كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
حوارات مع الإنســان والبيئـــة
ودّع رائد الفن التشكيلي السعودي عبدالجبار اليحيا (1931- 2014م) الساحة التشكيلية عن عمر ناهز 83 عاماً بعد معاناة مع المرض جعلته يتوقّف عن الرسم سنوات.
وُلد اليحيا في مدينة الزبير بالعراق، وتلقّى تعليمه فيها، ممارساً هواياته الفنية التشكيلية منذ طفولته وخربشاته بالفحم على الحيطان، ثم صقلها معلّمو التربية الفنية في مراحل التعليم العام، كما صقل تجربته الفنية اطلاعه على الأعمال والتجارب الفنية لمجموعة من فناني العراق، واطلاعه كذلك على أعمال فناني عصر النهضة، أمثال: سيزان، ومانيه، وليوناردو دافنشي، ومايكل أنجلو.
وفي عام 1949م عاد إلى المملكة ليواصل مسيرته الفنية التشكيلية؛ انطلاقاً من المنطقة الشرقية؛ فمارس هواياته التشكيلية متنقّلاً بين: التصميم، والرسم، والتصوير التشكيلي، والنحت، والحفر (الجرافيك)، التي أهّلته للمشاركة في المعارض الجماعية التي تقام داخل المملكة وخارجها.
وفي عام 1971م أقام أول معارضه التشكيلية الشخصية، كان آخرها معرضه الثاني عشر في عام 2009م، واستضافته حوار جاليري في الرياض كتكريم له، ولتجربته الفريدة، وكفاحه الطويل من أجل الحركة الفنية التشكيلية السعودية والعربية.
هذه المعارض الشخصية احتضنتها عواصم عربية وعالمية، هي: الرياض، وبيروت، وبودابست، إلى جانب مشاركاته الكثيرة في عدد من المعارض الدولية، وتعدّ مشاركته في متحف فوريست بارك بولاية ميسوري الأمريكية عام 1952م أول مشاركة دولية بمعرض جماعي لفنان سعودي. أما تنقلاته بين كثير من الدول، والعيش فيها؛ مثل: العراق، والبحرين، والكويت، والمجر، والولايات المتحدة الأمريكية، فجعلته يطّلع ويعايش ثقافات مختلفة انعكست على أعماله وتجاربه التشكيلية.
الفن للحياة
لم يكن الفن التشكيلي لدى اليحيا مجرد ممارسات لشغل وقت الفراغ، أو مادة للتسلية، كما أنه لم يكن يؤمن بنظرية «الفن للفن»، ولكنه مع «الفن للحياة»، وفي ذلك يقول: «لم يدُر بخلدي مطلقاً أن الفن تسلية أو هواية مجردة من الغرض والنفع العام، بل كنت أعتقد أن لي رسالة يجب أن أحققها، سواء بإدخال المتعة والسرور بتذوق الجمال أم بتحقيق فكرة تفتح كوة أمل للإنسان»؛ لذا عالجت أعماله التشكيلية قضايا اجتماعية تهمّ الإنسان بشرائحه المختلفة؛ فمثلت علاقة الإنسان بمجتمعه وبيئته بما فيها من تلّ أو شجر، وبما عليها من عمارة تقليدية تؤكد حضوره وتفاعله مع كلّ ما يحيط به؛ فلوحات: (انتماء، والعودة، ومبان تراثية، وشارع العليا) كلها أعمال تؤكد هذا التفاعل وهذا الانتماء وفق رؤية بصرية تبتعد من النقل الباهت للواقع، وهذا ما يؤكده الدكتور عبدالرحمن الرصيص بقوله: «لا يتقيد اليحيا بمظاهر الرؤية البصرية الفقيرة في نتائجها الفنية، كما لا يتقيّد بأسلوب فني واحد للتعبير عن عناصره الإنسانية، إنما يجنح إلى منح معرفته ورؤيته مزيداً من التفاعل مع الأفكار المستلهمة للخروج بعمل فني يحمل شيئاً من لغته وفلسفته الخاصة».
الاقتراب من المتلقي
إن المتابع أعمال اليحيا التشكيلية يلحظ أنه يروم من خلالها إلى خلق حوارات مع الإنسان والبيئة والحياة وفق أسلوب تعبيري يخصّه بعيداً من تقاليد الاتجاهات والمدارس الفنية؛ فنجح في الاقتراب من المتلقي بأطيافه وثقافاته المتعددة بأعمال تلقائية تبتعد من التعقيد اللوني والشكلي، وتلامس الهم الإنساني، وتصوّر معاناته، وهذا الأمر يؤكده الناقد المغربي محمد السلاوي بقوله: «اليحيا ينفذ إلى التعبير خارج القوانين الأكاديمية باستخدامه أقصى ما يمكن من جرأة دون خوف من الوقوع في شرك قوانين المدارس والأكاديميات من أجل إيصال خطابه التشكيلي». أما موضوعاته، فيقول عنها الناقد السوداني الدكتور عبدالمجيد فضل: إنه يختارها بعناية لتعالج قضايا فنية وفكرية واجتماعية. هذه الموضوعات تمثّل علاقات الإنسان مع ما يحيط به من منازل ونخيل وأرض (كما يذكر الفنان عبدالرحمن السليمان)، الذي يضيف بأن «توجهات اليحيا تأثرت بقناعات يدافع عنها، وأن أعماله تتضمن أبعاداً ومعاني تشكّلها علاقات العناصر، وأسلوب صياغتها في بساطة في التكوين، وزهد في التلوين، وسعى إلى تكثيف الفكرة، فاختفت في عدد من أعماله ملامح شخوصه».
الكتابة المتخصصة
بقي أن أذكر أن اليحيا لم يقف ممارساً الفعل التشكيلي، بل تعدى ذلك إلى ممارسته الكتابة الصحفية المتخصصة منذ عام 1968م؛ إذ بدأ محرراً صحفياً في صحيفة (المدينة)، ثم تعدّدت كتاباته المتخصّصة في الفن والتشكيل بعدد من الصحف المحلية والعربية، كما أصدر كتيباً يحكي سيرته الذاتية، عنوانه: «عبدالجبار اليحيا وخمسون عاماً من الرسم». أما طموحاته وأمنياته التي لم تتحقّق إلى يوم وفاته، فقد ذكرها في كثير من لقاءاته الصحفية، منها: رغبته في أن يكون بكلّ مدينة متحف فني تشكيلي، وأن تُطلق أسماء روّاد الحركة الفنية التشكيلية السعودية على المعالم والشوارع وأقسام الفنون، وأن تُصرف للمبدعين بطاقات تأمين طبية، إلى جانب الاهتمام بالمؤلفات التي تخدم الفنون، وطباعتها، والترويج لها.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق