كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
اسمي
عليك أن تعترف يا سليماني بأنها ليست المرة الأولى.
هذه ليست بالمرة الأولى، أجل، اعتَرِفْ وأَقِرَّ؛ فالاعتراف سيد الأدلة، والإقرار بها نصف الطريق لحل المشكلة.
ليست المرة الأولى التي أتهجى بها حروف اسمي كطفل ولا أعرفه، ولا أعرفني! أكتبه حرفًا حرفًا: س ل ي م ا ن ي، أتأمله بعد أن أكتبه، وأتهجاه كطفل يتلعثم بالحروف، أراه كما لو كان لشخص آخر بعيد ومجهول، يا إلهي! هل هذا اسمي؟ وفي اللحظة التي وُلِدتُ بها وُلِدَ معي؟ هل يخصني أنا وحدي دون سواي، أم أنه يعود لآخر لا أعرفه وأجهل من يكون؟
لا أتبين ملامح وتفاصيل وجهي الجديدة، هل هذه تعود لي؟ أعني: لسليماني الذي كنت أعرفه منذ زمن طويل، أم لرجل آخر أراه الآن أمامي لأول مرة؟
الوجه لا يشبه وجهي الذي أعرفه منذ وعيي الأول، لا يشبهني في شيء! ثَمَّةَ تجاعيد واضحة بشكل لا يمكن إنكاره أو إخفاؤه، وهذه «الصلعة» التي تشبه بطيخة كبيرة، من أين جاءت وظهرت على حين غفلة مني؟ ومتى؟
منذ سنوات قليلة بدأ شعري بالتساقط دون أن أنتبه أو أُعِيرَ الأمر اهتمامًا، حتى اكتملت الدائرة وانغلقت، فبرزت هذه «الصلعة» مرة واحدة بوقاحة سافرة.
لكن، هل تعود لي أنا؟ هل أنا صاحبها؟ أم هي للرجل الآخر الماثل أمامي الآن؟
الأمر مُربِكٌ وشائك، ويضعني في حالة من الفزع والقلق والضياع؛ أنا لا أعرفني! يا إلهي في علاك!
ها، من أنت؟ من أنا؟ قبل هذا وفي البدء: لمن يعود هذا الاسم؟ ومن هو هذا الرجل بملامحه التي لم أتعرف إليها قط؟!
اسمي الذي ينفرش بأحرفه السبعة فوق هذا الوجه، ويرسم ملامح باهتة وشاحبة لدرجة أني لا أعرفني، ولا أعرف لمن يعود هذا الاسم؟ هل حقًّا هو لي؟
عيناي، عيناي بهذه النظرات الغريبة التي لم تكن لي يومًا، ولم أعتدها قط، أُحدِّق طويلًا بالمرآة كل صباح، أُحدِّقُ وأنا أحلق لحيتي وشاربي، أُحدِّق وأنا أرتدي ملابسي، أُحدِّق بالمرآة سرًّا وعلانية، أُحدِّق وأنا أتحدث معي بصوت خفيض أحيانًا، أو بصوت مرتفع حينًا آخر وأنا غاضب، أُحدِّق بهذه العيون بنظراتها التي لم آلَفْها قط، أُحدِّق بهذا الوجه الذي أراه أمامي، أتأمله بقوة ولا أعرفه، لا أتبين ملامح صاحبه، ومن أين ظهر الآن ووصل مرآتي؟ أين كان يختبئ؟
المرآة، المرآة، أجل المرآة خائنة ومزيفة، من هنا بدأت ولم أعرفني، المرآة تكذب كثيرًا وتخدعني، المرآة تضللني، ألهذا تحبها المرأة كثيرًا؟ لا أعرف، لا أعرف شيئًا، خشيتي من هذا الرجل الغريب الذي يَربِضُ فوق مساحة مرآتي ويحتلني، فيحيلني لشخص لا أعرف اسمه، أو أتعرف إلى ملامحه، ولم يسبق لي أن التقيته أو عرفته!
لا أزال واقفًا أمامها، أمام المرآة وكأني أستنطقها، وأستعطفها، وأتوسلها بأن تكشف لي عن ستارتها الثقيلة لمرة واحدة، فتريحني.
أحدق بها ثانية وثالثة ورابعة برجاء يائس، يا إلهي، يا إله السماوات والأرض وما بينهما، كم هو موجع أن أحدق بالرجل الماثل أمامي ولا أعرفه، لا أعرفني! أحدٌ ما لا أعرفه يدعوني بإلحاح، وأنا لست على أرض أو في فضاء، أحدٌ ما يدعوني بإلحاح لرحلة التيه، وأنا من أنا؟ أنا لا أحد!
المرآة ذاتها تُذكِّرني بي؛ كأنما مسحت الغبش عن زجاجها الصقيل، فصارت أشيائي القديمة مرئية أمامي كشريط سينمائي متتابع، أراني «سليماني» الطفل، وله من العمر سنوات عشر، سليماني الطفل البكر لوالديه بعد احتباس مؤقت لثلاث سنوات لرحم الأم، سليماني الذي كَبِرَ فجأة وصار رجلًا وهو لا يزال طفلًا؛ إذ وُلِد شقيقه الثاني وعمره عام واحد فقط، فتحولتُ لطفل كبير مرة واحدة، بلا ألعاب وبلا لِبَأ أم يقوِّي أسناني وعظامي، ويَشُدُّ بِنْيَتي، فنشأت قصيرًا وهزيلًا!
«أنت كبير لا تشارك الأطفال لعبهم» تلك هي اللازمة التي ترددها أمي وجدتي وأبي كل ساعة، فحفظتها عن ظهر قلب كأنشودة المدرسة في طابور الصباح.
«سليماني، أكمِلْ دروسك سريعًا وتعال ساعد أمك» تنادي جدتي.
أقراني لم أعرفهم سوى بالمدرسة، ولا ألتقيهم خارجها.
سليماني، «اذهب للسوق عند عمو أبو نبيل وأحضر لنا حاجيات البيت التي كتبتها لك على ورقة صغيرة بيضاء، وضعتها فوق طاولة المطبخ، وإذا صادفك أحد من رفاقك بالمدرسة أو أقاربك، إياك أن تتلكأ معه وتحادثه».
سليماني اذهب وساعد أمك في أعمال البيت قبل أن ينهض شقيقك، سليماني، اذهب لبيت جدك وأخبرهم… سليماني انزل إلى البلد، واذهب لمكتب للبريد المركزي، وتفقد صندوق البريد، ربما هناك طرود ورسائل من عمك الذي يدرس في ألمانيا، وفي طريق عودتك اشترِ من مطعم «هاشم» علبة حمص وفول وربطة خبز، لا تنسَ.
سليماني، اكنس باب البيت ورشه برذاذ الماء، واسقِ «الزريعة»، ورتب المقاعد وصُفَّها متقابلة بانتظام، في المساء سيجيء أصحاب والدك؛ فالسهرة الليلة عندنا، ولا تنسَ إعداد القهوة.
سليماني، لا تنس ارتداء سُتْرتك الطويلة، فربما تمطر وأنت عائد من المدرسة وتبتل ثيابك، عليك أن تمر في طريقك بالسوق كي تخبر عمك الفَرّان أننا بحاجة لعشرين رغيف خبز غدًا صباحًا، ثمة مَأدُبة سيقيمها والدك احتفاءً بسلامة شقيقك من «الحصبة*»!
سليماني، قبل ذهابك للمدرسة مبكرًا، اذهب لمنزل عمك المطهر* «أبوعماد»، واطرق بابه ثلاث طرقات متتالية، وحينما يظهر أمامك أخبره بأن والدك يُهْديه السلام، وأننا ننتظره عند الساعة العاشرة كي يجيء «ليطهر» شقيقك». أظن بأن هذا صوت جدتي، صوتها الذي لا يزال يطرق سمعي كمِطْرقة قديمة:
«سليماني، اذهب وانشر «الغسيل» قبل أن تبرد أشعة الشمس؛ كي تجف ملابس شقيقك، سنحتاجها ثانية في المساء، سليماني، ياااااااااا س ل ي م ا ن ي، يا سليماني.
من أنت؟ أنا سليماني محمود توفيق سليماني، الذي استطاع النجاح في كل عام بمعدل جيد، وتمكن في السنة الأخيرة من الالتحاق بكلية التدريب المهني في «وادي السير» بمنحةٍ، وتخرج منها بدبلوم صناعي بتفوق على أقرانه جميعًا دون أن يكلف والديه شيئًا! أنا سليماني محمود توفيق سليماني، الذي عمل موظفًا صغيرًا بمعمل نسيج وأقمشة، أتذكر أول راتب تسلَّمْتُه بقيمة خمسة وثلاثين دينارًا فقط، أضعه في جيبي حتى وصولي البيت فأناوله لأبي كاملًا غير منقوص، فيمنحني خمسة دنانير هي مقدار أجرة الذهاب والإياب للمصنع الذي يقع في مدينة «سحاب» شرق العاصمة، خمسة دنانير طوال الشهر حتى تسلُّم الراتب التالي.
