ومن هنا لم يركز الكثير على الكتابة والموهبة وصقلها وبذل الجهد، وانصب التركيز كله على الوصول إلى أوربا وهناك سيتحقق فعل الكتابة تلقائيًّا بتقنية عالية.
وبعد جهد وحظ وتوفيق من الله واقتناع من السلطات الأجنبية بملفي وأيضًا بإبداعي ها أنا أعيش في أوربا، أوربا الجنة، حيث الحرية والأمان ودولة القانون والمؤسسات، وما علي إذن إلا أن أجلس للكتابة، لأبدع مثلما أبدع الكتاب العرب الآخرون الذين سبقونا لهذا المنفى، وبعد أن أكتب سيترجمون كتبي وسأحصل على دخل كبير حيث هنا يحترمون الملكية الفكرية، فلن يسطو على جهدي ناشر لئيم أو صاحب مكتبة جشع. ولكن لم يحدث شيء من ذاك القبيل، كتبت أربعة كتب تقريبًا خلال 3 سنوات وإلى الآن لم أتحصل على فرصة نشر رغم أن دور النشر العربية المعروفة التي أرسلت لها الأعمال أجازتها حتى حررتها تجهيزًا للمطبعة، وما علي إذن حاليًّا سوى الانتظار، فظروف النشر العربي نعرفها وآلياته على دراية كبيرة بها وكل شيء للأسف يتوقف على العلاقات العامة وعلى التملق وعلى أمور أخرى يخجل الإنسان من ذكرها حتى في السر. منذ أن وصلت إلى أوربا لم تعد لي رغبة في السفر حتى إلى معارض الكتاب أو المهرجانات، أنا سعيد هنا، كل ما أريده متاح أمامي، يمكن التمتع به فعليًّا أو مجازيًّا، المال لا يعني لي شيئًا، لا أسعى للحصول على الجوائز، قيمة الجائزة لا تغريني أو تستهويني، قبل انخراطي في عالم الكتابة الجميل كانت لدي أموال كثيرة، لكن تخليت عنها فجأة، وجدت أن الحرف أكثر غنى لنفسي منها، حتى عندما أكتب أتعمد ألّا أكتب جيدًا حتى أخسر، فلا أراجع المادة، ولا أجعلها أفضل بتغيير بعض الكلمات أو حذفها، أترك كلماتي مشوهة كما خرجت مني أول مرة، ولا أقوم بعلاجها ببذل جهد ذهني مرهق، قد يسبب لي مرضًا أنا في غنى عنه، المهم أن أكون سعيدًا وراضيًا عن كتابتي، رأي الغير لا يهمني ولا يمكني في الوقت نفسه أن أجلس ساعات طويلة وأنا أنقح وأمزق لأجل رأي موجب يشيد بي، إذن لن يطبع كتابي، لا مشكلة لن يفوز لا مشكلة، لن يكون في ( البيست سيلر أيضًا لا مشكلة).
ما كان يقلقني حقا هو الموهبة، ظننت أن أوربا ستفجر مواهبي وتطلق المكبوت منها، لكن للأسف لم يحدث هذا الأمر موهبتي في وطني هي نفسها في أوربا لم تزد ولم تنقص، أنا أضعها كل يوم على الميزان وأقرأ المؤشر، هي نفسها، ما زالت ثابتة، لكن سلوكياتي تغيرت، ما عدت أعبر في الضوء الأحمر، وما عدت أرمي أي شيء في الأرض، وما عدت ألتفت لأنظر للمرأة بعد أن تتجاوزني، فنظرة أمامية واحدة تكفي. والآن عندما وجدت أوربا ليست كما ظننت فماذا أفعل هل أبقى أم أغادر؟ حقيقة لا أدري، سأنتظر حتى تنشر كتبي، وأكمل الكتاب الخامس الذي بدأت فيه، هناك شخصيات به ستشدني إلى ألمانيا، لا يمكن الكتابة عنها وأنت بعيد عن أمكنتها، الخيال يمكنه أن يفعل ذلك، لكنني سطحي جدًّا، وخيالي أضيق من ثقب إبرة، فلا بد أن أبقى هنا حتى أكمل كتابتها، وأرجو ألّا تحيلني إلى شخصيات أخرى تحيلني إلى أخرى وأخرى.
