كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
في رواية «النباتية» تستحيل البطلة إلى شجرة
لعل من المصادفات المبهجة والغريبة أيضًا أن أقرأ رواية «النباتية»، للروائية الكورية الجنوبية هان كانغ، ترجمة: محمود عبدالغفار (دار التنوير 2018م)، بالتزامن مع لقائي بصديق أسترالي من أصل مكسيكي.
الغريب في الأمر أن هذا الصديق هو نباتي أيضًا، لا يتناول سوى الوجبات النباتية، طعام خالٍ تمامًا من أنواع اللحوم كافة حتى الأسماك، بل إنه يتجنب أكل البيض والحليب ومشتقاته أيضًا، إمعانًا في غايته لقطع صلته بكل ما هو لحميّ، لأكثر من عشر سنوات تخلى هذا الصديق المدعو كارل عن ذلك؛ يقينًا منه أن هذه اللحوم تتعرض لأذى إنساني فظيع أثناء قتل بني آدم لها والتهامها، تلك هي فلسفته في الحياة، الفلسفة التي تبدو غريبة لنا نحن آكلي اللحوم المتوحشين ربما!
في رواية «النباتية» للصحافية والكاتبة هان كانغ، تحمل بطلتها فلسفتها أيضًا حول أكل اللحوم، فلسفة غير مخطط لها، بل نابعة من صميم حلم يأتيها في ليلة ما، فتجد نفسها واقفة بذهول أمام الثلاجة الفائضة بأنواع متعددة من اللحوم، الحلم نفسه يتكرر؛ ما يجعلها تُخرِج كل تلك اللحوم من الثلاجة وتضعها في أكياس القمامة لترميها بعيدًا من بيتها، مما يشكِّل مشكلة للزوج الذي يُفاجَأ بسلوك زوجته الغريب، المرأة الهادئة، العادية، الزوجة المنصتة، تستحيل بين يوم وليلة إلى كائن يتصرف بغرابة، فلا تطيق اللحوم بل لا تطيق لمساته كزوج؛ لأن مسامَّه تفوح برائحة اللحوم المقرفة!
نَحَت الروائية كانغ في روايتها الثالثة التي صدرت عام 2007م إلى التجريب، الذي أهلها للفوز بجائزة مان بوكر الدولية 2016م عن استحقاق، وقد نوهت لجنة التحكيم بأن مبعث فوزها المستحق هو في أنها نجحت في إظهار التلاحم الطريف بين الجمال والرعب عبر قصة مركزة ودقيقة ومروعة، عن امرأة تستحيل إلى نباتية بين يوم وليلة دون أي مسوغات، سوى الكابوس الذي نبش حلمًا من أحلامها في إحدى الليالي؛ لتحيل حياتها وحياة كل من حولها إلى جحيم، فمن هو هذا العاقل الذي يتخلى عن التهام مئات الأطباق المكونة من أشهى اللحوم المتنوعة؟! لذا فإن هذا يعرِّضها لتعنيف شديد القسوة من قبل عائلتها، ولا سيما الأب الذي يرى في تصرف ابنته نوعًا كبيرًا من العار في حق زوجها!
تطرقت الروائية لفكرة جديدة، وقامت بسردها بأسلوب أقل ما يقال عنه: إنه معتم، فجوّ الرواية سوداوي، ويجد القارئ نفسه أمام امرأة تتضاءل يومًا بعد يوم، ويشكل تخليها عن اللحوم أزمة وجودية، ولا سيما وأن كونها نباتية لم يكن نابعًا من فلسفة إنسانية تجاه الحيوانات، بل هو نابع من حلم غريب انتابها وجعلها تبدو شخصًا متوحِّشًا، وتلك الكائنات الحيوانية تكاد تنتقم منها بالتهامها، ثم سرعان ما يتمكن منها هذا الحلم، ويظهر تأثيره لا على حياتها فحسب، بل على حياة من حولها أيضًا ابتداء من زوجها الذي يطلقها، وهو الراوي الأول في الرواية، يسرد تفاصيل حياته العادية مع زوجته العادية، زوجة تبدو مضجرة في ممارسة حياتها الزوجية، حتى بداية الحلم وتخليها عن اللحوم بطريقة مقززة!
