كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
الطموح لبناء صناعة سينمائية
في العالم العربي توجد صناعة سينمائية عريقة راسخة ومعروفة في مصر. في حين يوجد إنتاج للأفلام في عدد من البلدان العربية. والمقصود بصناعة سينمائية وجود عوامل متعددة مترابطة تمكنت خلال الكثير من التجارب والإنشاءات من خلق قاعدة لوجود هذه الصناعة بغض النظر عن تطور أو تدهور هذه الصناعة، طبقًا للمراحل التاريخية المختلفة، والعوامل التي تؤثر في وجودها وتطورها، كما أن وجود صناعة للسينما لا يرتبط بالضرورة بمستوى ما ينتج من أفلام، فهناك التجاري السائد أو الأفلام الاستهلاكية التي تنتج بغرض التسلية، وهناك الأفلام الفنية الأكثر طموحًا التي تنتج للتعبير وتوصيل رسالة فكرية وذهنية معينة.
ولعل النموذج الأمثل للدلالة على ما نقوله هنا بخصوص الصناعة، يتمثل في صناعة السينما الهندية، ما بين تجربة «بوليوود» في بومباي، والتجارب السينمائية الأقل تكلفة وإبهارًا التي تنتج في ولايات أخرى في الهند.
وعندما نقول: إن هناك أفلامًا سينمائية تظهر بين وقت وآخر في لبنان وسوريا وفلسطين والجزائر وتونس والمغرب، فليس المقصود التقليل من شأن هذه الأفلام أو منتجيها، لكنها لا تخلق صناعة بسبب اعتمادها الأساسي على العنصر الأجنبي سواء في التمويل أو التقنية السينمائية (التصوير والمونتاج والموسيقا والمكساج… إلخ) كما أنها- تفتقر لوجود سوق داخلية تضمن دوران رأس المال في دورة مستعادة تكفل الاستمرار في الإنتاج. ولولا شراء هذه الأفلام من بعض قنوات التلفزيون الفرنسية والأوربية عمومًا، لأفلس منتجوها بسبب غياب دورة التوزيع، وبخاصة في ضوء التراجع المخيف المستمر منذ سنوات في عدد دور العرض في هذه البلدان التي ذكرناها.
لهذا فإذا تصورنا أننا نريد خلق صناعة سينمائية في بلد عربي لم يعرف هذه الصناعة من قبل أو عرف على استحياء عروض بعض الأفلام، من دون أن تظهر فيه عناصر سينمائية تقدم على تجربة الإنتاج، فمن الضروري أولًا التأكد من خلال دراسات الجدوى من وجود جمهور يمكنه استهلاك المنتج السينمائي، أي سوق لتوزيع الفلم يكفل استرداد الأموال التي أنفقت على إنتاجه وتحقيق هامش من الربح لمنتجيه، وبهذا تستمر دورة الإنتاج، ومن دون سوق لا فائدة في الحديث عن صناعة سينما. ووجود السوق يقتضي إنشاء شبكة ضخمة من دور العرض، فالفلم مكانه الطبيعي في دار العرض السينمائي وليس على شاشة التلفزيون أو جهاز الكومبيوتر الشخصي أو الآيفون وخلافه، فما يصلح للعرض على الشاشة الكبيرة لا يصلح بالضرورة للعرض على الشاشة الصغيرة، فلكل جمالياته ومقاييسه الفنية الخاصة.
السينما فن ديمقراطي بالضرورة وبحكم طبيعته وتكوينه فهو لا ينشأ وتتعدد مستوياته وأساليب مخرجيه إلا في مناخ عام صالح حر مع تقليص قبضة الرقابة والحد من تدخل قوى التشدد الاجتماعي. ولا يجب التذرع بما تحققه بعض الأفلام الإيرانية في المهرجانات الدولية، فإيران تنتج عشرات الأفلام سنويًّا، كلها تخضع لمعايير رقابية متشددة تتضمن الكثير من المحاذير، ولا تنجح خارج إيران سوى الأفلام التي تفلت بطريقة ما، من هذه القيود، منها أفلام تصور سرًّا أو تخترق نظام الرقابة، ويدفع مخرجوها الثمن، أو أفلام تُموَّل من الخارج ومن فرنسا تحديدًا، ويتركها النظام الإيراني للتظاهر بالحرية لكي تُسوَّق في أوربا، لكنه يحظر عرضها في الداخل.
تأسيس بنية تحتية قوية
يجب قبل كل شيء تأسيس بنية تحتية قوية: نظام للأستوديوهات والمعامل والكاميرات مع إعداد كوادر مدربة تدرس السينما في المعاهد أو ورش العمل والبرامج التدريبية المباشرة على الفروع المختلفة للعمل السينمائي. ضرورة توافر نظام للإنتاج يسمح بالاستثمار الخاص والخارجي مع الاستثمار القادم من الدولة التي يتعين عليها دعم التجارب الأكثر طموحًا، مع تخصيص مسابقات للسيناريو الأفضل. وهنا يأتي دور مهرجانات السينما التي لا يجب أن تكتفي بعرض مختارات من الأفلام العالمية، فرغم أهمية هذه العروض إلا أن الهدف الرئيسي لأي مهرجان دولي كبير هو تنشيط السوق السينمائية الداخلية ودعم صناعة السينما في البلد الذي توجد فيه المهرجانات. ويتوافر هذا من خلال الاحتكاك مع شركات الإنتاج الخارجية ودعوة ممثليها للمشاركة في المهرجانات وعرض المشاريع التي تستحق التمويل عليهم، وتبادل الأفلام معهم، وتوزيع الأفلام الفنية التي تحمل قيمًا وأفكارًا إنسانية رفيعة في الداخل أي عدم الاكتفاء بعرضها في المهرجان فقط، كما يجب أن تلعب قنوات التلفزيون المتخصصة في عرض الأفلام دورًا في تمويل إنتاج الأفلام «السينمائية» على أن تعرض أولًا على الشاشات في دور العرض السينمائي قبل أن تنتقل للعرض على الشاشة الصغيرة.
تشجيع النقد في الصحافة والإعلام
أي الاهتمام بنشر الدراسات والمقالات النقدية في الصحف، ونشر الكتب السينمائية المتخصصة بشكل منتظم، وإقامة الندوات والمحاضرات حول قضايا السينما، وتخصيص برامج للثقافة السينمائية في القنوات التلفزيونية وعدم الاكتفاء ببرامج التسلية السينمائية التي تدور عادة حول الفلم الأميركي الشعبي تحديدًا وحول نجوم السينما الأميركية، أي عدم التعامل مع السينما بوصفها ظاهرة من ظواهر التسلية بل كظاهرة ثقافية. أي الاهتمام أيضًا بالصورة وثقافة الصورة ومغزاها ودلالاتها بشكل عام، والطموح لجعل تدريس التذوق السينمائي مادة من المواد التي يدرسها التلاميذ منذ المرحلة الابتدائية من التعليم جنبًا إلى جنب المسرح وسائر الفنون الأخرى.
الفلم الفني
وإذا كنا نعدّ السينما جزءًا من الثقافة مثلها مثل الأدب والشعر والمسرح والفن التشكيلي والتصوير والعمارة، فمن المهم التركيز على تطوير هذه النظرة من خلال الاهتمام بالفلم الفني الذي يستخدم الوسيط السينمائي من أجل التعبير عن الأفكار، مع تشجيع وجود تيارات متعددة في السينما بحيث لا تصبح الأفلام على وتيرة واحدة، تتكرر فيها الثيمة نفسها من فلم إلى آخر، فالسينما «الطبيعية» هي السينما التي نجد فيها الفلم الدراميّ والفلم الموسيقيّ والفلم الحربيّ والفلم الكوميديّ والفلم الفلسفيّ… إلخ التي تنفتح فنيًّا على مختلف المدارس والمذاهب السينمائية. والفلم السينمائي ليس هو فقط الفلم الروائي الدرامي الطويل فهناك الفلم القصير والفلم التسجيلي وفلم التحريك والفلم التجريبي. وهذه الأجناس المختلفة من الأفلام يجب أن توجد جنبًا إلى جنب، وبخاصة الفلم التسجيلي الذي أصبح اليوم من أهم وسائل التعبير البصرية عما يجري في الواقع، بل يتجاوز كثير من الأفلام التسجيلية السينما الروائية في جاذبيتها وقدرتها على عرض موضوعاتها مع مزجها بالخيال الشخصي للفنان السينمائي الذي يصنعها.
وليس من الممكن أن تعيش أي صناعة سينمائية ناشئة اليوم بمعزل عن محيطها الإقليمي، فمطلب وجود سوق سينمائية عربية مشتركة يظل مطلبًا أساسيًّا، وقد يمكن التحرك في هذا المجال من خلال تبادل التوزيع السينمائي أي ليس من خلال عمليات البيع والشراء بالضرورة بل من خلال الشكل التبادلي وهو الأنسب في منطقة الخليج العربي والعراق.
لا شك في وجود الكثير من شباب السينما في بلدان الخليج، منهم من درس السينما على أعلى مستوى، ومنهم من أنتج وأخرج بمبادرات فردية أفلامًا بواسطة الكاميرا الرقمية الخفيفة وبإمكانيات بسيطة محدودة للغاية، بل هناك أيضًا بعض التجارب القليلة الأكثر طموحًا جاءت من السعودية والإمارات، واعتمدت على سيناريوهات أصلية ومخرجين من المنطقة مع تطعيم تجاربهم بخبرات أجنبية. والمطلوب الآن من هذه التجارب السير قدمًا لتحويل المبادرات الفردية إلى قاعدة دائمة للصناعة والإنتاج والعرض السينمائي في الداخل أولًا وفي المنطقة العربية ثانيًا، بدلًا من أن ينحصر الهدف في اختراق المهرجانات السينمائية الدولية.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب في الوطن العربي
صورة النخب وجدل الأدوار محمد شوقي الزين - باحث جزائري مثل المنطوق الأوربي (elite)، تنطوي مفردة «النخبة» في اللسان...
المخرج الجزائري سعيد ولد خليفة: ما يثير اهتمامي دائمًا هو المصاير الفردية للأبطال اليوميين... وفي الجزائر المقاومة كانوا يُعدون بعشرات الآلاف
يملك المخرج الجزائري سعيد ولد خليفة تصوّرًا مختلفًا للسينما، تشكّل من خلال تقاطع حياته الشخصية المصقولة على نار الغربة...
«مندوب الليل» فِلْمه الروائي الأول علي الكلثمي: نعيش عصرًا ذهبيًّا تتوافر فيه سبل الدعم
أوضح المخرج السينمائي السعودي علي الكلثمي، أن المصادفة هي التي أوحت له بشخصية «فهد القضعاني»، مشيرًا إلى التخطيط...
0 تعليق