كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
أحد عشر خيالًا
في بادية القيروان حيث ولدتُ ونشأت، لعبت كرة القدم بقدمين حافيتين مثل كل أبناء قريتي… وغالبًا ما تكون عطلة الصيف هي الأفضل لممارسة هذه اللعبة المثيرة والجميلة، وتنظيم مباريات بين أبناء جنوب قريتنا وشمالها. وتزداد هذه المباريات سخونة وحماسًا حين يحضرها رجال القرية الكبار لتشجيع الفريقين المتنافسيْن… وعندما انتقلتُ إلى العاصمة لمواصلة دراستي، حضرت مرة واحدة مباراة بين فريق النجم الساحلي، وفريق النادي الإفريقي، ثم قاطعت حضور المباريات نهائيًّا. وقد يعود ذلك إلى أني لا أتحمل ما يتخللها من عنف وصخب وكلام بذيء… ومنذ ذلك الوقت لم أعد أهتم بمباريات كرة القدم إلا عندما تترشح تونس لكأس إفريقيا، أو كأس العالم… كما أني كنت وما زلت حريصًا على متابعة مباريات كأس أوربا وكأس العالم بشغف كبير…
كنت في السابعة عشرة من عمري لما اكتشفت ألبير كامو من خلال رائعته «الغريب». ومن فرط إعجابي بتلك الرواية الصغيرة المكثفة، شرعت في البحث والتدقيق في سيرة صاحبها لأكتشف أنه كان مغرمًا بكُرة القدم. بل إنه مارَس هذه اللعبة باقتدار ضمن فريق جامعي. وكان حارس مرمى. وكان يخفي ممارسته لهذه اللعبة عن جدته العجوز التي كانت تعامله بقسوة، وتضربه حين يعود بحذاء مثقوب، أو ملطخ بالغبار والطين. ومع فريقه خاض كامو العديد من المباريات الساخنة. وأشدها سخونة تلك التي كانت تجرى بين فريقه وفريق وهران الذي ينتمي إليه إيمانويل روبليس. وسيكون هذا الأخير هو أيضًا كاتبًا مرموقًا فيما بعد.
معركة ضارية
وكان يحضر تلك المباريات جمهور غفير لتشجيع الفريقين. وبحسب روبليس، كان أبناء وهران يخوضون المباراة كأنهم يخوضون معركة ضارية؛ لأن فوزهم على فريق عاصمة البلاد يزيدهم فخرًا واعتزازًا بأنفسهم، ويضمن لهم العودة إلى مدينتهم متوّجين بالنصر والمجد. ولم ينقطع ألبير كامو عن ممارسة لعبته المفضلة إلا بعد أن علم أنه مصاب بداء السل. وكان آنذاك في السابعة عشرة من عمره. مع ذلك ظل مفتونًا بها، بل إنه اكتشف من خلالها مبادئ أخلاقية وفلسفية عميقة. وقد كتب في ذلك يقول: «لقد تعلمت أن الكرة لا تأتي أبدًا من الناحية التي ننتظر أن تأتي منها. وهذا ما أسعفني كثيرًا في حياتي، خصوصًا في المدن الكبيرة حيث الناس غالبًا ما يكونون غير مستقيمين».
كما تعلم كامو من كرة القدم الإقدام على المغامرة، وعلى مواجهة خصومه والمنافسين له بمعنويات مرتفعة، وبإصرار على كسب النصر. بل إنه يرى أن كل ما تعلمه من مبادئ أخلاقية، ومن الشعور بالمسؤولية يعود أساسًا إلى كرة القدم. وبعد إحرازه جائزة نوبل للآداب عام 1957م، اشترى ألبير كامو بيتًا في قرية بجنوب فرنسا. ووفاء للعبته المفضلة، كرة القدم، كان يعجبه أحيانًا أن يحضر المباراة التي تنتظم بين فتيان القرية. بل إنه أهدى أولئك الفتيان أزياء رياضية.
