كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
«زوكربيرغ».. غوائل شبكات التواصل وتربص الكيانات المتسيدة
لم ينتبه «مارك زوكربيرغ» لحظة، أو ينتفض عالمنا المعاصر برهة أمام موبقات التكنولوجيا الرفيعة ورذائلها إلا حين تماسَّت مع حواف وأعماق السياسة ومزالقها، لكن كونها في ذاتها تمثل خطرًا ثقافيًّا ومعرفيًّا وأخلاقيًّا بلغ حد الورطة فهذا يمكن تطويقه وتجاهله باعتباره من سفاسف الأمور وبسائطها!! ولعلها لحظة مأساوية تلك التي تقدم فيها «زوكربيرغ» إلى الكونغرس خاسئًا معتذرًا طالبًا للصفح معترفًا بخطيئة غياب تلك النظرة المسؤولة، وما انبثق عن ذلك من انتهاك صارخ لخصوصية البشر، وبالطبع ليست الخصوصية تعني الغرب في شيء وإلا لما كان إهدار كرامة الشعوب وسحق هيبة الحكومات والإطاحة بالحريات الإنسانية أهون عليه من أي شيء، لكنها بالفعل حقوق الإنسان الآخر.. الإنسان الغربي المتسيد على غيره بالعنصرية الذي يتيه بحضارة لم يحصد منها إلا قسمات الاستعلاء والتطاول وتوظيف القوة الطائشة ردعًا للمستضعفين!!
وليست حادثة «زوكربيرغ» إلا انعكاسًا لما يسود الساحة الدولية من تحفظ وتربص وتحوط بين الكيانات المتصدرة لانتزاع لواء الزعامة المستقبلية، في تلك الحقبة الزاخرة بظرفيات متناقضة تتفق فيها مصالح طرف بإبراز حدة تلك التناقضات، بينما يسعى طرف آخر لاحتوائها وتوفيق واندماج مفرداتها صانعًا من الأضداد نسيجًا واحدًا. والمتأمل لحالة التحرش السياسي والإستراتيجي القائمة بين روسيا والولايات المتحدة، وما يسودها من تراشق وممارسات، تعكس قصة اتهام «زوكربيرغ»، بهدم أهم الأسس القويمة التي بنيت عليها الديمقراطية في الغرب وهي خصوصية الفرد، على إثر فضيحة تسريب بيانات ما يقرب من مئة مليون مستخدم من أجل الدعاية السياسية خلال الانتخابات الأميركية. وقبل ذلك كانت هناك اتهامات أخرى بالتستر والتعتيم على التدخل الروسي في انتخاب ترمب، كذلك بالتعاون مع شركة كامبريدج أتاليتيكا البريطانية، رائدة مجال الاستشارات السياسية والإستراتيجية.
تراجيديا سياسية
وعلى ذلك، هل يمثل اعتذار «زوكربيرغ» نهاية حاسمة لتلك التراجيديا السياسية، ويفسح المجال للكشف عن الأزمة الأخلاقية والقيمية التي يمر بها عالمنا المعاصر عبر وسائل التواصل الاجتماعي؟ وهل حققت هذه الوسائل نوعًا من الحميمية والصفاء أم كانت فاعلة في إثارة التشويش وإشاعة العزلة المستترة؟ وهل يمثل التوجه نحو إنشاء شبكات تواصل محلية طابعا انغلاقيًّا في عصر الكونية؟ أم أنه يمثل أداءً متميزًا في حماية الدول لمواطنيها من غوائل شبكات التواصل؟ ألم يكن من المنتظر أن يحدث وجود شبكات التواصل أزمات وكارثيات كبرى تستوجب وجود ضوابط ومحددات صارمة، تحول دون الاشتباك الدولي الذي ربما يسوق نحو حرب باردة أو ساخنة أو الاثنين معًا؟!
إن إدانة «زوكربيرغ» بنسف مبدأ خصوصية الفرد إنما يجدد لدينا أطياف التاريخ العتيد للفساد الديمقراطي في الغرب، الذي تتنوع أشكاله بتنوع الثقافات فيه، ولعل الكثير من الشواهد تشير إلى فضيحة «فليك» في ألمانيا وكذلك فضيحة حملة «نيكسون» الانتخابية، وتنحية نائب الرئيس الأميركي «سبيرو أغنو» وفضيحة «لوكهيد» في إيطاليا وفضائح هولندا وغيرها.
