كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
رائدٌ آخر… من رُوّاد الطيران في الحضارة الإسلامية
يزهو كثيرٌ من المثقفين المسلمين بمنجزات الحضارة الإسلامية وإشراقاتها على الفكر البشري؛ إذ قدّمت نماذج ورؤى مبتكرة في مختلف نواحي الحياة (من عقيدة وفقه، وطب وصيدلة وعقاقير، وفلك، وحساب، وجبر، وأدب وشعر، وتاريخ، وجغرافيا)، فساهمت في دعم مسيرة الحضارة الإنسانية وفي تشكيل شخصيتها. بل اتصفت ببُعدها التواصلي وانحيازها إلى مخالطة الأمم والشعوب وتقنين التعامل معها، وارتياد المجاهل والدروب ووصف مسالكها وبلدانها. ولقد تجلّت الأشكال التواصلية التي امتازت بها الحضارة الإسلامية في مظاهر شتى جسدتها رحلات الحج، ثم كُتُب البلدانيات، فأدب الرحلة بصفة عامة. غير أن الفعل الحضاري في ذهنية المُبدعين يأبى إلا أن يخرج عن السياق ويُفكر خارج الصندوق، إذ لم يقنع المسلمون بما نالوه من ظفر في البر والبحر، بل اتجهت أفكارهم وتمددت مخيلتهم إلى ما وراء ذلك (أو ما فوقه). إلى الفضاء الفسيح الذي ضربه القرآن الكريم لهم مثلًا وحُجّة للتدبر في صُنع العزيز الحكيم، وحيث تصفُّ الطير وتقبض في أجوائه ما يُمسكهن إلا العزيز العليم.
تلك كانت على ما يظهر من مُسبّبات التفكير في الطيران، وأخرى نجدها في معراج النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماوات العُلى، إذ احتلت هذه الحادثة الجليلة مكانة كبرى في نفوس المسلمين، ولعلها أوقدت في النفوس جذوة علمية للتفكير في الطيران. وثالثةٌ نقرأ ملامحها فيما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من أن الصحابي الكريم جعفر بن أبي طالب له في الجنة جناحان يطير بهما. ثم حين يقرأ المسلم قوله تعالى: (فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ) االأنعام: 125ب لا بد وأن تترك في ذهنه تصورًا على نحو من الأنحاء في كيفية وجوده في طبقات الجو.
تلك المعطيات التي أوجزناها فيما تقدم؛ تدعو إلى القول بأن جذور فكرة الطيران ذات عناصر إسلامية خالصة؛ فلحضارة الإسلام قصَب السبْق في زرع الفكرة في التراث الإنساني المشترك، حيث استقر في الذهن أن أول محاولة للطيران قام بها رجلٌ من أبناء الحضارة الإسلامية، وذلكم هو اعباس بن فرناسب ت 274 هـ، الذي عاش في الأندلس خلال القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي، وكان رجلًا مشتملًا على صنوف متنوعة من ألوان المعرفة الشائعة في عصره حتى قيل عنه: إنه دائرة معارف جامعة متنقلة(1)؛ إذ أجاد الفلك فابتكر آلة لمعرفة الوقت أطلق عليها اسم االمنقانةب وأهداها إلى أمير الأندلس الأموي محمد بن عبدالرحمن (238 – 273 هـ) ونقش فيها أبياتًا من إنشائه، جاء فيها(2):
ألا إنني للدين خيرُ أداة
إذا غاب عنكم وقتُ كل صلاة
ولم تُر شمسٌ بالنهار ولم تُنر
كواكبُ ليلٍ حالكِ الظلمات
بيُمن أمير المسلمين محمدٍ
تجلت عن الأوقات كل صلاة
وبرع في الكيمياء حتى رُمي بالشَّعْبَذة، وتفنن في نظم الشعر فكان يغشى مجالس أمراء الأندلس الأمويين منشدًا ومتكسبًا من ممدوحاته لهم، وحذق الموسيقا فكان يُحسن الضرب على العود ويضع ألحانًا مبتكرة(3)، ثم اكتسب شهرته العريضة من محاولته للطيران، حيث قيل: إنه كسا نفسه بالريش وصعد بعض الأسطح المجاورة وبدأ التحليق لكنه سقط، وصارت قصته تلك مجالًا لتندر معاصريه ومنافسيه من الشعراء، حيث تعرض له الشاعر مؤمن بن سعيد في قصيدة له، وجاء فيها قوله(4):
يَطُمُّ على العنقاء في طيرَانها
إذا ما كسا جُثمانَه ريشَ قَشْعَم
وقد أفرد له (إلياس تيريس سادابا Elias Teres Sadaba) بحثًا في مجلة الأندلس:
Elias Teres Sadaba: Abbas ibn Firnas, en Al-Andalus, vol xxv, ano 1960, pp. 239-249
ويبدو أنه ساد اعتقاد أن صنيع عباس بن فرناس في الطيران هو محاولة يتيمة في التراث الإسلامي لم تعقبها محاولات مماثلة، ربما بسبب إخفاق التجربة الفرناسية.
