كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
العرضة النجدية من ساحات الرقص إلى قائمة اليونسكو
لا نقوم كلنا بأعمال عظيمة، لكن يمكننا أن نقوم بأشياء بسيطة للغاية بحب كبير الأم تيريزا
من ويندهوك عاصمة دولة ناميبيا، أُعلن ضمّ العرضة النجدية إلى قائمة التراث العالميّ. كان ذلك في الاجتماع العاشر للّجنة الحكومية الدولية لصون التراث الثقافيّ غير الماديّ لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة االيونسكوب.
ومع إعلان تسجيل االعرضة النجديةب تسارعنا إلى هواتفنا نرسل الرسائل والصور والتباشير، مبشرين بهذا الإنجاز الوطنيّ عبر هاشتاغ #العرضة_النجدية_في التراث_العالمي في تويتر، الذي اكتظّ بالمهنّئين، وبعض المشككين في قيمة هذا الإنجاز!
لم أردّ شخصيًّا على أي منها في حينها، لكن سأترك لهذه المساحة المجال لشرح معنى تسجيل عنصر من التراث السعوديّ في القائمة التمثيلية للتراث العالميّ لدى اليونسكو، ودورنا في الجمعية السعودية للمحافظة على التراث في هذا الملف، وكيف جرى العمل مع الوفد السعوديّ طوال ثلاثة أيام في محاولة إقناع اللجنة لتعديل القرار من االترحيلب إلى االقبولب في التصويت النهائيّ، عبر مناقشات ومفاوضات حثيثة غلب عليها الاستمرار في المحاولة، مع التعبير بشغف وبمحبة عميقة للوطن عن الرغبة والإصرار على إبراز عنصر واحد فقط من تراثنا الغنيّ في هذا المحفل العالميّ المهمّ للتراث غير المادي.
.
رقصة السيوف ووحدة الصفوف
ليس ثمة شك في أن الأمة التي تغفل عن العناية بتراثها وتهمش موروثها الثقافيّ في أبعاده العلمية والفنية، وتتنكر لإيجابيات ماضيها بحجة (العصرنة) والتقدم، إنما تسهم في تدمير البنى التحتية لمشروعها المعرفيّ والثقافيّ المستقبليّ، وبخاصة مع تسارع وتيرة التطورات التقنية في المحيط الإنسانيّ، وكما قيل لا مستقبل لمن لا ماضي له.
ومن إيجابيات الماضي التي يجب أن نحافظ عليها من ريح (العصرنة)؛ كي لا تقتلعها من جذورها، وتنجرف مع تسونامي متغيرات الحداثة؛ الفنونُ الشعبية، وبخاصة الرقصات والأهازيج العريقة، والمملكة العربية السعودية تزخر بمثل هذه الفنون الاستعراضية، وعلى امتداد مساحاتها الهائلة نجد مختلف الرقصات الشعبية التي تعبّر عن مفاهيم متعددة المقاصد والأهداف، تدور في مجملها حول الحروب والانتصارات، حسب أطياف وثقافات المناطق؛ مثل: العرضة النجدية أو العرضة السعودية التي جرى إدراجها مؤخرًا ضمن قائمة التراث الثقافيّ العالميّ غير الماديّ لدى اليونيسكو؛ لتوثيقها بوصفها تراثًا مهمًّا، يجب المحافظة عليه هويةً وطنيةً تستدعي الاعتزاز بها وحمايتها من الاندثار.
العرضة النجدية تشتهر بها منطقة نجد، وتُعَدُّ أيقونة التراث الفنيّ السعوديّ، وتحرص الدولة على العناية بها إلى حدّ إدخالها ضمن المناهج الرياضية في المدارس، وقلَّما تجد احتفالًا من الاحتفالات المهمَّة لا تدخل فيه العرضة النجدية. ويحرص خادم الحرمين الشريفين والعائلة المالكة على الحضور ومشاركة محبي العرضة في تأدية هذه الرقصة الحماسية، وبخاصة في الأعياد والمناسبات الوطنية والمهرجانات التراثية؛ مثل: مهرجان الجنادرية الذي يجسّد ذلك التوجه والولع بالموروث الوطنيّ؛ ويكتمل المشهد برفع السيوف على إيقاعات الطبول، وترديد القصائد الحماسية في صورة أخّاذة، ويتحلّى المشاركون فيها بلباس العرضة التراثيّ المزركش الجميل المُحَاك من أجود الأقمشة وأنفسها ذات الألوان المتنوعة، ويتمنطق الرجال عادة حزامًا جلديًّا لحمل الأسلحة النارية كنوع من التباهي.
.
وتُؤَدَّى العرضةُ بشكل جماعيّ في صفٍّ أو صفَّينِ وبتلاحم الأيدي والأكتاف؛ إذ تبدأ الأجساد بالرقص الرجولي على إيقاعات الطبول التي عادةً يحملها مجموعة من الشباب فيرفعونها تارةً، وينزلونها تارة أخرى بطريقة تلهب حماسة الفرسان. واختلف في سبب تسمية العرضة بهذا الاسم، فقد يكون بسبب عرض الرجال أنفسهم وما يرتدونه من ألبسة استعراضية، أو ربما جاء من عرض جياد الحرب، ومن أشهر قصائد العرضة النجدية القصيدةُ الحماسية المشهورة التي اعتدنا سماعها منذ الصغر، وتثير داخلنا حرارة الوطنية، وتدغدغ مكامن الفَخَار بوطننا الحبيب:
نحمد الله جـت على مـا نتمنـــى
من ولي العرش جزل الوهايب
خبّــر اللي طـــامـعـــا فـي وطــنــا
دونهـا نثني إلـى جــات طلايب
.
للحديث عن تسجيل العرضة النجدية قصة، نبدأ بها من: لماذا العرضة النجدية؟
هذا السؤال مفهوم من حيث التحديد، عوضًا من العرضة التي تؤديها مجتمعات كثيرة في السعودية بمناطقها المختلفة، وفي دول الجوار أيضًا، مع اختلافات في الأداء واللُّبْس والعناصر الثقافية الأخرى المرتبطة بممارسة هذا اللون من الأداء، أراد من بدأ بالمبادرة نوعًا من التخصيص بسبب الاختلافات؛ إذ إن تسجيل العنصر فيه نوع من الخصوصية المحلية والتفرُّد الوطنيّ، لا ينتقص بطبيعة الحال من أهمية تسجيل عناصر التراث المشتركة، وبخاصة الشقيقة أو المجاورة ذات الثقافة المشابهة.
ولأنه لا يسع المملكة العربية السعودية إلا تسجيل عنصر واحد فقط كل عام، كان من المهم إعداد ملف لعنصر واحد كل عام من الملفات أو العناصر الثقافية المحلية.
ويأتي السؤال الثاني: متى بدأ العمل؟ باقتراح من سفيرنا لدى اليونسكو، المندوب الدائم الدكتور زياد الدريس؛ عملت وزارة الثقافة قبل أعوام عدة على إعداد الملف، وجرى تقديمه مرتين لكنه رُفض؛ لاعتبارات عدة؛ منها منهجية إعداد الملف، وعدم وضوح دور المجتمعات المدنية والأفراد؛ إذ إن مثل هذا الملفات، وإن كان القطاع الحكوميّ هو المسؤول عن رفعها إلى المنظمة تعدّ مشاركة المجتمعات عنصرًا أساسيًّا في مفهوم ونطاق عمل اليونسكو لأن أيّ عنصر يجري تسجيله يجب أن يحمل بين سطوره قيمة مجتمعية، ورغبة أفراد وممارسي هذا التراث في توثيقه؛ لأن حماية التراث -أيضًا- مسؤولية الجميع لا القطاع الحكوميّ وَحْدَه؛ إذ إن تشكيل الهوية مرتبط بالتنوّع الثقافيّ والتراثيّ للمجتمع بجميع طوائفه.
وأتذكر أني قابلت الدكتور الدريس قبل ثلاث سنوات، وهو أحد أعضاء الجمعية المؤسسين، وتحدثنا عن مشروع حال التراث وأهمية اتّباع منهجية معتمدة في توثيق تراثنا غير المادي، وسألته عما يدور حول تسجيل العرضة في اليونسكو وماهيته وعقباته… إلى غير ذلك, وكيف أن الملف قيد الإعداد، وأنه رُفض في المرة الأولى. توقفنا هنا، وعملنا في الجمعية في ورش عمل من خبراء معتمدين لدى اليونسكو، وبالتواصل مع القطاعات الحكومية والخاصة والمجتمعات أعددنا ورشة عمل، وقَّع الحاضرون فيها على اتفاقية صون التراث غير المادّيّ. وبعد انتخابات الدورة الثانية لمجلس إدارة الجمعية، وانتخاب الدكتور زياد ضمن مجلس الإدارة ولجنة مشروع حال التراث المعنية بالتراث غير المادّيّ وتوثيقه، بادر بعرض مستجدّات ملف العرضة، وعرضتْ حينها رئيسُ مجلس الإدارة الأميرة عادلة بنت عبدالله بن عبدالعزيز مقترح تبنّي الجمعية الملف ضمن دورها بوصفها منظمة مجتمع مدنيّ، وأيّد المقترح بقية الأعضاء وخرج القرار، وبدأنا العمل. كان دور الجمعية حلقة الوصل بين الوزارة والمجتمعات المدنية والممارسين، واعتمادًا على منهجية اليونسكو، أقمنا ورش عمل، وخرج فريق العمل؛ لاستكمال ملف كان الزملاء في الوزارة قد عملوا على إنجازه، وتضافرت الجهود بدعم رئيس مجلس إدارة الجمعية.
رفعت الوزارة الملف قبل ١٨ شهرًا من موعد التصويت، وانتظرنا الموعد، وحزمنا الحقائب بنية المفاوضات بعد أن وصلَنا ردّ اللجنة التي قيّمت الملف بملاحظات قد تؤدّي إلى تأجيل التسجيل سنتين أُخريين، وهنا جاء دور الشرح والتوضيح لأعضاء اللجنة قبيل التصويت بـ ٧٢ ساعة، ومن حسن الحظ، أن بعض الدول الأعضاء اقتنعت بسلامة الملف وقَبوله للتسجيل، وفي أثناء الجلسة، وتداول عناصر الملف مع رأي اللجنة التي قيّمته، وبعد أن تحدّث الوفد السعوديّ شارحًا وجهة نظره؛ جاء التصويت لصالح التسجيل!
ثلاثون دقيقة دار في أثنائها النقاش والتسويغ والتصويت؛ انتهت برفع علم المملكة العربية السعودية، وترديد انحمد الله جت على ما نتمنىب؛ الآن أصبحت العرضة النجدية عنصرًا مسجلًا في القائمة التمثيلية للتراث الثقافيّ العالميّ، بفضل إيمان وحب وعمل أشخاص، ودعم آخرين.
كان العمل نموذجًا للفعل التكامليّ بين القطاعات الحكومية والخاصة والمجتمعات المدنية والأفراد، ضمن منهجية اليونسكو، وهي منهجية عالمية مقننة ذات ضوابط تهدف إلى حماية عناصر التراث الثقافيّ في كل دولة وَفْقَ محدّداتها؛ من أجل الحفاظ على الهوية وإبرازها وتطويرها، وهذا جوهر عملنا في الجمعية السعودية للمحافظة على التراث، ومنهجنا لتوثيقه. وأختم بقول رئيس مجلس الإدارة الأميرة عادلة بنت عبدالله: اإن دورنا بوصفنا منظمة مجتمع مدنيّ هو الحرص على توثيق هذا التراث المهمّ من حضارتنا، ونشر الاعتزاز بالهوية، والسعي للمحافظة على إرثنا الوطنيّ الغنيّ والمميّز، والعمل جنبًا إلى جنب مع المسؤول والمهتمّ والممارس وحافظ التراثب.
المنشورات ذات الصلة
كتاب الموسيقا للفارابي من خلال مخطوط بالمكتبة الوطنية بمدريد
يعرّف الفارابي الموسيقا في قوله: «فلفظ الموسيقا معناه الألحان، وصناعة الموسيقا بالجملة هي الصناعة التي تشتمل على...
«رهمانج» و «لا نا ما»: حامل المعرفة البحرية وتبادل الثقافات على طريق الحرير البحري
مصطلح «لا نا ما» ظهر لأول مرة في الكتاب السياسي الصيني ميشو جانتشي. إن «لا نا ما» هو نقل للكلمة الفارسية «راهنامه»،...
البحث عن إرث أنثوي… المرأة وتحقيق التراث العربي
يمكن إعادة أول مخطوط مطبوع حققته وضبطت نصه امرأة إلى عشرينيات القرن المنصرم، ومع مرور قرن من الزمن على ظهور اسم مؤنث...
نعم يجب توثيق جميع الفنون الشعبيه في مناطق المملكه ودراستها بشكل علمي وربما مستقبلا يتقبل المجتمع تضمينها ضمن النشاط الغير صفي في المناهج المدرسة والانشطه الطلابيه