ولسنا بالطبع مع اقتحام عوالم الأسرار والخوافي الفردية أو الجماعية؛ لأنها قضية أخلاقية في المقام الأول ولولا ارتطامها بالسياسة لن تعيرها دولة ولا فرد أدنى اهتمام، لكن كان المأمول من كل ذلك أن تؤدي الصراعات إلى نشوب مثل سياسية جديدة نستلهم منها ما يغير تلك النمطية الوحشية التي يعيشها الإنسان المعاصر في ظل حضارة غير مسبوقة في تفوقها، وكذلك في تقوقعها حول ذاتها بوصفها جزءًا منفصلًا عن التاريخ الإنساني!! ولعل كل ذلك لا يعد غريبًا على مواقف الأميركيين التي حققت من قبل أعلى المعدلات والنسب السلبية قياسًا على مواقف اليابانيين إزاء تحديد أكبر مشكلة أخلاقية في السياسة… هل تكمن في دوافع الكذب، المال، الخمر، الجنس ذلك بجانب الوقوف على طبيعة النفوذ المفرط الذي تساهم به الشركات في الحملات الانتخابية. ولعل الميثاق الفكري في قضية المعلوماتية وتطويع مفرداتها نحو التوظيف الإيجابي والسلبي على مستوى الأفراد والدول، هو ذلك الكتاب الشهير «لفليب بولوك» والمعنون بأساسيات التحليل السياسي الذي يطرح خلاله العديد من الإستراتيجيات الرقمية في تسويق الآراء والأفكار والمعتقدات والتصورات والأشخاص والأحزاب، بل الكيانات كافة التوَّاقة نحو بلوغ الأهداف بآليات غير مشروعة على الصعيدين الأخلاقي والقيمي أيضًا.
إن آليات التواصل الاجتماعي قد جعلت العالم بأسره منتدى مفتوحًا لا نهائيًّا يشارك فيه كل فرد من الموهوبين والمأفونين، من ثم فقد جسد التناقض الصارخ في أبعاده وصوره كافة، ذلك أنها قد قضت على التفاعل الحميم وخلفت عزلة ذاتية وزادت مساحات الكبت بسبب البوح الأجوف، وإذا كانت المعلوماتية في كليتها قد قدمت حلولًا ناصعة فإنها في الآن ذاته طرحت مشكلات مستعصية تعجز أجيال المستقبل عن مواجهتها، وفوق كل ذلك يبقى أنها تعد أكبر وأهم المعامل الاستخباراتية، التي يمكن من خلالها الوقوف على قياسات أشياء كثيرة لم يكن ليتسنى معرفة تفصيلاتها، وليس أدل على ذلك من تلك المقابلة المشؤومة والمتخمة بالشرطيات بين «نتنياهو» و«زوكربيرغ» تلك التي كانت بمثابة حرب شعواء على فلسطين والفلسطينيين. وهو ما نشهد آثاره وانعكاساته كل لحظة في ذلك الجبروت العسكري المسلط على الحقوق العربية.
إن الورطة الثقافية إنما تتجسد بحق في عدم القدرة على إقالة الواقع الإنساني من عثراته وتأزماته وطمس قدرات التحكم فيه واللجوء لحيلة هروبية، بنشوب عالم موازٍ لذلك الواقع كان يمكن استثمار مفرداته بشكل يحقق دافعية نحو الأمام ولا يقود نحو التراجع، مذكرًا بطابع الأزمنة السحيقة.
المنشورات ذات الصلة
البحث عن ريبورتاج شخصي ريتشارد كابوشنسكي: عملي ليس مهنة، إنه مهمة وأكثر من مجرد صحافة
ريتشارد كابوشنسكي صحفي بولندي، صُوِّتَ له كأعظم صحفي في القرن العشرين بعد حياة مهنية لا مثيل لها. حوَّل البرقيات...
الإنترنت الديني: عرض بيبليوغرافي لمؤلفات وكتب تتناول سوسيولوجيا الإنترنت والدين
أصبحت المجتمعات الإنسانية تعيش ما نسميه بـ«عصر المعلومات السائلة» نتيجة لتدفق المعلومات وتضاعفها، نظرًا للتطور التقني...
الشائعة وتزييف الحقائق في مواقع التواصل الاجتماعي.. قتل رمزي للآخر
تحتل الشائعة في مواقع التواصل الاجتماعي سلطة الخبر الموثوق، وبذلك تؤثر في شريحة واسعة من الجمهور من خلال عملية التلقي...
0 تعليق