وعلى الرغم من التسليم بريادة عباس بن فرناس في هذا المجال؛ فإن محاولته للطيران لم تكن وحيدة في تراثنا الإسلامي؛ فقد جرت بعدها بنحو مئة عام أو أقل محاولة ثانية، لكن في المشرق الإسلامي هذه المرة، كان بطلها علمٌ من أعلام اللغة والأدب في الفكر الإسلامي، وذلكم هو الجوهري صاحب الصِّحاح! واسمه اأبو نصر إسماعيل بن حمادب ويصفه ياقوت بأنه من أعاجيب الزمان، ذكاءً وفطنة وعلمًا. واللافت هنا هو سر العلاقة بين اللغة والأدب وبين الطيران! إذ مرّ بنا من قبل أن عباس بن فرناس كان شاعرًا مجيدًا. فهل للرحلة بين الكلمات واشتقاقاتها والرحلة في طلبها من مظانها دورٌ في ذلك؟ أم أن خيال الشاعر يرتفع إلى آفاق عالية فيطير من فضاء الشعر إلى السماوات العُلى؟
أيًّا ما كان الأمر؛ فقد عُرف عن الجوهري ولعه الشديد بالأسفار والتنقل، اوكان يؤثر السفر على الحضر، ويطوف الآفاق، واستوطن الغربة على الساق، فزار العراق، والحجاز، وخراسان، والدامغان، ونزل نيسابور وفيها جرت محاولته للطيران. حيث روى الرواة في ذلك أنه عرضت له وسوسة فانتقل إلى الجامع القديم بنيسابور، فصعد سطحه، فقال: اأيها الناس، إني قد عملت في الدنيا شيئًا لم أسبق إليه -ربما كان يعني هنا تأليفه كتاب الصِّحاح- فسأعمل للآخرة أمرًا لم أسبق إليهب، وضم إلى جنبيه مصراعي باب، وتأبطهما بحبل وصعد مكانًا، وزعم أنه يطير، فوقع فمات.. كان ذلك في سنة 393 هـ، وقيل 400 هـ(5).
لقد ظن الجوهري أنه سبق إلى التفكير بالطيران، ولم يكن الأمر كذلك -كما هو معلوم- فلعله لم يسمع بمحاولة ابن فرناس من قبله في بلاد الأندلس، أو أنه أراد أن يقول بأنه أول من تبنى هذه الفكرة في المشرق الإسلامي. وفي هذا ما يفتح مجالًا لإثارة تساؤلات حول عدم رواج مثل هذه الأفكار الجديدة في أنحاء العالم الإسلامي، رغم أنهم ضربوا أمثلة رائعة في التواصل العلمي والثقافي عبر الرواية وأسانيدها والكتاب وإجازاته؟
والوجه الآخر من التساؤل؛ هو حول عدم استكمال مثل هذه المحاولات ومُراكمتها وتعميق تجربتها والبناء عليها حتى تستوي مشروعًا إبداعيًّا ناجزًا، رغم أن الأوساط العلمية كانت تُدرك أهمية استكمال المشروعات العلمية والمناهج الجديدة في البحث النظري أو في العمل الإبداعي، مثلما فعلوا في كتب معاجم الرجال التي أكمل اللاحق فيها عمل السابق وذيّل عليه ووصله، أو مثلما فعلوا في كتب تواريخ المدن أو أدب الرحلات، أو حتى في مشاريع المياه وهندسة الري، أو أعمال الزخرفة والبناء؟
فعباس بن فرناس لم يفكر أحدٌ من أبناء بلده بمتابعة تجربته وتطوير فكرته، بل إنه هو نفسه لم يكرر هذه المحاولة مرة أخرى، رغم أنه نجا من الموت واكتشف سبب وقوعه على الأرض! ومردُّ ذلك في تقديري هو أن هذه المحاولات لم يلتفت إليها الناس واعتبروها ضربًا من الجنون، بل صارت ميدانًا للتندر والتشنيع بصاحبها، كالذي فعله الشاعر مؤمن بن سعيد بغريمه عباس بن فرناس. وحسبُك أن تقرأ في المصادر أن ما قام به الجوهري في محاولته الطيران، إنما هو إثر إصابته بـ الوسوسة!
المنشورات ذات الصلة
كتاب الموسيقا للفارابي من خلال مخطوط بالمكتبة الوطنية بمدريد
يعرّف الفارابي الموسيقا في قوله: «فلفظ الموسيقا معناه الألحان، وصناعة الموسيقا بالجملة هي الصناعة التي تشتمل على...
«رهمانج» و «لا نا ما»: حامل المعرفة البحرية وتبادل الثقافات على طريق الحرير البحري
مصطلح «لا نا ما» ظهر لأول مرة في الكتاب السياسي الصيني ميشو جانتشي. إن «لا نا ما» هو نقل للكلمة الفارسية «راهنامه»،...
البحث عن إرث أنثوي… المرأة وتحقيق التراث العربي
يمكن إعادة أول مخطوط مطبوع حققته وضبطت نصه امرأة إلى عشرينيات القرن المنصرم، ومع مرور قرن من الزمن على ظهور اسم مؤنث...
0 تعليق