كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
«سادن الأقفال» لحسن دعبل.. المكان امتداد للذات
إن كان هناك ملمح بارز تتميّز به الكتابات عن المكان والمدن ومحاولة استعادة لحظاتها الماضية، فهو ذلك الشعور المتواصل بالحنين إلى المكان الأولي، والمشرَب الأول الذي فيه تنشأ الكينونة وبه تصطبغ وعليه تُفطَر، وما يشكله الابتعاد من المكان الأولي من متوالية من الأحاسيس والآلام والحنين والاشتياق الذي يأخذ مبلغه في الذات وتضجّ به، حتى لا تعد الذات قادرة على تحمله، فينسكب انسكابًا في نصوص سردية أو مقطوعات موسيقية أو صياغات جمالية تكون تجليًا لما يعتور في داخل الذات وأسرارها. تكمن القيمة المعرفية في النظر وقراءة سير المكان، أنها تكون مرآة عاكسة للكينونات الفردية التي تسكن هذا المكان، حيث ينهض المكان كعلامة قائمة بذاتها، تحوي دلالات يمكن الوقوف عليها وقراءتها واستتباع تجلياتها في الحيّز الذي تتشارك فيه.
ومادام الأمر كذلك، فإن التغيرات والتبدلات التي تطرأ على المكان، وبحكم مبدأ التأثير المتبادل الناتج من علاقات التجاور والاحتكاك، والقرب والبعد، سيكون لها امتداد زماني ومكاني في الكينونات التي تسكن المكان، حيث إنها تنساب إلى اللاوعي للكائن الذي يسكن هذا المكان. وبقدر ما يكون هناك تحولات وانزياحات مادية في طبيعة المكان، فإن هنالك تقلّبات وتغيرات تستتبعها وتتزامن معها في داخل الفرد الذي يعيش في هذا المكان، وهي وإن اختلفت في صورتها، إلا أن مفاعليها وآثارها تتلاطم وتتماوج حتى تصيغ مزاجات الكائن ونزوعاته وميولاته الحسية والذوقية والعقلية. وعلى ضوء هذه المقدمة، يمكن قراءة نص «كاهن البحر الدلموني» (سادن الأقفال – دار الرافدين) الذي يعمل على قراءة مغايرة لهذا المكان الأثيري وجمالياته المغطّاة بطبقات كثيرة تتواطأ على إخفائه، هذا النص يقوم على معالجة الانتهاك المضاعف الذي يعانيه المكان، تواطؤ متعاقب ومتناسل وذو هوية لا متجانسة مع طبيعة المكان الأولي، هذا التواطؤ تفاقم واستفحل حتى أضحت هذه الصورة المُتخيَّلة الهوياتية عن المكان هي الأصل، ليتوارى المكان خلفها! أما التواطؤ الآخر فهو تواطؤ الزمان ومجريات الأمور على المكان، وعليه لن يكون بالإمكان معالجة تلك الانتهاكات إلا بانتهاك مضاعف، يقوم على الحفر وإزالة ركام الطبقات والغشاوات التي رَكِبت المكان ومنعته الظهورَ.
إن صاحب «سادن الأقفال»، يكتب نصًّا يستبطن المكان بتاريخه الهاجع، وأحفورياته المبثوثة في جوف المكان، وحضاراته المندثرة، حيث يقوم على استجماع شاعرية المكان المفقودة، ومن يقرأ نصوصه يرى فيها تلك الانطباعات الرقيقة التي كونت حياتنا في زمن ما، وهنا تتماهى نصوص حسن دعبل مع ذلك النص البروستي في رواية «البحث عن الزمن المفقود» حيث يقول بروست: الأماكن التي عرفناها لا تنتمي فقط إلى عالم المكان الذي نقوم بموضعتها فيه من أجل راحتنا. ما الأماكن إلا قطعة رقيقة مجاورة لانطباعات كوّنت حياتنا في ذلك الزمن؛ والذاكرة، لصورة محددة، ما هي إلا لهفة من أجل لحظة محددة، وبيوت، وطرق وجادة عابرة، ويا للأسف، مثل السنين«.
في مقابل ذلك، فإن نصوص كاتبنا، افتقدت للدفق الشعري، كأن نصوص «سادن الأقفال»، تساوق افتقاد المكان لطبيعته الشاعرية، بعد أن جرى التجريف العسفي لتلك الصور الشعرية التي كان يحفل بها المكان، كتعانق مياه البحر مع البيوت، وارتماء الإنسان وغوصه في البحر، والطعوم البحرية برائحتها ونكهتها، والسفن الخشبية التي كانت تصول في البحر، تقبع الآن في صورة سكونية، منهكة ومهملة وحزينة. كانت العلاقة بين الإنسان ومكانه علاقة تجادلية وتشابكية تمفصل كامل حياته ومزاجه وأهوائه. أما الآن، فهناك ما يشبه الانفكاك بين لفظ المكان بحمولته الشاعرية وبين معناه، حينما يُستحضر في الذهن البحر، وناسه، لن يكون لهذا الاستحضار معنًى دافئًا يرافقه ويقوِّم به اللفظ. هذا التعجّم والانزياح بين اللفظ ومعناه ألقى بظلاله على لسانية الكائن، فأضحى مغتربًا عن مسكنه الأصلي «إذا ما سلمنا بأن اللغة هي مسكن الكينونة».
ترافق مع هذا البعد والقطيعة اللسانية إن صح التعبير، افتراق آخر على المستوى السمعي، يمكن بلورته في هذه العبارة: «الأذن تعشق قبل العين أحيانًا»، حينما افترق كائن هذا المكان عن أصوات نداءات البحر ونهاماتها، والنهام كأحد الفنون البحرية، هو ذلك النداء البحري الذي يضرب بأطنابه المكان، مناديًا إياه للعود الأبدي إلى حميميته الأولى، حميمية يصعب إحلالها واستبدالها مع أصوات مستجلبة متنافرة عن ذات المكان، حميمية تُخبر عن انصهار الكائن مع مكانه، أما على المستوى البصري؛ فقد اختنق المكان الدلموني بالكتل الأسمنتية، وجرى التنكيل بباسقات النخيل وأقيمت الأسوار والمسافات بين الإنسان وبحره، فاختنق المكان، واختنق الكائن معه، وأصبح الكائن في انفصال وقطيعة داخل مكانه.
إن نصوص حسن دعبل تتمظهر كشذرات أنثروبولوجية، لا مكان فيها لرثاء التاريخ، ونوستالجيا المكان، لكأنما هي كتابة استحقاقية فرضتها سطوة المكان وحميمية الالتصاق به، كتابة سردية لها مفعول الترياق على ذاكرة المكان. إنها والله حكاية اغتراب المكان عن كائنه، واغتراب الكائن عن مكانه.
المنشورات ذات الصلة
«جوامع الكمد» للشاعر عيد الحجيلي… عوالم شعرية بسيطة
يثير ديوان «جوامع الكمد» (الدار العربية ناشرون) للشاعر السعودي عيد الحجيلي مجموعة من الأسئلة القصيرة المتعلقة بالذات...
«حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس التخييل المرجعي للذاكرة
تأخذ رواية «حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس -منشورات المتوسط- أذهاننا إلى زمن الحرب، إنها إحالة إلى الزمن، ولم...
السيد الجزايرلي في ديوانه الجديد بصير يتلمس عبر التصوف حنينه إلى الوطن
العلاقة بين التنبؤ والشعر قديمة ووطيدة منذ قصة وادي عبقر، والقول بأن لكل شاعر عفريتًا من الجن يلهمه أشعاره، مرورًا...
0 تعليق