كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
النزول إلى دمشق (4)
أربع سنوات في قرية سورية، أعقبها رحيـــل إلى دمشق. بقينا في النكبة، وبقيت النكبة فينا. كان الفصل خريفًا، والطريق بين القرية والقنيطرة لا جديد فيه. ووراءنا مودّعون قلائل، والحصان الكسير الذي كان يحتضر غاب عن النظر. نظر إلينا، ونحن نغادر القنيطرة، عجوز وقال: «عليك بالشام عند مزاحمة الأقدام». فهمت من كلامه القليل، وأعادني إلى معلّم القرية، الذي قال مرة، بنبرة يختلط فيها الانتباه بالشرود: دمشق من خضرة ونور وعاصمة الأمويين. أيقظت كلماته في مخيلتي صورة لمدينة خضراء لا تعرف الظلام.
وصلنا المدينة مساء، دخلناها من حي الميدان، كما قال السائق، الذي بدا مرشدًا. أعقبت حي الميدان حارات ضيّقة، لم تفلح الكهرباء في طرد ظلمتها. أقنعتني، بلا سبب، أن فيها مخازن للحبوب والجلود المدبوغة والأسلحة القديمة، وأنها عامرة بأصداء فرسان رحلوا من زمن بعيد. دخلت السيارة، على غير توقّع، طريقًا معتمًا تحف به الأشجار، يفصل بين «حي الأكراد»، الذي نقصده، وأجزاء من المدينة. قال السائق – المرشد: إن غوطة دمشق تحيط بالمدينة من الشرق إلى الغرب، تتسلل إلى بيوتها، تظلل أحياءها، تجمّل صباحاتها، تغدق عليها فاكهة متنوعة. تخيّلت، بعد حين، أن الغوطة أم واسعة الأطراف، وأنّ دمشق ابنتها «المدلّلة»، وأن «الفيحاء»، جاءت من فاكهة عمرها آلاف السنين.
سكنّا «حي الأكراد»، في الشمال الشرقي من المدينة، كان الحي يتاخم جبل قاسيون الذي كانت فيه نبتة قصيرة لها مذاق زعتر فلسطين، قبل أن يجتاحه البناء ويحوّله إلى هضبة أليفة تتسلقها بيوت سوّيت على عجل. بعد دخولي مدرسة «عثمان ذو النورين»، أيلول – 1953م- تعرّفت على معالم المكان: نهر يزيد، أحد أنهار المدينة الخمسة، الذي كان يشتد في الشتاء ويوحي بهيبة غير متوقعة، «بيت الأربعين» المعلّق في الجبل والمحوّط بالاحترام والقداسة، مشفى ابن النفيس الذي يقع شرق المكان، ويعالج الأمراض المعدية، جامع يونس آغا، مبتدأ الحي، الذي ينفتح على الغوطة شرقًا، وساحة شمدين آغا، المفضية إلى حي «الشيخ محيي الدين»، حيث مسجد المتصوّف ابن عربي وقبره.
عرفت حي الأكراد بحاراته الصاعدة، نحو الجبل، وبيوته المحاذية لنهر يزيد، وحنفيات الماء (الفيجة)، التي تلازم بدايات الحارات جميعًا، ومساجده المغسولة ليلًا ونهارًا، وأهله الطيبين، وملامحهم الصارمة. كان البسطاء منهم يتجولون في الشوارع «بقبقاب خشبي» يسحبونه براحة، و«بيجاما» واسعة صالحة، ربما، لكل الأمكنة والأزمنة. لم تكن هذه العادة خاصة بالأكراد وحدهم، وهو ما حمل المربي الفلسطيني خليل السكاكيني، صاحب اليوميات الشاسعة، أن يدعو دمشق، التي أقام فيها أشهرًا في العهد العثماني؛ مدينة القباقيب.
الحي الكردي واللاجئ
أخذ الحي الكردي، من نهاية خمسينيات القرن الماضي، اسمًا جديدًا: ركن الدين. لكن ذاكرتي اعترفت، ولا تزال، بالأول لا بغيره، كما لو كان اللاجئ يعترف بما وصل إليه و«استقر» في سكن. اقترن الاسم ببيت قديم، على أطرافه أشجار رمّان يابسة، تحاذيها شجرة تين إلى جوارها قبر أحد «الأولياء». كان البيت ينفتح صباحًا على مدينة يتصاعد منها الضباب، ويشرف ليلًا على غوطة تؤنسها أنوار مرتجفة، وفي ليالي الشتاء الغائمة كانت الغوطة تفترش ظلامًا واسعًا، وتحلم بألوان الفصول القادمة.
ما زلت أذكر مدرستي ومديرها الكردي محمود مهدي إستنبولي، بشعره الخفيف الأصهب وببزّته الأنيقة وشغفه بالنظافة والخط الجميل وذكره المستمر لفلسطين. كان يظلع في مشيته، يدعم قدمه اليسرى بيده اليسرى، بإيقاع منتظم، كما لو كانت اليد القوية امتدادًا للساق المريضة، أو كانت الساق المتمردة امتدادًا ليد مطيعة. كان يكافئ المجتهدين بالكتب، ويعتبر كتب مصطفى صادق الرافعي هدية عالية خاصة: السحاب الأحمر وحديث القمر، فإن بلغ رضاه مداه، أضاف كتاب: الإسلام دين ودنيا، الذي سقط اسم مؤلفه من ثقوب الذاكرة. وأذكر المعلمين: حسن هاشم الدمث القصير القامة البالغ الأناقة الدقيق الشاربين، كما لو كان في تأنقه يعوّض ما ينقصه، ورياض آلاه رشي، في ريعان شبابه تلازمه أناقة رهيفة، إن مشى بين التلاميذ سقط عليهم الصمت، ونادر قره شولي، النحيف الطويل المخلص لِقهقهته المتطاولة والمخلص أكثر لمعطف رمادي طويل يلازمه في جميع الفصول. كان الأخير كثير الغياب، وكنا نظنه كثير المرض، إلى أن عرفنا أنه «موقوف» من «المكتب التاني»، لكونه عضوًا ناشطًا في حزب سياسي يعارض السلطة. ما أذكره أن تلاميذ المدرسة الابتدائية، في ذاك الزمان، كانت لهم ولاءات حزبية، وكان الجميع في ذاك الزمان يتخذ من فلسطين مدخلًا للكلام.
بعد أكثر من ستين عامًا، وتداخل العسل والصدأ والرماد، ما زلت أذكر بحنين باحة المدرسة كل يوم خميس. كان المدير والمعلّمون، يقفون بين تلاميذ توزعوا على صفوف مستقيمة، أخذت مسافة عن مركز «الباحة»، حيث منبر خشبي يكتمل بدرجتين خشبيتين إضافيتين تساعدان صبية حظهم من النمو قليل. كان المدير يطلب من «أحمد كم نقشي» نشيدًا وطنيًّا. يصعد التلميذ. بوجهه الشاحب وعينيه الواسعتين، إلى المنبر، ويطلق صوتًا شجيًّا وإلى الحزن أقرب: «أخي جاوز الظالمون المدى، فحق الجهاد وحق الفدى»، فإن بلغ الجملة القائلة: «أرى اليوم موعدنا لا الغدا» جاء تصفيق صاخب، يوقفه المدير بحركة من يده. يشكر المدير التلميذ: ويأتي على ذكر محمد عبدالوهاب، ويثني على الشاعر المصري: «علي محمود طه». يتضاحك الأستاذ «إستنبولي» قليلًا ويقول بنبرة حاسمة: أحمد، الآن دور «الموّال»، حينها يشتعل وجه التلميذ بهجة وألقًا، يضع يده اليمنى على أذنه، ويطلق العنان لصوته: «يا مدبّر الكون ويا عاطي الخلايق نعم، ما خالفت أمرك يوم…». ينطلق الصوت راضيًا، يعلو ويرتفع ويصعد ويتصاعد، ثم يشفّ ويصبح أكثر حنانًا ويختم، متأسيًا، بكلمة أقرب إلى الآهات: يا ربي!