ثم تتطرق الرواية لحياتها مع أسرتها: أبيها وأمها وأخيها وأختها وزوجها؛ ليكون زوج أختها هو السارد الثاني لتحريك دفة السرد، الفصل الأكثر ثراءً وحيوية في الرواية من حيث تناولها للتفاصيل، زوج الشقيقة الكبرى الذي يرى أن شقيقة زوجته الصغرى امرأة مثيرة، سرعان ما يستغل حالتها الغريبة ليطرح عليها فكرته المجنونة، وهي أن يرسم على كامل جسدها حديقة زهور ملونة، ثم يستغلها لمآربه الجنسية في تماهٍ مع فكرته الفنية ورغباته أيضًا، لكن الشقيقة الكبرى تقف له بالمرصاد وتنهي حياتها معه، بل تدخله مصحة نفسيّة متهمة إياه بالجنون، وبذلك تنتهي حياته المهنية كفنان، وحياته كزوج وأب أيضًا!
أما الفصل الأخير من الرواية فاتكأ السرد فيه على صوت الشقيقة الكبرى، المضحية بالمعنى الدقيق، التي يشعر القارئ باندفاعاتها، ويتجاوب مع معاناتها كامرأة عاملة وأم وزوجة وشقيقة كبرى، وتغدو في الرواية أكثر شخصية يتعاطف معها القارئ، في حين تكاد نظرة القارئ للبطلة النباتية يشوبها نوع من القلق، بل تكاد تكون نظرة محايدة مشْبَعة بنوع من الهلع حول مصيرها الغامض خلف لهاثها تجاه حلم غامض! أما الشقيقة الكبرى فهي برّ الأمان في الرواية، المرأة الحنون، هي الأخت الكبرى فعلًا، التي بدورها تتماهى مع ما تعايشه شقيقتها الصغرى التي تتخيل نفسها شجرة، فتتخلى كليًّا عن الطعام حتى النباتي منه، وتكتفي بالماء؛ فالأشجار تكتفي بالماء وضوء الشمس لتكون وارفة، فائضة بالحياة!
الرواية أيضًا تحمل فكرتها الكبرى، الفكرة الخفية، عن سوء معاملة النساء في مكان مشهود له بالحضارة العريقة والتطور الفذّ ككوريا الجنوبية، في ظل هذا الانطلاق التكنولوجي يظل فيه وضع المرأة مزريًا، بل يكاد وضعها يثير الشفقة، فالبطلة حين تتحول إلى نباتية تلام بشدة، ويَصِمونها بالجنون، وكأن ليس من حقها أن تختار، بل هذا الخيار الحرّ نحو ما يلائم شخصيتها لا وجود له في عالم المرأة المتزوجة، هذا الانتهاك الذي يتعرض لحريتها الشخصية ربما هو المبعث الأساسي لفشل حياتها الزوجية، ليس هذا فحسب، بل إن الرواية أيضًا تظهر طبيعة المجتمع الكوري الجنوني الذي تنقصه قيم التقبّل: تقبل اختلاف الآخر، واختلاف توجهاته وأنماطه في ممارسة حياته كما يحلو له؛ كمعظم المجتمعات الأوربية التي قطعت أشواطًا هائلة لتمديد مساحات الحريات الشخصية كحق إنساني، ومنطلق حقيقي نحو مستقبل أكثر انفتاحًا.
الرواية هي فضح ورفع للغشاوة عن مجتمع محدود الأفق، وقاسٍ، وينقصه الكثير لتتعادل فيه حداثة الآلات مع حداثة العقول البشرية!
المنشورات ذات الصلة
«جوامع الكمد» للشاعر عيد الحجيلي… عوالم شعرية بسيطة
يثير ديوان «جوامع الكمد» (الدار العربية ناشرون) للشاعر السعودي عيد الحجيلي مجموعة من الأسئلة القصيرة المتعلقة بالذات...
«حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس التخييل المرجعي للذاكرة
تأخذ رواية «حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس -منشورات المتوسط- أذهاننا إلى زمن الحرب، إنها إحالة إلى الزمن، ولم...
السيد الجزايرلي في ديوانه الجديد بصير يتلمس عبر التصوف حنينه إلى الوطن
العلاقة بين التنبؤ والشعر قديمة ووطيدة منذ قصة وادي عبقر، والقول بأن لكل شاعر عفريتًا من الجن يلهمه أشعاره، مرورًا...
0 تعليق