كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
القراءة الجديدة
الأخبار المتصلة بمشهد الصحافة الدولية لا تبشر بمستقبل مشرق للمطبوعات؛ فقد أعلنت الإندبندنت البريطانية إيقاف نسختها المطبوعة ودخولها فيما سمّته «المستقبل الرقمي»، وفي الولايات المتحدة قالت وكالة الصحافة الفرنسية إن العائد الاقتصادي للصحف الورقية لن يتجاوز عشر سنوات وفقًا للخبراء، هذا عن صحف سيّارة وعامة، فماذا عن مستقبل الصحافة المتخصصة، بل قل حاضرها، وأعني منها الثقافية والرصينة؟
في عالمنا العربي تابعنا توديع مثقفي لبنان ملحق النهار الثقافي، وحسرتهم على غيابه بعد خمسين عامًا من الانتظام، أما في الكويت فقد تداعى مثقفون لإنقاذ مجلة العربي العريقة بعد إلغاء ندوتها السنوية، وفي السعودية وجّهت مجلة المنهل الرائدة نداءً عامًّا لإنقاذها قبل توقفها، ومرت شهور على هذا النداء، ولم أقرأ حتى الساعة استجابة له أو حتى خبرًا عنه.
يبقى أن نقول إن هذا المشهد، الذي لا يمكن وصفه بالتفاؤل، يظل ناقصًا وانطباعيًّا، ففي اليوم الذي أعلنت فيه الإندبندنت توقفها؛ أُعلن في لندن نفسها عن صدور مطبوعة «نيو داي» اليومية التي لن يكون لها نسخة إلكترونية، وأكدت مجموعة «ترينتي ميرور» التي أصدرتها، أن دراسة الجدوى وجدت لدى القراء حاجة ملحّة لما وراء الخبر من تحليل ووجهات نظر، وهي بالمناسبة أول صحيفة جديدة في لندن منذ ثلاثين عامًا.
ولنتجاوز لندن وصحفها؛ ألا يحتاج القارئ العربي إلى أن يعرف ما الذي يقف خلف هذه المذابح اليومية في المدن العربية؟ الأخبار تعلن أنها الدكتاتورية والطائفية، وعلى الصحافة الرصينة اليوم أن تحيطه بما وراء ذلك.. لماذا صار هذا مآلنا؟ عليها أن تنقل له الرأي والتحليل؛ كي يعرف موقعه من العالم، وإلى أين وصل سياسيوه وأحزابه، وما الذي أوقف قطار حضارته في محطة التاريخ.
ألسنا أيضًا نسمع شكوى أكاديميين ومثقفين من أن الناس لا يقرؤون ولا يتابعون؟ فكيف نفسر الحضور الهائل لمئات الألوف من القراء في مواقع التواصل الاجتماعي الذين يتناقلون يوميًّا الآلاف من الأخبار والمقالات والصور والفيديوهات، ويتفاعلون معها بالرأي والنقد؟ إنها قراءة أيضًا، لكنها قراءة لا نكاد نعترف بها؛ لأنها جديدة علينا، وخفيفة وسريعة.. القراءة التي عهدناها دهورًا هي ما نرصفه في المكتبات، ولم يحن الوقت بعد لندرك أن مصادر المعرفة تعددت، وأننا إن لم نوظفها خسرناها، وخسرنا معها مستخدميها.
تصلنا يوميًّا على هواتفنا عشرات النصوص المطوّلة، ونقرؤها ونناقشها ونتأثر بها، ولو أنك جمعت ما قرأته في هاتفك خلال مدة وجيزة ستجده يعادل كتابًا متوسط الحجم، صحيح أن الغثّ فيها كثير، لكن من يقتنص الفرائد يعرف مواضعها وأهلها. نقرأ في فيسبوك وتويتر لشباب وشابات، ليست لهم أسماء معروفة، نقدًا ورأيًا هو أكثر حصافة ورصانة مما نعدّه في أغلبية صحفنا وملاحقنا الثقافية، الواقع أن القراءة ازدادت ولم تنقص الهواتف الذكية جعلت الصغار والكبار، العلماء والبسطاء يقرؤون، لكن الوسيلة اختلفت، والاهتمامات تعددت.. وعلى الصحافة الثقافية العربية أن تستجيب راغمة، وتزاحم المبتذل والسطحي على القراء ولا تستسلم له، وهي لن تكون فريدة في هذا، فقد سبقتها الصحف والمجلات الغربية الرصينة؛ جولة سريعة في حسابات الإيكونومست وتايم ونيويورك تايمز ستخبرك أنها نزلت من عليائها إلى الناس، وهذه مجلة فورن بوليسي تعلن أنها تنشر السياسة والاقتصاد.. ثم تضيف «والأفكار».