بقيت في المعمل مواظبًا ونشيطًا حتى تمت ترقيتي لمدير مسؤول أول عن خط الإنتاج، حتى تقاعدي قبل خمس سنوات ونصف السنة.
أنا سليماني الذي استجاب لرغبة والده وتزوج قريبته دون أن يراها لمرة واحدة قبل الزفاف، فأنجب بنتًا، كَبِرت وحيدة حتى التحقت بالمدرسة بالصف الأول دون أن أتمكن من إنجاب سواها حتى ذلك الوقت!
تصدت «جدتي» قبل والدي للموضوع؛ أعني: المشكلة، وأخبرتني بأنني إن لم أنجب «ولدًا» فهذا يعني: أنني لم أنجب قط!
أمي أكدت هذا الكلام ورددته على مسامعي كل صباح ومساء بقلق وخوف كبيرَينِ.
وابنتي هذه، من أنجبها يا أمي؟ من؟
هذه ليست بخِلفةٍ تحسب لنا يا سليماني، خلفة لا يُعتَد بها، فهي لن تتمكن من البقاء بجانبك طويلًا، تذكَّرْ هذا جيدًا. «بكرة رح يجي ابن الحلال ويخطفها على سنة الله ورسوله يا سليماني»، ثم إنها لن تحمل اسمك، اسمك يا بني، ستبقى سليماني، وسنبقى نناديك بهذا الاسم حتى مجيء «الصبي»، «الصبي» الذي سيحمل اسمك ويشد من أَزْرِك، وترفع رأسك عاليًا به أمام الجميع، «فالصبي عزوة يا بُنيّ»، وهو فقط من سيرثك بعد عمر طويل.
أنا سليماني الذي رزقه الله واستجاب لدعواتهم، فأنجب ولدَينِ اثنَينِ ليرفع رأسه «رأسكم أنتم»، أحسب أن رأسي مرفوع من دونهما عاليًا كما قالت أمي وأبي وجدتي، والحارة برجالها ونسائها وقاطنيها.
أنا سليماني الذي صار الناس ينادونه فجأة بـ«أبو غالب»، ولا غالب إلا الله، أيها الناس لو تفكرون، غالب أين هو؟ منذ سنة تخرجه التحق بإحدى الشركات الهندسية في أميركا وبقي هناك بعد أن أخبرنا بزواجه من زميلته، ولم يحدث سوى أن زارنا مرة يتيمة!
أما شقيقه فمنذ أن وصل في إجازة قصيرة من عمله في الخليج، وصادف عيد ميلادي الأخير أثناء وجوده، فأحضر لي هدية زعم أنها ثمينة، وكانت هاتفًا جوّالًا يُدعَى بالهاتف الذكي، أخبرني أنه سيدربني على طريقة استعماله بعد أن وضع صورتي على شاشته الكبيرة وغاب.
انا سليماني الذي لم يعرف الحب قط برغم زواجه وإنجابه البنين والبنات، في الواقع ابنة وولدَينِ.
مر الحب من جانبي كسيل من علٍ ذات صباح، وكنت غافيًا وغافلًا عنه، فلم يتوقف، أو يلتفت نحوي، أو ينادي باسمي، أو يرمي بإشاراته القوية في طريقي فأنهض لأحدق به وأستوقفه؛ لأحتفي به كما لو كان صديقًا وصل بعد غياب طويل، أستوقفه وأسقيه ماء القلب؛ كأنما يعرف أن هذا ليس من شأني، فتابع طريقه بلا تلكؤ ولم ينظر ناحيتي قط.
أنا الذي عشت لكم، ومن أجلكم، وبين أيديكم، أنا الحاضر دائمًا، وطوع أمركم.
أنا سليماني الرجل الذي يوصف بـ«المُعقَّد» والذي «لا يضحك للرغيف السخن» كما يقول الجميع.
أعرف هذا جيدًا، لطالما ردده أمامي كثيرون بالمنزل والعمل والحي الذي سكنته منذ أن كَبِرت وتزوجت، لكني لا آبَهُ بما يقولونه، ربما لأنني لا آخذه على محمل الجد.