وقد فتنت كرة القدم كاتبين فرنسيين آخرين. فقد كتب الناقد والكاتب المسرحي جان جيرودو يقول: «الفريق يمنح الكرة إحدى عشرة حيلة، وأحد عشر خيالًا». ويرى أندريه مروّا أن مباراة جيدة لكرة القدم هي انعكاس للذكاء وهو في حالة حركة. بل قد يكون الذكاء مجسدًا من خلالها. وفي الثمانينيات من القرن الماضي، فتنت بأعمال الكاتب النمساوي بيتر هاندكه بعد أن قرأت روايته القصيرة المبهرة «الشقاء العادي» التي يروي فيها انتحار أمه. وبإعجاب قرأت رواية «قلق حارس المرمى لحظة ضربة الجزاء». بطل هذه الرواية القصيرة هي أيضًا يدعى جوزيف بلوخ. وهو حارس مرمى يطرد من فريقه بسبب هفوة ارتكبها. ومع بائعة تذاكر في إحدى دور السينما، يقضي ليلته، محاولًا التخلص من الهواجس التي كانت تعذبه. وفي الصباح يقوم بخنق بائعة التذاكر. ويبدو جوزيف بلوخ شبيهًا بمارسو بطل «الغريب» لألبير كامو. ومثله هو يقترف جريمة عبثية مدفوعًا برغبته في الخلاص من أزمته النفسية الحادة.
متعة تشبه كتابة قصيدة
وكان الشاعر الروسي إيفتشنكو مفتونًا بكرة القدم هو أيضًا. وكان يقول بأن المتعة التي يحصل عليها من خلال هذه اللعبة لا تختلف عن تلك التي يشعر بها وهو يكتب القصائد. وفي سنوات مراهقته كان يفرط في اللعب مع أبناء الحي في الفضاءات الفارغة، ويعود إلى البيت بحذاء ممزق، وبركبة أو قدم داميتين. وكان إيفتشنكو يرى أن الفرق الوحيد بين لاعب كرة القدم والشاعر هو أن الأول يحقق النجاح حالما تدخل الكرة الشباك. أما الثاني فإنه يتحتم عليه أن ينتظر طويلًا لكي يحصل على الشهرة.
وفي روايته «الورقة الصفراء»، كتب البريطاني نايك هومباي، مشجع فريق «الأرسنال»، يقول بأن حبه لكرة القدم يضاهي حبه للنساء. ولم يكن الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش يخفي حبه لكرة القدم. وبمتعة كان يتابع المباريات الكبيرة خصوصًا تلك التي تحصل بين الفرق المرشحة لكأس العالم. وخلال حصار بيروت في صيف عام 1982م، حرص محمود درويش على متابعة مباريات كأس العالم. وبينما كانت المدافع والطائرات تقصف المدينة على مدار النهار والليل، كان هو منشغلًا بالبحث عن بطارية تضمن له متابعة المباريات عند انقطاع الكهرباء. ولم يكن محمود درويش يخفي إعجابه الشديد ببعض نجوم كرة القدم مثل الإيطالي باولو روسي، والأرجنتيني دييغو مارادونا، والبرازيلي بيلي…
ويرى كتاب آخرون أن مباريات كأس العالم تعكس عوامل اجتماعية وثقافية لشعب من الشعوب. لذلك يسمي محبو كرة القدم لاعبي الفريق الهولندي «الأبقار الهولندية»، ولاعبي الفريق الإسباني «الثيران الإسبانية». ويتسنى لمحبي كرة القدم اكتشاف بلد بلا أي وزن سياسي أو اقتصادي أو ثقافي ما من خلال فريقه المشارك في مباريات كأس العالم. وهذا ما حدث مع الكاميرون، ومع دول إفريقية أخرى.
ولكرة القدم أبعاد سياسية أيضًا. لذلك يحرص الملوك والرؤساء على حضور المباريات التي تخوضها فرقهم الوطنية. وبعضهم يتحمس إلى درجة فقدان السيطرة على أنفسهمم فينتفضون واقفين عند تسجيل هدف، وقد يرقصون ويغنون… ورغم أنه فقد حفيدته فإن زعيم جنوب إفريقيا نيلسون مانديلا حرص على متابعة كل مباريات كأس العالم التي دارت في بلاده عام 2010م.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب في الوطن العربي
صورة النخب وجدل الأدوار محمد شوقي الزين - باحث جزائري مثل المنطوق الأوربي (elite)، تنطوي مفردة «النخبة» في اللسان...
الإبل في الثقافات: شراكة في الحضارة قفْ بالمطايا، وشمِّرْ من أزمَّتها باللهِ بالوجدِ بالتبريحِ يا حادي
آفاق السنام الواحد عهود منصور حجازي - ناقدة سينمائية منذ فجر التاريخ، كان إدراك الإنسان لتقاسمه الأرض مع كائنات أخرى،...
تجليات الفن في العمارة… رحلة بصرية عبر الزمن
العمارة والفنون البصرية علاقة تكافلية مدهشة علاء حليفي - كاتب ومعماري مغربي منذ فجر الحضارة حتى يومنا الحالي، لطالما...
0 تعليق