أنا أكتب الآن عن الموسيقار بيتهوفن، هو موسيقار سمعه ضعيف وأنا كاتب سمعي ضعيف، لكنْ كلانا مغرم بالموسيقا التي للأسف لا نسمعها جيدًا لكن نحسها داخليًّا بشكل ممتاز، لقد كتبت في أوراقي التي قدمتها للألمان أني سأكتب رواية عن بيتهوفن وأنتهي منها في عام 2020م وأنشرها بمناسبة مرور 200 سنة على وفاة بيتهوفن، لقد زرت متحف بيتهوفن وسمعت موسيقاه عبر سماعات ذات تقنية عالية وشاهدت معظم الأفلام التي تناولته، وعندما كنت صغيرًا قرأت عنه كتابًا مختصرًا به سيرة حياته وأعجبت بشخصيته وشعره وسترته الشبيهة بسترة إمبراطور روماني. ومن المصادفات الغريبة أن أول بلد زرته في حياتي كان ألمانيا وأول مدينة زرتها كانت بون، كان ذلك عام 1979م، وأول ما شدني في بون هو الموسيقا، وتماثيل بيتهوفن الكثيرة المنتشرة في الميادين وفي المحلات التجارية وفي باحات المدارس والمؤسسات العامة، كانت بون آنذاك عامة ألمانيا، وقد زرتها مرافقًا لأخي الذي كان يشكو من مرض الشبكية في العينين، وعندما عالجته في بون وأجرى له الطبيب عملية عاد البصر إلى عينيه، أذكر أننا كنا سعداء جدًّا آنذاك وكنا صغارًا لم نتجاوز الثامنة عشرة تقريبًا، معظم وقتي أقضيه في الاستماع إلى الموسيقا، فِرَقٌ كثيرة تعزف في الميادين وكرنفال بهيج به مئات الفِرَق الموسيقية، لم نعد إلى ليبيا وقررنا أن نبقى أكثر، تعلمت اللغة الألمانية في معهد خاص، وأقمت علاقة عاطفية مع فتاة تتسول بالعزف على الغيتار، وكنت أساعدها في جمع النقود من المستمعين، وعندما تريد أن تقتسمه معي أرفض المال وأطلب منها قبلة فقط.
تعلمت منها اللغة بشكل أفضل، المعهد الذي أدرس به يعلمني لغة الكتب، وعازفة الغيتار تعلمني لغة الحياة، بقيت معها نحو ثلاثة أشهر ثم عدنا إلى ليبيا، على أمل أن أوصل أخي وأجلب ما لدي من أشياء في ليبيا وأعود إليها، لكن عام 1979م في ليبيا كانت الأوضاع فيه سيئة والحرب مع تشاد ومع أوغندا ومع عدة بقع أخرى في أشد ذروتها ومن الصعب جدًّا الحصول على تأشيرة سفر لشاب في سن التجنيد، ومر الزمن وكل شهر نقول الآخر ستفرج، لكنها لا تفرج وتزداد الأمور سوءًا، مشانق في المدارس والمدن الرياضية وإعدامات بالرصاص وأيديولوجية دكتاتورية سُخِّرت لها إمكانيات البلاد المادية كافة، وحقيقة يئست من العودة لكن لم أفقد الأمل نهائيًّا، هناك أمل مضاد لليأس، قلت: إني أحبها وتركتها بعد ثلاثة أشهر من الحياة معًا، ربما يكون لي ابن منها، ومرت الأيام والسنون ولم أعرف كيف أتصل بها، حبها ما زال متأججًا، وموسيقاها ترن في أعماقي، اللحن الذي تعزفه دائمًا للناس أحفظه عن ظهر قلب، أعزفه بكل الآلات الموسيقية الوترية وغيرها.
وبعد نحو 35 سنة تقريبًا ابتسم لي الحظ من جديد ونجحت في الوصول إلى ألمانيا، وأول شيء فعلته هو زيارة بيت بيتهوفن وزيارة كل الميادين التي كانت تعزف فيها حبيبتي، وبدأت رحلة البحث عنها، عن اللحن الذي كانت تعزفه، أدخل محلات الموسيقا وأجرب عدة أسطوانات، أدخل مقاهي وحانات من أجل الموسيقا، إن وجدت اللحن فيمكنني ملاحقة عازفه، ويمكنني أن أجدها، وحتمًا ستعرفني قد يكون عمرها الآن خمسين سنة أو أكثر وقد تكون قد تزوجت وأنجبت أطفالًا، وقد يكون لدي منها طفل، لا أحد يدري وعليَّ أن أتتبع هذا الأمل المضاد لليأس، للأسف لا أعرف اسمها ولا عنوانها كنا نكتري غرفة في شقة عجوز هرمة غالبًا ما تكون حاليًّا تحت الثرى، وما عليَّ الآن سوى أن أتألم وأتفرس في وجوه الناس الخمسينيات بالذات وفي وجوه الشباب الذين أعمارهم في الثلاثين وفوق لعلي أجد أحدهم أو إحداهن تشبهني، وإن وجدت الشبه فكيف يمكنني أن أتصرف، سأمدّ لمن يشبهني نسخة من هذا النص أكون قد ترجمتها إلى الألمانية إن كان هو المقصود فسيعانقني أو تعانقني، وإن كان غير ذلك فسيقول أو تقول لي: عفوًا النمرة غلط.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق