أن تكون ألتراس يعني أن يكون وجودك الاجتماعي مُنْشَقًّا
يمكن القول: إن ظهور مجموعات محبي فرق كرة القدم التي تلقب بالألتراس في البلاد العربية يعود إلى عشرين سنة. ربما سمح لنا ذلك، وبالنظر إلى ديمومتها وترسخها وانتشارها واتخاذها صبغة مؤسسية أكثر فأكثر، وتنامي تأثيرها في الكثير من مناحي الحياة العامة، بالقول: إنها ظاهرة اجتماعية. وعلى الرغم من اتصافها بكل تلك السمات فإن تناولها من منظور العلوم الإنسانية والاجتماعية ظل باهتًا عدا بعض الأطاريح الجامعية في مستويي الدكتوراه والماجستير في بعض الجامعات العربية أو من قبل بعض الطلبة العرب الباحثين في جامعات غير عربية في كندا أو الولايات المتحدة الأميركية أو أوربا. ومن المؤكد أن ما يلي لن يفي بتجاوز كل مظاهر الجهل بالظاهرة، بل هي محاولة في تدقيق المعطيات ما أمكن تهدف رئيسيًّا إلى وضع لوحة وصفية تحليلية أقرب ما أمكن إلى التناول السوسيولوجي.
التسمية الأكثر انتشارًا إعلاميًّا هي الألتراس بنطقها الإنجليزي (وهي غالبة في مصر والشرق العربي) أو الأولترا بنطقها الفرنسي (وهي غالبة في المغرب العربي). أول هذه المجموعات كانت برازيلية والتسمية الأصلية هي تورسيدا (برتغالية) وتعني مجموعة محبي فريق كرة قدم. اللفظة مشتقة من الفعل تورسير وتعني التمسك بـ، وكذلك أن يكون المرء أو الشيء جذرًا لشيء ما. لكن الفعل البرتغالي يعني كذلك أن تتخذ شكلًا ملتويًا والمقصود أن الأحباء الذين يمثلون جذور الفريق يكونون على المدرجات في وضع يتحركون مع فريقهم، أثناء المقابلة، فيساعدون على هزيمة الخصم. المجموعات البرازيلية الأولى سميت، في الجمع، تورسيداس أورغانيزاداس، وتعود أولاها إلى سنة 1939م وكانت مؤقتة الوجود منوطة بعهدتها مهام محددة ثم، وعلى امتداد السنوات الأربعين من القرن العشرين، تحوّلت إلى بنى تنظيمية دائمة قُنّنت بوصفها منظمات غير ربحية. بالتوازي مع ذلك كان انتشارها وتكتلها التنظيمي من خلال جمع شتات المجموعات الصغيرة في بنى مهيكلة ضخمة فتحت لها فروعًا في غير مدن نشأتها الأصلية. وكانت كأس العالم الرابعة لكرة القدم التي أقيمت بالبرازيل سنة 1950م مناسبة الظهور الدولي فالعالمي لمجموعات التورسيدا. على أثر تنظيم تلك الكأس انتقل التأثير مباشرة إلى أوربا مع تكوين تورسيدا سبليت الكرواتية بتاريخ 28-10-1950م التي كانت أوّل مجموعة محبي فريق كرة قدم أوربية.
هذه المجموعات نفسها تحمل في بلدان أميركا الجنوبية إسبانية اللسان تسمية بارا برافا. وتعود بدايات ظهورها إلى سنوات 1920م حيث لقبت إعلاميًّا بلفظة «بارا» التي تفيد معنى قريبًا من معنى العصابة، وعلى الأخص في الأرجنتين والأوروغواي، وإن كانت الكلمة الإسبانية تعني مجموعة من الأشخاص يلتقون دوريًّا للقيام بأنشطة مشتركة من دون غايات إجرامية بالضرورة. كانت المجموعات الأولى تسمى بارا غوما (1927م) أي «مجموعات المطاط»؛ لأنها كانت تستخدم الأنابيب المطاطية لعجلات الدراجات تملؤها رملًا وتشدّ أواخرها لتهجم بها على أحبّاء الفريق الخصم. لاحقًا، وعلى امتداد ثلاثينيات القرن العشرين وأربعينياته، وبينما كان مسؤولو فرق كرة القدم ينظّمون أكثر فأكثر تمويل مجموعات الأحباء هذه صاروا يلحّون عليها في أن تكون حاضرة، على الأخص، في المقابلات التي كانت تجري خارج مدنهم الأصلية، فصارت هجومات أعضاء مجموعات البرافا على أحباء الفِرَق الخصوم الضيفة تتحول إلى استفزازات حادة للاعبيها، بل إلى اعتداءات عنيفة عليهم على أرضيات الملاعب وخارجها. نظرًا لذلك كان على أعضاء هذه المجموعات أن يظهروا أنهم برافا أي هائجون (مستأسدون) وعلى الأخص عند التنقل إلى مدن الفرق الخصمة دفاعًا عن الفريق وعن لاعبيه.
كان ذلك اقترابًا وئيدًا ولكنه أكيد نحو اكتساب هذه المجموعات سمات المجموعات المنظمة النازعة نحو ممارسة العنف وعلى الأخص خلال السنوات الخمسين من القرن العشرين، في الأرجنتين مثلًا، بعد توالي «تورّط» قوات الأمن إما في التغاضي عن إصابات محبّي الفرق الضيفة أو حتى الهجوم عليها إذا ما اشتبكت مع محبي الفرق المُضِيفة، وهو ما تسبب في سقوط أول ضحية وهو شاب في التاسعة عشرة من عمره من محبي فريق ريفر بلايت ذي الأصول الضاحوية الشعبية للعاصمة بيونس آيروس، سنة 1958م. لمثل هذه الأحداث أهمية تأسيسية لهوية مجموعات محبي فرق كرة القدم؛ لأنها تقدم لها مادة تبني بها سرديات متكاملة ومتزايدة التشعب أساسها المظلومية ومعاداة قوات الأمن والاستبسال في الدفاع عن الفريق وعدم التردّد في القيام بـ«الواجب». أول مجموعات المحبين العنيفة أرجنتينية، وتكونت خلال سنوات 1950م، وموقع ظهورها الثاني، بعد ذلك بمدة وجيزة، كان هو المكسيك وفيها سميت بارا بورراس (الهراوة) ثم انتشرت في الأوروغواي وبوليفيا والبيرو. وفي السنوات الستّين من القرن العشرين ظهرت مجموعات شبيهة في أوربا وكانت في تسميتها الإيطالية تيفو ومنها يشتق الفعل تيفاري الذي يعني التشجيع المتحمس. وفي الإسبانية المستخدمة في إسبانيا أفراد هذه المجموعات هم الهينتشاس أو السوسيوس وهم في إنجلترا الألتراس…
تحولات بسِمات كبرى
في كل هذه التجارب التي ذكرنا، كان تحوّل هذه المجموعات من مجموعات محبّين كما ظهرت في الطور الأول، أي إلى حدود نهاية خمسينيات القرن العشرين تقريبًا، إلى مجموعات محبين تتخذ لها طريقة استعراضية في الوجود ومنهجًا عنيفًا في السلوك في الملعب وحواشيه متوازيًا مع تحولات كبرى في كيفيات ممارسة كرة القدم وبخاصة في الحياة الاجتماعية عامة. وكان لهذه التحولات ثلاث سِمات كبرى. أولى هذه السمات هي تزايد عسر الأوضاع الاقتصادية لدى الطبقات الوسيطة والفقيرة التي تمثل الخزان البشري الرئيس لهذه المجموعات ولمشجعي فرق كرة القدم عامة. ثانية هذه السمات هي الإقصاء السياسي الذي يضرب نفس هذه الطبقات بالتهميش والحيلولة دون مشاركتهم مشاركة سياسية فعالة، وبالنسبة إلى الشباب منهم خاصة. أما السمة الثالثة فهي تحوّل نشاط كرة القدم إلى مجال فعل ذي صبغة تجارية يهدف إلى تحقيق أرباح مالية ومضاربات يشرف عليها مستثمرون يضعون أياديهم على فرق كرة القدم. وفي سياق هذه السمة كثيرًا ما تتحول فرق كرة القدم إلى مشاريع ومؤسسات استثمارية تعمل على نمط الشركات الربحية. باجتماع هذه السمات الثلاثة، يكون ثمة إذا توازٍ تاريخي اجتماعي بين تناقص حاد في فعالية أطر الاحتضان الاجتماعي والجمعياتي والسياسي التقليدية وهو ما يمس على الأخص الفئات الشعبية الشابة ذات الحركية العالية من جهة، ومن جهة ثانية انقطاع متزايد لفرق الرياضة الأكثر شعبية عن أصولها الجماهيرية حيث كانت مساقط رؤوسها أحياء شعبية وضاحوية فقيرة أو متوسطة الحال ضمن المدن الكبرى والعواصم على الأخص. ولكن ورغم هذه السمات فإن أكثر ما تظهره هذه المجموعات هو الولاء للفريق مهما كانت إدارته وأيًّا كان رئيسه حتى بصرف النظر عمن ينشط ضمنه من اللاعبين.
الوصول إلى الأقطار العربية
فيما تصح عليه السمات الثلاثة، كان وصول هذا التقليد الشبابي إلى أقطار العرب في بدايته ليبيًّا في تجربة قصيرة مستنسخة عن إيطاليا لم تتجاوز الأسابيع القليلة، ثم تونسيًّا ثم مصريًّا ومغربيًّا وجزائريًّا ثم بعد ذلك صار سودانيًّا أيضًا… كل الأسماء التي تتسمى بها هذه المجموعات عند العرب بها كلمات من قبيل الفدائيين والمخادعين (= المتهربين من الخدمة العسكرية) والمحاربين والمظفرين والوندال والجحيم وفي بعضها الآخر إشارة إلى «الألوية الحمراء» الإيطالية وفي أخرى إلى قائد جيش التحرير القومي الثوري المسلح من ولاية تشياباس جنوب المكسيك إيميليانو زاباتا وهو أحد قادة الثورة المكسيكية لسنة 1910م… ليست هذه التسميات اعتباطية لأن مجموعات الألتراس تعريفًا عنيفة. ولكنه ليس عنفًا مجانيًّا لأنه موجه بالأساس إلى فئتين محددتين هما قوات الأمن من جهة وأعضاء مجموعات المحبين الأخرى حتى مجموعات محبي نفس الفريق.
ضمن هذه المجموعات العربية، ثمة مجموعات قريبة من الهيئات المديرة للفرق وأخرى بعيدة منها، وأخرى ترى أن مهمتها الأساسية هي خوض المعارك العنيفة مع قوات الأمن. وثمة بطبيعة الحال خطوط انقسام تتوازى وتتقاطع مع الانتماءات الطبقية والفئوية للأفراد المكونين لهذه المجموعات. المجموعات الأقرب إلى أنموذج الألتراس تتكون على أيدي مجموعة محدودة العدد، ثم تبدأ في الانتشار من فوق إلى تحت على امتداد كل البلاد. تنتظم هذه المجموعات في هيكلة هرمية لها بنى متراتبة منها التسييري، في الأعلى، ومنها التنفيذي، في مستوى أدنى منه، ثم تنزل إلى مستويات أدنى فأدنى أي أقرب فأقرب إلى جمهور المحبين الواسع في مجريات حياتهم اليومية. يكون على رأس الهيكلة الهرمية مجموعة من المؤطرين ذوي النفوذ البالغ في بقية الأعضاء على الرغم من التحافهم بما يشبه السرّية من حيث المسؤوليات والمواقع. وهم يحرصون على عدم الظهور الإعلامي وإن ظهروا يكونون ملثمين فلا تظهر من ملامحهم إلا العيون؛ لأنهم أصلًا ضد ما يعدُّونه لعبة رواج إعلامي بوصفها جزءًا من التلاعب التجاري الدّعائي بالكرة التي من المفروض أن تكون للجماهير. كل واحد من القادة ذوي النفوذ يسمى كابو (التسمية إيطالية وتعني الزعيم). في المستوى الثاني نجد الليدر (القائد) الذي يقود مجموعة من الأحباء لا تقلّ عن عدد معين (خمسين في تونس) يمكن حسب كثافة وجودهم أن يتوزعوا على منطقة شاسعة تجمع مدنًا وقرى وتجمّعات سكنية كما يمكن أن يكونوا متجمعين في حي سكني أو حتى في قسم من حي سكني في العواصم والمدن كثيفة السكان.
كل منطقة يوجد بها الأحباء المنتظمون تسمّى قطاعًا، ولأفرادها علامات انتساب مُحدّدة هي اقتناء منتوجات المجموعة المميزة وهي على الأغلب صدار وطوق رقبة (neckware) ويمكن أن تضاف إليها قبّعة يمكن إذا ما أسدلت على الوجه أن تتحول إلى قناع للوجه لا يُظهر منه إلا العينين. عند تكوين المجموعة في القطاع يعمد الأعضاء إلى وضع ما يمكن عدّه إعلانات وجود على جدران مبانٍ تُتَخَيّر بحسب كثافة حركة الناس حولها أو حذوها حتى تكون مقروءة بشكل واسع. إعلان الوجود عبارة عن كتابة جدارية بالأحرف اللاتينية تسمى غرافيتي عادة ما تختصر في الأحرف الأولى لاسم المجموعة تضاف إليها لفظة «منطقة» وتاريخ نشأة المجموعة. وكلما كان التاريخ المثبت في التسمية قديمًا عائدًا إلى عدد معتبر من السنوات كان ذلك أرفع قيمة. ويمكن أن تكون من ضمن الغرافيتي جمل تعبر عن قوّة الانتماء أو عن تصور عام للحياة ولقيمة كرة القدم وللفريق المحبوب فيها. في الغرافيتي الذي تنجزه المجموعة إحالات على معاني عيش حب الفريق كما لو كان هو الحياة كاملة وفيه أيضًا إحالات على الموقع الذي تحتله المجموعة في أقسام المدارج في الملعب بحيث تكون في أسمائها عبارات مثل «شمالية» و«جنوبية» و«استدارة» (curva)… يعد الغرافيتي إعلانًا للوجود لأنّه في الآن ذاته علامة وضع يد على مجال محدّد واقتدار على ممارسة النفوذ عليها. فكلمة «منطقة» لها معنى شبه عسكري وشبه حربي، ولكن الصبغة النزاعية لوجود هذه المجموعات أوضح بكثير في الممارسة؛ لأن السيطرة على منطقة معينة والإعلان عن طريق الغرافيتي يثير في الكثير من الأحيان حس الخصومة لدى المجموعات المنافسة. ولذلك من المتواتر أن نجد الغرافيتي المكتوب الذي يدل على أن المنطقة هي منطقة مجموعة معينة مشطوبًا بقاطع ومقطوع وفوقه أو إلى حذوه، وبأحرف أبرز وأكثر وضوحًا، غرافيتي آخر يعلن هوية من انتزع المنطقة من قادتها القدامى. وفي العُرْف النزاعي بين المجموعات تعد تلك إهانة بالغة ومسًّا من المجموعة التي افتكت منها المنطقة، ومن عنفوانها الهوياتي. وكثيرًا ما نجد إلى جانب الغرافيتي المختصرات الإنجليزية ACAB أو ما يقابلها من أرقام الترتيب الألفبائي لهذه الحروف (من اليسار إلى اليمين، 1312) وترجمتها «كل الأمنيين لقطاء» فضلًا عن شعارات أخرى من قبيل «الكرة للجماهير». إن العيش في الحي أو في المنطقة يحيل على العيش في الملعب والعكس بالعكس وفي القلب منهما يكون الفريق، والعيشان مترادفان لأنهما يؤكدان على أن حياة المحب هي بالضبط حبه لفريقه وما يسمّيه عشقه أو غرامه كما يقال في تونس. بهذه الممارسات تتحول المدينة إلى فضاء لصراعات السيطرة والنفوذ بين المجموعات التي تتخذ لها مواقع هي أشبه بمَضَارِب رهوط أو عشائر أو قسمات قبلية، بتخومها المحددة بمثل هذه العلامات.
مواجهات دامية
لتاريخ مجموعات محبّي فرق كرة القدم، حتى إن لم يتجاوز بعض سنوات، ثقل كبير وعلى الأخص في علاقة بمواقع مُحدّدة كانت فيها مواجهات عنيفة بينها وبين مجموعات محبي الفرق المنافسة أو مفارز قوات الأمن. بقدر شدة المواجهة ودمويتها تكون حدة وقع الواقعة في ذاكرة المجموعة وعلى الأخص. هي بمنزلة الموقعة الحربية ولذلك تسجل مواقعها ومواقيتها ووقائعها التفصيلية وأسماء أبطالها ضمن ذاكرة المجموعة. ثم تصير المواقع جزءًا من تاريخ المجموعة الذي به تعتز وتنافح المجموعات الأخرى عبر تحويلها إلى مادة أناشيد توضع لها ألحان مميزة. وفي الأناشيد التي تردّد على المدرجات تتراصف الكلمات العدوانية والعنيفة والحربية ليندفع الحماس إلى درجات عليا من الحفز، وتتردد فيها الألفاظ التي تخرق قواعد التعبير اللغوي المقبول على أنه سويّ اجتماعيًّا. وتخرج تلك الكلمات النابية في معنى أهها عنيفة المعنى الجنسي عادة من أفواه التلاميذ والطلبة والموظفين والعاطلين والعمال الموسميين والتجار حتى الأطباء والصيادلة والمدرسين… من دون استثناء في نوع من الغمرة الجماعية الفوارة الخارقة لمظاهر السلوك المعتاد ونواميسه؛ لأنها تحدث في خضم جَمْهَرَة تحشُدها حالة جَيَشَانٍ فيّاض. ومع ذلك قد تعمد هذه المجموعات إلى خوص معارك طاحنة مع قوات الأمن لأسباب قيمية مناقضة لخرق قواعد السلوك الاجتماعي المقبول على أنه سويّ، ومن ذلك أن مجموعة هاجمت تلك القوات لأنها منعت بالقوة قسمًا آخر من الجمهور من الصلاة الجماعية على أرضية ملاصقة للمدارج في ملعب تونسي.
وتماشيًا مع انتشار استخدام التكنولوجيات الحديثة تعج شبكة اليوتيوب على الأخص ولكن كذلك شبكة الفايسبوك بشرائط مصورة لهذه الأناشيد مغناة ومسجلة بإتقان ربما بلغ إتقان تسجيل الأغاني مستوى الاحتراف، وهي أناشيد تروج على أقراص، وتحمّل على أجهزة أم بي 3، ويحفظها الشباب عن ظهر قلب. هي أناشيد تتكون في الغالب من كلمات عربية (باللهجة الدارجة للبلد المعني) وكلمات أخرى إنجليزية وإيطالية وإسبانية وبالخصوص في بلدان المغرب الكبير، وهو ما يعطيها بعدًا أكثر فأكثر عولمة. في الأناشيد يشبّه الفريق بالأرض وبالوطن وبالعائلة وبالأم بكامل أوصاف الرقة والحنان واستحقاق التبجيل والوفاء والتضحية، فيما ترقى بعض التعابير إلى ما يشبه الغزل. وخلال كل ذلك تروي الأناشيد تاريخَ الفريق وتاريخ المجموعة والأحداث التي طبعت ذاكرتها في سياق من الافتخار وإعلاء الشأن وامتداح خصال المجموعة وانتصاراتها في كل «مَوْقِعَة» خاضتها. ويمثل الغرافيتي من جهة والأناشيد من جهة ثانية جزءًا مما صار يعرف بفنون الألتراس وهي فنون شبابية حضرية شارعية في أغلب طرائق أدائها، تُبتدع وتروّج وتنتشر في علاقة بالألتراس حصرًا وفي التصاق بأنشطتها.
من أبرز أنشطة أفراد مجموعات الألتراس التنقل مع الفريق أينما حلّ وحيثما كانت المقابلات التي يخوضها. لِتَنَقُّلِ أفراد المجموعات مع فرقها قيمة بالغة في تأكيد تعلقهم بها ومؤازرتهم المطلقة لها. ولئن كان ذلك يصح في مباريات كرة القدم رئيسيًّا فلا يعني أنه لا يصح في بقية الرياضات مرورًا بكرات اليد والسلة والطائرة على الترتيب، الرجالية منها والنسائية على الترتيب كذلك. تبدأ تحضيرات التنقل إلى المدينة المستقبِلة لمتابعة مباريات كرة القدم أيّامًا قبلها بتدبّر المال الضروري للتنقل والغذاء والسجائر وبقية المواد الاستهلاكية بالنسبة إلى من ليس لهم دخل قار ولكن الاستعداد الذهني أهم بكثير وعلى الأخص إذا كانت المقابلة مهمة ومع فريق كبير وفي مدينة كبيرة. أكثر ما يكون ذلك هو في مقابلات الأجوار (الدربي) وفي مقابلات الفرق العريقة والحاملة لعدد معتبر من الألقاب والمتصدرة لأعالي الترتيب عادة (كلاسيكو). في هذه الحالات يكون التنقل عسيرًا؛ إذ ربما يكون مناسبة لحدوث موقعة جديدة ومواجهات تنضاف إلى المواجهات السابقة، وربما كانت استحقاقًا ثأريًّا بعد موقعة تكون أحداثها قد جدّت قبل ذلك بسنة أو خلال النصف الأول من الموسم الرياضي. ويكون الوصول إلى الملعب بالنسبة إلى هذه المجموعات مسبوقًا بجولة استعراض قوّة في مدينة الفريق الخصم حيث يكون أفراد مجموعات المحبين على أتم الزينة بالمنتوجات التي تُظهر الانتساب إلى مجموعة المحبين، وبالألوان المعلومة، مصحوبين بطبول ضخمة ومزامير تساعد على إحداث الجلبة وجذب الانتباه كما تساعد على ترديد أناشيد المجموعة بأكثر ما أمكن من الوقع. ويكون ذلك أيضًا في المدينة الأصلية للفريق انطلاقًا من الأحياء الشعبية، وعادة ما تكون من ضواحي العواصم، وفي وسائل النقل الجماعية، وكذا في وسائل النقل الخاصة، وعلى الأخص منها السيارات التي تكون لأحد أفراد مجموعة القطاع المعين ويكون ركابها من أفراد الحي نفسه. يعني التجول في المدينة بهذا الشكل الاستعراضي إمكانية حدوث مواجهة مع محبي الفريق الخصم الذين لا يعدمون هم أيضًا وسيلة للقيام بذات الشيء. وربما كان للتوقف لأطول مدة ممكنة في مكان محدّد من المدينة وعلى الأخص في أقرب نقطة من مركز مدينة الفريق الخصم والقيام باستعراض للأزياء وللمنتوجات ولترديد الأناشيد وقرع الطبول وإطلاق أصوات المزامير غاية القول «إنّا هنا ويمكننا أن «نحتل» هذا الموقع الرمزي في مدينتكم». ولطالما ردّدت أناشيد مجموعات المحبين روايات أكّدت فيها أنّها حوّلت مدن الفرق الخصوم إلى ساحة مواجهة حربية وأطلقت عليها تسميات من قبيل «كوسوفو» وغيرها من المدن التي شهدت دمار المعارك العسكرية. ويمكن أن تكون الموقعة مع قوات الأمن وعلى الأخص على مشارف الملاعب أو في مخارج المدن المضيفة حيث تستمر المواجهات التي تكون قد بدأت على المدرجات.
سلاسل بشرية متصلة
في الملعب يكون من مهمة المجموعة أن تملأ المكان المخصص لها في المدارج، وذلك من علامات قوتها العددية، وهي تضع قطعة القماش البلاستيكي التي تدلّ عليها وتحمل شعارها الذي يسمى في تونس «باش» (فرنسية)، ويكون من مهام أفراد المجموعة ترديد الأهازيج والأناشيد والقفز في نفس المكان أو مع التحول بضع خطوات جيئة وذهابًا، فيما يشبه الرقصة الجماعية، مع الربط بين الأذرع والأيادي على الأكتاف وخلف الرقاب بحيث تتكون سلاسل بشرية متصلة، حناجرها ترفع الشعارات التي تدل على الوفاء للفريق، وأجسادها تنتصب واقفة من دون جلوس أبدًا طوال تسعين دقيقة وبصرف النظر عن النتيجة المسجلة ومهما كانت وضعية الفريق، وحركاتها تؤدى بأكثر ما أمكن من التناسق لإظهار الانسجام والتساند والتأكيد على الانضباط الحديدي الذي يَسِمُ المجموعة ويميِّزها عن غيرها. ويكون ذلك على الأخص عندما تكون المجموعة حريصة على إظهار قوتها ووحدتها بالنسبة إلى صفوف متراصة من قوات الأمن تتخذ لها على الأغلب مواقع على محيط مستطيل اللعب ذاته مواجهة لأقسام المدارج التي بها تتجمع أكثر المجموعات عنفًا، متأهبة للهجوم على المنعرجات التي تؤوي أكثر الجماهير حماسة ويكون فيها على الأغلب من هو تحت أثر المخدرات والكحول بحيث يجتمع الانتشاء بهذه المواد مع الانتشاء بالانتماء إلى المجموعة التي يعلى شأنها. وتتسم وضعية المواجهة هذه بأهمية بالغة من ناحية تسجيل الانتصارات حتى الاستعراضية منها على الخصوم الأمنيين الذين يزداد على وقع امتداد المواجهات معهم في التاريخ ترسّخ الشعور الدفين لدى المحبين بأنهم يقمعونهم لمجرد أنّ لهم عشقهم الخاص لفريقهم، فتتالى الثارات وعلى الأخص إذا ما كانت المواجهات متبوعة بإيقافات وإحالات على المحاكمات كثيرًا ما تكون تعسفية وغير متناسبة بالضرورة مع الخائضين الحقيقيين في ممارسة العنف. إن عدَّ المجموعة نفسها في حالة مواجهة ثأرية متتالية الوقائع مع قوات الأمن هو السبب الرئيس الذي جعل مجموعات الألتراس القاهرية تتدخل في موقعة الجمل، خلال الثورة المصرية، ضد البلطجية لحماية الشعب من بطشهم.
تقديس الشعار
ولقطعة القماش البلاستيكية التي تحمل شعار المجموعة وتكون على امتداد أمتار طولًا وعرضًا أهمية حياتية حيث يُحرَص على نشرها على مرأى من الجميع وإظهارها في وضعيتها الصحيحة وليست مقلوبة، كما يكون الحرص البالغ على ألا تسرق أو تفتك وألّا تقلب وضعيتها وإلا كان مصير المجموعة حلّ نفسها وهو ما حدث فعلًا في تونس مع إحدى مجموعات ألتراس الترجي الرياضي التونسي. وهذا التزام أخلاقي وقيمي رئيس لدى مجموعات الألتراس ضمن أعراف سلوكها غير المكتوبة ومنها أيضًا عدم جواز قبول من يحاكم بتهم أخلاقية مثل الاغتصاب والزنا والسرقة وسوء السلوك تجاه الوالدين وخيانة المؤتمن ضمن صفوفها.
النشاط الرئيس لمجموعات المحبين من الألتراس في مدينة الفريق الأصلية هو الدخلة، وعلى الأخص في مقابلات الدربي والكلاسيكو ومقابلات الكأس الكبرى ضمن الأدوار المتقدمة. يمكن أن تكون دخلة أولى قبل بداية المباراة ودخلة ثانية قبل انطلاق الشوط الثاني من المقابلة. وفي الدقيقة الستين أي بعد ساعة من اللعب تُشعَل عصيّ اللهيب حتى تضفي أجواء خاصة على الملعب وتزيد من إثارة الحماس. يكون التحضير للدخلة الرئيسية قبل أسابيع بالتقاء المسؤولين الأول عن المجموعات في القطاعات ويجري النقاش حول الفكرة الرئيسة التي ستحوم حولها الدخلة وهي الفكرة التي ستُجسَّد في رسم يتكون من مشهد أو مشاهد ومن جُملة واحدة عادة تحمل رسالة موجهة إلى طرف أو أطراف معينين. تُجمَع الأموال التي ستمكن من تغطية مصاريف الدخلة ويمكن أن تكون مبالغ تساوي عشرات آلاف الدولارات. الممولون هم أفراد المجموعة ذاتها وعلى الأخص المحبون المقتدرون حتى وإن لم يكونوا من المنتمين إلى المجموعات. ولا يجري أبدًا تلقي تمويلات من مصادر أخرى لأن ذلك جزء من عنفوان استقلالية المجموعة وتحرر قرارها. وفي سياق التحضيرات يُدعَى المحبّون الذين يحسنون الرسم والكتابة إلى تنفيذ الفكرة ووضع الرسوم وكتابة الرسالة. تكتب الجملة على الأغلب بلسان غير عربي يمكن أن يكون الفرنسية أو الإنجليزية أو الإيطالية وعادة ما تتفادى الأحرف العربية التي تكون فيها انحناءات وتعاريق واستدارات تعسر على الرسم. في الجملة إحالة على معلومات تاريخية وسياسية وفكرية تستمد من أحداث تاريخية حديثة ومعاصرة على الأغلب أو من أشرطة سينمائية وكليبات ومن آثار سمعية بصرية مختلفة أخرى، وهي عادة تعرض موقفًا مشرّفًا أو معنى عميقًا للحياة وتدافع عن قيمة عليا من القيم الإنسانية. ويحتاج المُطّلع على الرسالة إلى أن يكون على اطلاع واسع وذا ثقافة عالية ومتنوعة وعالمية حتى يتمكن من فهم الرسالة واستيعاب معانيها وهو ما قد لا يحصل لأول وهلة. ويمكن أن يُتَقَصّد أن يكون للرسالة خصم أو خصوم تتمّ «مهاجمتهم».
تجسيد الفكرة برسم المشهد وكتابة الرسالة يكون على قماش بلاستيكي مقوّى يمكن أن يبلغ عشرات الأمتار طولًا وعرضًا؛ إذ يجب أن يكون مرئيًّا من مسافة بعيدة وأن يكون لوحة فنية رائقة. في أثناء تنفيذ الدخلة، وبعد التمرّن عليها قبل المباراة بأيام في جو من السرية حتى لا تكشف قبل أوانها، يسدل القماش بترتيب في الزمن وبحركات متناسقة بين عشرات الأشخاص بحيث يكون الانكشاف التدريجي للمشهد وللتعابير المصاحبة مثيرًا للفضول وللحماسة وصولًا إلى الاعتزاز. ويصاحب كشف الدخلة ارتفاع للهتافات الحماسية المعتزة بإنجازات مجموعات الألتراس. يمكن للدخلة (تيفو بالإيطالية) أن تستخدم أساليب فنية متقدمة وهي الآن تنجز بالاعتماد على التصوير وتقنيات الإنفوغراف المستخدمة للكمبيوتر، وبعد وضع مخطط إسدالها على المدارج وتحديد موقعها بدقة وبحساب امتدادها وهي عملية يبرع فيها أفراد محددون من مجموعات الألتراس. ويكن الحرص على الإتقان المثالي تقريبًا لتنفيذ الدخلة لأن الاتحاد العالمي لمجموعات الألتراس يرتب أسبوعيًّا أجمل الدخلات في الملاعب العالمية ويصدر ذلك الترتيب ويعلنه على موقعه الرسمي وهو ما يكون محل تنافس برعت فيه مجموعات عربية منها مجموعة ألتراس الرجاء البيضاوي التي حصلت على المرتبة الثالثة في ترتيب معين. وفي المعتاد يكون للدخلة محتوى سياسي وفكري واضح ومناسب للظروف القائمة وأبرز ما كان منها في الملاعب العربية كان على الأخص في علاقة بالمواجهات العربية مع الصهاينة في فلسطين أو في محيطها كما كان عليه الأمر في دخلة تونسية خصصت للتنديد بقرار ترمب نقل سفارة الولايات المتحدة إلى القدس (مُنعت مؤخرًا)، أو في تزامن مع التغيرات السياسية التي مسّت بلدانًا مثل مصر بعد الثورة، كما يمكن أن تكون ذات علاقة بأحداث داخلية مثيرة للحركات الاحتجاجية والمطلبية كما كان عليه الأمر في المغرب الأقصى خلال سنة 2017م. ومما تركِّز عليه الدخلات أيضًا ما يتواتر من مطالب مجموعات الألتراس من فتح الملاعب أمام الجمهور وعدم تحديد أعداد المتفرجين كما كان في المغرب وتونس ومصر في السنوات الأخيرة.
الدخلة بأشكالها هذه وبمحتوياتها جزء من فنون الألتراس وبحملها رسالتها يراد منها التأكيد على أن مجموعة المحبين التي تنجزها تتميز بالوعي العالي بقضايا زمنها الراهن وبمعيارية القيم التي تريد إعلاءها والالتزام بها تأكيدًا لوجودها الاجتماعي المسؤول. ولذلك يترافق في صفوف المحبين الألتراس منتمون إلى أحزاب سياسية متعارضة، وذوو قناعات دينية ومذهبية متباينة، وحاملو أفكار سياسية متقابلة مما تنبئ عنه الأعلام والرايات والصور والمعلقات وغيرها من العلامات الدالة.
انتماء خارق للانتماءات السياسية والفكرية
هذا يمكن التأكيد أن الانتساب إلى الألتراس خارق للانتماءات السياسية والفكرية والقيمية الأخرى. وبالفعل تؤكد كل المعطيات التي عرضنا أن الانتماء إلى مجموعات الألتراس ليس مجرد انتساب إلى مجموعة مُحبّي فريق رياضي ما. إنه إعلان هوياتي شبابي لمن هم في الأغلب ما بين الخامسة عشرة والثلاثين من العمر على أقصى تقدير، من سكان المدن الكبيرة أو المتوسطة ومن المنتمين إلى الطبقات الفقيرة والمتوسطة. وهو إعلان بالانتماء إلى إطار احتضان اجتماعي من خارج سياقات العمل الحزبي سواء أكان تقليديًّا أم حديثًا، ومن خارج سياقات العمل الجمعياتي والمدني ومن خارج سياقات العمل الخيري بل من خارج سياقات الحركات الاجتماعية الاحتجاجية المطلبية التي تتكاثر مظاهر تناميها على مر السنين الأخيرة في الكثير من الأقطار العربية. تتمثل الممارسات الأكثر أثرًا فيما يأتيه أفراد الألتراس في الأحياء السكنية وفي ساحات المدن وفي الملاعب وعلى امتداد الطرقات الواصلة بين مدن فرق كرة القدم في إعلان وجود اجتماعي منشق. هي إعلان عن ذلك الوجود المنشق الذي يسعى إلى تعيين مجال ممارسة اجتماعية تصر على أنه خارج مناطق سيطرة القوى المتنفذة في المجتمع من سياسة، رسمية على الأخص، ومال وإدارة بيروقراطية للفرق الرياضية واستغلال دعائي وإعلامي للرياضات الجماهيرية. وكثيرًا ما يتجسد ذلك الإصرار في رفض الدعوات إلى تقنين وجود هذه المجموعات والعمل على تعليبها في منظمات وجمعيات «معترف بها» تكون تابعة للأندية ولإداراتها وهي محاولات تكررت في تونس مثلًا على امتداد سنوات طويلة قبل الثورة. ولذلك تعيش هذه المجموعات أوقاتًا يمكن أن يكون بعضها أوقات قمع (في تونس تستعمل مجموعات الألتراس الكلمة الفرنسية «ريبريسيون») وهي تشعر بها كأنها أوقات محنة تستدعي الوقوف بشجاعة في وجهها. بهذا المعنى يتحول الفريق الرياضي إلى إطار انتماء اجتماعي يملأ فراغات الانتماءات الاجتماعية التقليدية المبنية على علاقات الجيرة ورفقة الدراسة وزمالة العمل والاشتراك في القناعة السياسية والتماثل في الإيمان الديني والتقارب في الاعتقاد المعياري والتساند في الالتزام القيمي…
إن في رسم هذه المجموعات إعلانات وجودها عن طريق الغرافيتي جنبًا إلى جنب مع إعلان العداء للخصوم الأمنيين بخاصة، عَمْدًا واعيًا إلى إعادة تقسيم فضاءات العيش الاجتماعي الحضرية والمدينية من خلال إعادة تسميتها بالإحالة إلى مجموعة المحبين ومن ثمَّ إلى الفريق وتَعْمِيدها بعلامات السيطرة ورسم حدود النفوذ فيها. وفي ذلك كسر مُبَيّت للتوزيع الجغرافي- الموقعي لمجالات الحياة الاجتماعية وهدم لتراتبيتها وعمل مقصود على إفساد تنظيمها الاجتماعي وتنضيدها الهرمي على الصيغة التي وضعتها عليها السلطات الحضرية العمومية وسطرتها السلطات الحكومية عامة. إن وجود هذه المجموعات من خلال الإعلان عنه بالغرافيتي وبالاستعراض الشارعي وفي الملعب وعلى حواشيه إعادة بناء للجغرافيا الاجتماعية والثقافية الحضرية، واقتطاع لمحيط عيش منشق يسعى إلى أن يكون بعيدًا من منال القوات الأمنية ويمتد إلى محيط ممارسة للعشق الكروي، أي إلى الملعب الذي يجري «تحريره» من القبضات المعادية مدة تسعين دقيقة. بذلك تكون الدقائق التسعون التي تستغرقها مقابلة كرة القدم زمنًا اجتماعيًّا استثنائيًّا مقتطعًا من الزمن الميقاتي المنساب تمارس فيها علامات الانتساب المُنْشَقِّ وتعاش فيها وقائع الانتشاء الاحتجاجي. وبذلك أيضًا يكون الملعب ومواقع سيطرة المجموعات في الأحياء وجدران المدينة وأعمدة جسور الطرقات فيها فضاءً تعبيريًّا اعتراضيًّا مقتطعًا من الفضاء الحضري المتصل تمارس فيها علامات الاحتجاج الغاضب وتعاش فيها وقائع كسر النمطية الحضرية المفروضة حكوميًّا.
وكلما زادت مظاهر تقطع الصلة الاجتماعية سوف تكون هناك حاجة لإعادة ملء فراغاتها من خلال مجموعات الألتراس التي ستواصل في الكثير من البلدان العربية رفضها بوعي وتصميم أن تخضع للتقنين وأن تذعن للترتيبات الأمنية والتنظيمية التي يراد من ورائها جعل الملاعب الرياضية مجالًا للتشجيع المنضبط والهادئ ومُعلّب الحماس. ليس وجود الألتراس بوصفه نمطًا في عيش حبّ كرة القدم وفي الإقامة الحيّة في العالم المعاصر ذا ارتباط باندفاعات الموالاة ونقصانها حسب نتائج الفريق وصعوده ونزوله في سُلم الترتيب. ولذلك فإن تسمية هذه المجموعات من خلال وصف أفرادها بأنهم محبو فرق كرة القدم الأكثر حماسة و«تعصبا» لا يثير إشكالًا بالنسبة إليهم. صحيح أن انتشار التسمية يعود إلى تواترها إعلاميًّا ولكنها في الوقت نفسه ذات رسوخ اجتماعي بما أنها تدلّ على صفة يتبناها المحبون ذواتهم ويقبلون بها ويمتدحون بها أنفسهم لأنهم بالضبط يتخذون من عشقهم لفرقهم علامة على ممارسة واعية للانشقاق الاحتجاجي عن نواميس المجتمع الذي يريد من خلال سلبهم لعبتهم قتل عشقهم وحرمانهم من عيْشه.