أنا هو الرجل الذي قال عنه الشاعر:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا
ليومِ كريهةٍ وسِدادِ ثَغْرِ
أنا هو ذاك.
والآن، ما يهمني هو الآن، الآن في هذه اللحظات التي سار بها الزمن وخلفني وراءه كجيفة، من أنا؟ ومن هذا الذي يحدق بي بكل صلافة ولا يمل؟!
قبل قليل، أعني.. أعني قبل سنوات قليلة مرت، قبل عام، قبل هذا اليوم، قبل الما قبل.. كنت أعرفني، أعرفني باسمي ووجهي وملامحي وعينيَّ.
الآن من أنا؟ ومن أكون؟ كيف أعرفني وأنا لا أشبهني؟! لا أُشْبِهُني باسمي الذي كَبِرْت معه وعشت عمري كله به رغم العواصف والمفاجآت، رغم عبثية الأقدار، رغم ضيق ذات اليد والصعاب التي مررت بها ومرت بي، وكادت أن تُطيحَ بي أكثر من مرة، أنا الذي اختبرتني الحياة كثيرًا ولم آبَهْ بها، بل بقيت واقفًا باسمي الذي كنت أعرفني به.
ما الذي حدث في غفلة عن كل شيء؟ ومن سرقني مني؟
أكرر الاسم أكثر من مرة، فيمر من سمعي، ويسيل كدمعة معترضة دون أن يتوقف أو يتمهل متعثرًا بي ليوقظ فيَّ شيئًا ما، موقفًا ما، كلمةً ما، دون جدوى!
أنا الرجل الحائر المرتبك الضائع التائه، الذي يقف على الحافة من كل شيء:
الحافة من اسمي، الحافة من ملامحي الباهتة، الحافة مما حولي ومما يحيط بي ويطوقني كقيد من الجهات كلها، الحافة بين حياتَينِ: سليماني الذي كنت أعرفه من قبل، وهذا الرجل الماثل أمامي بصلعته التي تشبه البطيخة، الذي أجهل من يكون؟! هذه حياة لا تشبه حياتي بشيء، حياة يجيدها الآخرون ببراعة.
أيتها المرآة، من أنا؟ من هذا الرجل الماثل أمامك بصلعة تشبه البطيخة، وبملامح مجهولة، كأنها ملامح شخص جاء من زمن قديم وسحيق؟ هل ستَدُلِّينني عليَّ، أنا الرجل الذي نسي أن يعيش ففقدتُنِي بالزحام؟
من أنا؟ وكيف لي أن أهتدي لاسمي ووجهي؟ من أنت يا هذا؟!
المرآة صامتة جامدة كحجر صلد لا يلين، مرت عليه شتاءات كثيرة وهو راسخ لا يتحول أو يتبدل في مكانه.
«ليت الفتى حجر» ليتني كنت أنا ذاك الفتى الحجر!
ولأول مرة طَفَرتِ الدموع من عينَيْ سليماني بجزع، وأخذ ينتحب بصوت مرتفع!
***
رن هاتفه الجوال وهو لا يزال يحدِّق بالمرآة، رن رنينًا متواصلًا ملحًّا أكثر من مرة، رن كما لو كان أحد يتوسله أن يرد، لكنه لم يتمكن من الرد، وأخذ يحدق في الهاتف وهو يرى صورة رجل لم يتمكن من التعرف إليه، تَنفَرِش صورته على شاشة الهاتف وتحدِّق به بعينَينِ جاحظتَينِ وباردتَينِ.
المنشورات ذات الصلة
برايتون
... يصل القطار إلى «برايتون»، يعلن ذلك قائد القطار، يشاهد اللوحات الجانبية على رصيف المحطة تحمل اسم «برايتون»، خدر...
في طريق السفر تخاطبك النجوم
مغامرة صغيرًا كنتُ، صغيرًا جدًّا رميتُ صنارتي إلى البحر اجتمعت الأسماك معًا، رأيتُ البحر! * * * صنعتُ طائرة ورقية بسلك...
بين صحوي وسُكْرها
رغمًا ترددتُ.. لم أسكَرْ ولم أَصْحُ! في كأسكِ البرءُ أم في كأسكِ الجرحُ؟ قصّت جناحي بأفْق الحبّ أسئلةٌ ...
0 تعليق