بعد التلميذ السوري الكردي، يصعد المنبر التلميذ الفلسطيني الوحيد في المدرسة ينشد بخجل قصيدة شوقي: «سلام من صبا بردى أرق، ودمع لا يكفكف يا دمشق». ومع أن بين الصوتين فرقًا في الأداء كانت المدرسة، مديرًا ومعلّمين وتلاميذ، تغمر الفلسطيني بالثناء والتصفيق. يقف على المنبر حائرًا، تسقط من عينيه دموع، وينزل ويلوذ بالصمت.
بعد مطلع الألفية الثالثة، وأنا مسافر من دمشق إلى عمّان، ركبت مع سائق يلف رأسه بكوفية وقليل الكلام. سألته: الأخ من دمشق، أجاب: نعم، سألته ثانية: من أين، أجاب: حي الأكراد. قلت له: أعرفه وكنت في مدرسة «عثمان ذو النورين»، أجاب: كنت فيها وقال: اسمي أحمد كم نقشي. كانت السنون قد غيّرت أشياء فينا وفي دمشق وجبل قاسيون الذي لم يعد جبلًا، ونهر يزيد الذي أهلكه الجفاف. وتبادلنا الكلام عن ذكريات هاربة، إلى أن سألته: هل ما زلت تذكر «يا مدبّر الكون؟» قال بحماس حزين: نعم، وما زلت أغني، وغنّى وأبكى قلبي، كان صوته شظايا من الصوت القديم.
أذكر من ذاك الزمان، وقد ترددت على «ثانويات» متعددة، أن فلسطين، كانت محور النظر ومركز خطابات وشعارات ومقالات ورسومات وأغانٍ وكتب ومناسبات تستنفر البديع والبلاغة والقصائد،.. كان يتقاسمنا، نحن الفلسطينيين، شعور ملتبس، نرتاح إلى تآزر دافئ في مناسبات وعد بلفور وتقسيم فلسطين ومجزرة دير ياسين… وكان يلازمنا أيضًا شعور بالمرارة والكآبة: لو كنا كغيرنا لما سقط علينا عطف ومتواليات من الوعود، ولو كان قميصنا كغيره لما كثر الكلام عن «لطخة سوداء» تتوسطه.
قلادة في صدر الدنيا
كنا نسعد، في الثانويات المختلفة، حين نعرف أن بين المدرسين فلسطينيًّا أو أكثر. نباهي بهم، كما لو كنا نبرهن عن شهادة نحتاجها: «نعلّم الإخوة السوريين ونتعلّم منهم»، لا فرق إلا اللجوء وأمور غالية سقطت في الطريق. كان المدرسون الفلسطينيون يعلّمون، غالبًا، الإنجليزية، نتعمّد الاقتراب منهم، ونفرح إن كانوا محبوبين من التلاميذ، حال «إبراهيم عودة»، الطويل القامة الكثيف الشعر، الذي ترجم رواية للأميركي جون شتاينبك، وحرص على لهجة فلسطينية خالصة، يعابث بها التلاميذ ويزجرهم، ويكرر أن القدس «قلادة في صدر الدنيا»، وأنّ هواء «رام الله» يثلج الصدور. وكان معه في «التجهيز الثالثة»، بلغة ذاك الزمان، فلسطيني آخر أقل طولًا؛ محمد النحوي. يشدّ قامته في مناسبة وعد بلفور، ويضبط نظارته الطبية، ويتحدّث عن القدس والأرض وصفد ويدخل إلى الصف، بعد «الخطبة»، دون أن يغادره الغضب. كان «تجهيزنا» يجاور المستشفى الإيطالي، قريبة من «عرنوس» والجسر الأبيض والصالحية، وستغدو لاحقًا ثانوية: جول جمال.
لم يكن التلميذ في خمسينيات دمشق الآفلة بحاجة إلى «الكتب» ليصبح مثقفًا. كان فضاء المدينة الثقافي – السياسي يحرّره من الثقافة الكُتُبية الجامدة، نعرف ما يدور في العالم من عناوين الصحف المتنافسة، التي تتجاوز الثلاثين، ونتعرّف على جديد الثقافة من واجهة المكتبات المتعددة. فعلى مقربة من «التجهيز» كانت مكتبة صايغ، مقابل «البرلمان» اشتريت منها، الطبعة الأولى الإنجليزية لرواية همنغواي: العجوز والبحر 1954م، مؤجلًا قراءتها إلى لحظة سعيدة قادمة، وإلى جانبها مكتبة أوسع، ماتت منذ زمن طويل، اشتريت منها رواية أرسكين كالدويل «طريق التبغ» وسألت الزمن أن يسعف لغتي الإنجليزية.
كنا كتلاميذ مقبلين على الحياة – صبية لم يراهقوا بعد – نتنافس داخل الصف وخارجه، تجذبنا دور السينما، التي فاق عددها الأربعين، ونلتحق بالمظاهرات ونخترعها، ونتداول مجلات: الرسالة والرواية والهلال – الآتية من مصر، ونثني على أحمد حسن الزيّات ونوجه تحية إلى جورجي زيدان، ويلامسنا البكاء ونحن نقرأ المنفلوطي، وتمتعنا قصص الحيوان في كليلة ودمنة، وننظر بدهشة إلى الرسوم التي كان جبران خليل جبران يدرجها في قصصه.
وكان لنا تنافسنا الغريب في شراء روايات أجنبية شهيرة، ترهقنا ماليًّا لأنها جميلة الغلاف، حال طبعة جميلة لرواية هيرمان ميلفل موبي ديك، كانت تزينها من الداخل رسوم «ريكويل كنت». كنت أنبهر بالصياد المبتور الساق وبالحوت الأبيض الهائل وبصاحب الجسم الموشوم الذي كان أبوه ملكًا. لم نكن في أيام السعادة نسائل الربّان المستبد الذي يقود بحارته إلى الهلاك، ولا نكترث بصيّاد حيتان عصابي ينتهك براءة الطبيعة. عشنا سعادة بريئة خفيفة التكاليف، تأتي إلينا مع ضباب الغوطة الصباحي ونظرات التلميذات العابرات الناعسات العيون المحملات بأريج الياسمين. وحين ابتعدت السعادة سألنا: لماذا كنا سعداء؟ ولم يكن العثور على الجواب سهلًا، فالإجابات، كل الإجابات، تقصّر عن الأسئلة، وتأتي متأخرة.
ومع أن الزمن العربي الذي نعيش يسخر من الذاكرة، فإن وقائع من دمشق الخمسينيات استقرت في الذاكرة بلا رحيل: فاض نهر بردى (عام 1955م ربما) ومنع السير بين بوابة الصالحية ومحطة الحجاز، وخرج أساتذة الجامعة في مظاهرة تهتف ضد حلف بغداد، وأسقطت مظاهرات الطلبة حكم العقيد أديب الشيشكلي.. كان هناك ذات مرة نهر ومدينة وصبية يختلفون في أفكار ساطع الحصري وحسن البنا وكارل ماركس.
لم نقصد العلم في ذاك الزمان كانت تعلمنا الحياة، وكانت دروسها أوسع منا. ولأسباب لم أتبيّنها زهدت، مبكرًا، بالمنفلوطي وأدب الدموع، واحتفيت بشخصية جان فالجان، في رواية فيكتور هوغو «البؤساء»، ذلك العادل العاثر الحظ، الذي طاردته الحياة وطارد مساخر الحياة حتى تلاشى.
المنشورات ذات الصلة
«لُغز» الأدب الفلمنكي هوغو كلاوس حين يحوم فوق الناس «كالطير الجارح»: أنزعُ منهم نتفًا.. لأصنع منها كتبًا
ربح الكاتب والشاعر البلجيكي «هوغو كلاوس» قلوب كثيرين بسحر شخصيته وموهبته الأدبية الطاغية، لكنه كان عازمًا أيضًا على...
القاهرة… مدينة من رموز وصداقات
ما يترسّب في ذاكرة الطفولة يعيش طويلًا، تمر به الكهولة ويظل سليمًا، ويبلغ الشيخوخة ولا يشيخ، وقد تتسع أبعاده ويأخذ شكل...
الفلسطيني: صعوبات كتابة سيرة ذاتية
هل يستطيع فلسطيني أن يكتب سيرة ذاتية؟ يبدو السؤال في البداية بسيطًا قوامه ذاكرة قوية أو معطوبة وقدرة على السرد بلغة...
0 تعليق