وتجيء مجلة «الفيصل»، في هذا العدد الجديد، وفي هذا التوقيت؛ لتعلن انفتاحها على معنى الثقافة الأوسع، ومزاحمتها الهواتف الذكية على أيدي المثقفين، ورهانها على قراء نوعيين، في عصر التطبيقات الإلكترونية متناهية الصغر، فائقة الذكاء، رخيصة التكلفة، موسوعية المعارف، سريعة كالبرق، وهي فوق ذاك متحررة من الطباعة والرقابة والتوزيع.. وإذا كنت ستكتفي بمطبوعة ورقية أمام هذا السيل الإلكتروني؛ فما أصعبه من تحدٍّ، وما أخسره من رهان، غير أن المجلة عالجت ذلك بحضورها في كل الصيغ الممكنة إلكترونية أو ورقية، بنسخة كفية للهواتف، ونسخة لسطح المكتب، سيجدها القارئ كيفما أحب أن يقرأها ووقتما شاء.
سؤال أخير سيسأله أي صحافي مشتغل بمجلة متخصصة؛ ما الثقافي وما الثقافة حقًّا؟ بكلمات أخرى: ما المجلة الثقافية؟ أهي ما قدمته المجلات العربية الأدبية الرائدة منذ الهلال والمقتطف؛ من جميل الشعر والنقد ومسامرات الكتاب ورسائلهم؟ أم أنها مجلات الثقافة الأوربية اليوم مثلما يقدمها الفرنسيون منفتحة على الأزياء والأطعمة والطهي وتربية الحيوانات؟ يكفي أن تفتح أي قاموس على كلمة (ثقافة (Culture لتنظر كيف تطور المفهوم، وكيف اختلف من حضارة إلى أخرى، ومن زمن لآخر.. وكيف أن فهم الثقافة في صحافتنا ما زال مقتصرًا على ما نسميه الأدب، ونعني به الشعر والسرد وما يدور حولهما.
لن تكون «الفيصل» مجلة أدب فحسب، في الوقت الذي دخلت فيه هموم السياسة كل بيت، ولن تقصر موادها على نقد الشعر الجاهلي في وقت نشاهد فيه جاهلية تبعثها داعش في الرقة والموصل، ومقتلة كل يوم من تعز إلى بنغازي، ولن تكون مجلة سياسة فحسب، في الوقت الذي يحتاج الناس فيه إلى الفنون والجمال؛ هي ستكون ذلك كله، بل أكثر.
كل ما يتصل بالنتاج الفكري الإنساني الرفيع هو ثقافة، وكل ما يعني الناس في فضائهم العام ثقافة أيضًا، يبقى أن تقدّم هذه الثقافة إلى القارئ المتخصص وغير المتخصص على حد سواء في شكل وجبات معرفية صغيرة، تحيله إلى وسائل المعرفة الأكبر والأوسع، هذا ما سنحاوله.. والعدد الذي بين يديك اليوم لن يكون كل ما تقوله المجلة؛ إنما هو استعداد لما ستقوله.
*رئيس تحرير مجلة الفيصل
المنشورات ذات الصلة
تطور الخط العربي
كشف كثير من الدراسات والأبحاث العلمية الحديثة، وكذلك عمليات التنقيب المستمرة في تراث الجزيرة العربية ومخزونها الثقافي،...
مستقبل الأمن الغذائي في الوطن العربي
يرتبط الأمن الغذائي ارتباطًا جذريًّا بتوفير الشروط الأمنية الأساسية التي تضمن سلامة التبادل التجاري، وتيسير عملية...
أسئلة الرواية التاريخية
الرجال مواقف وكلمات، والتاريخ يصنعه الرجال وتخلده المواقف والكلمات، وتتناقله الأجيال جيلًا بعد جيل حتى يصبح جزءًا...
مقالة جميلة تجمع ما بين حس المهني والمثقف الذي تؤرقه قضايا العالم العربي… بالتوفيق سيد ماجد في الانطلاقة الجديدة للفيصل
محمد – المغرب
مقال رائع وثري .. انطلاقه موفقه للفيصل بثوبها الجديد.