هلين سكسو.. أنثى جريحة تهاجم وتدافع بـ«الكتابة الـمتوحّشة»
على الـمرء أن يستعدّ وهو بصدد قراءة نصوص هلين سكسو (Hélène Cixous)، ناقدة وأديبة وشاعرة حصيفة، لها أعمال جليلة في حقول الجماليات والفلسفة والنسوية والتحليل النفسي والأدب واللّغات. أمام قراءاتها الحرجة لنسق الثبات والسلطة تسُوق أفكارًا تثويرية ونقدًا لاذعًا للعقل والذات والجندر. وتُغرق القارئ في صراع مع المصطلحات والمعاني الحرجة والمسترسلة في كتابتها، ويجد نفسه تائهًا بين أروقة شرحها وتشريحها. أمام «ما لا يـملك» مقابلا له أو وسيطًا لبلوغ مراميه. وهنا تكمن معضلة قراءة نصوص هذه السيدة الفذة، صاحبة مشروع كتابة برية وفاتنة زاخرة بالـمجازات والتجليات، لخليطٍ جمالي وأنطولوجي صامدٍ بقوّة في وجه ترسانة الأنظمة والأنساق التقليدية.
تتجاوز الكتابة عند سكسو اقتصاديات المعنى الواحد أو التجسيد الثابت والمستقر للأفكار والمقاصد أو المهادنة في طرح الأفكار والانطباعات. مشاركتها في سؤال الإنسان هي الجنوح بقوّة إلى هذا الفضاء كأنثى، أنثى جريحة تهاجم وتدافع ببسالة، عبر سؤال «الكتابة الـمتوحشة» غير القابلة للكسر، عن حساسياتها وعوالـمها ورؤيتها للذات والآخر، كتابتها هي انتفاضة الليونة الساخطة على الدونية والخطابات الوهمية التي تحوم حول الأنثى. يمكننا القول: إن نصوص هـ. سكسو تمثل منعطفًا جماليًّا بارزًا في النظرية النسوية ما بعد الحداثية في فرنسا، فالمنقلب الذي طرأ على تلك النظرية النسوية بعد نصوصها يستحق الالتفاتة إليه والتوقف عند بيانه، «فالحب من أول نظرة» هو ما يمكن للقارئ أن يحكم به على نصوصها التخييلية والنقدية. كتابة على تخوم الغياب، برونق شعري يعكس ذوقًا رفيعًا ونباهة لا تحاكي التقليد بقدر ما تصرف نظرها عنه، لتفجر كل ما هو مقفل ومـحجور عليه، الكتابة عندها فعل طارئ وهي تسجل تدوينات الغياب والتهميش، كتابة هـمها الوحيد هو الاختلاف وتسجيله كأثر، فكًّا لعقدة الذكورة المهيمنة على الأنـماط الاجتماعية والصور الثقافية، ليس قضيبيًّا فحسب بل فكريًّا وحضاريًّا، تحريرًا لرمز الأنثوي وفكًّا لأسره التمثلي، وفتحًا لفكرة الاختلاف الجنسي، معيدة صياغة أحلام الـمرأة المطمورة في سجن العقل الاجتماعي البائس والمتحجر بين عقدتي: «البظر والقضيب». يعرض هذا المقال تجربة «الكتابة» والولادة الأنطولوجية الجديدة للأنثى وهي تشارك في هندسة متعددة لعوالم الاختلاف. فالكتابة ليست مجرد آلية وصفية أو توضيحية، بل تخييلات أشكال وصور جديدة للحياة والوجود.
هلين سكسو.. سيرة جريحة
أبصرت هيلين سكسو النور في مدينة وهران الجزائرية يوم 5 يونيو 1937م، وُلِدت لعائلة يهودية من أب يشتغل في مهنة الطب (الدكتور جورج) وأمّ لا تبتعد عن ذلك كثيرًا وهي قابلة (آف كلاين). وقضت مراحل طفولتها ومراهقتها في الجزائر بين مدينتي وهران والجزائر العاصمة (حي كلو- صالومبيي، الـمدينة حاليًّا)، وهي لا تزال تعبر في كتاباتها عن الحنين الجزائري وملامسة جروح الذاكرة. هلين سكسو، تلك اليهودية المجرية التشيكوسلوفاكية الألمانية التي احتكت عبر حب الطفولة والمراهقة بالآخر: «العرب»، عاشت أثناء تعليمها الثانوي بالجزائر تجربة الغربة الوجودية؛ إذ كانت اليهودية الوحيدة في الصف لتعيش شكلًا آخر من العنصرية في باريس أثناء السنة التحضيرية الثانية لامتحانات دخول الجامعة؛ حيث كانت الطالبة الوحيدة من الشمال الإفريقي. جعلتها هذه الفضاءات تحس بالغربة والإقصاء على أساس اختلاف جنسي، أو إثني أو ثقافي، وهو ما جعل ذاتها ترتحل من منطق صوب آخر ومن طبقة نحو أخرى، متحسسة الخدوش التي تتركها معايير التفرقة وسياسات الاستلاب. عادت سكسو للتدريس في إحدى ثانويات الجزائر عندما تأهب زوجها بيرغر لتأدية الخدمة العسكرية سنة 1959م. هناك التقت جان جاك مايو؛ إذ اشتغلت تحت إشرافه على أطروحة جامعية حول جيمس جويس وجماليات الـمنفى. سافرت سنة 1962م إلى بوردو حيث تحصلت على منصب أستاذة مساعدة في الجامعة. في باريس جمعتها الأقدار بصديق يشترك معها في الهم الفكري والجرح الغائر للتمزق الهوياتي والأصل الـمبعثر، جاك دريدا، فيلسوف التفكيك الشهير، وهو أيضًا مفكر من مواليد الجزائر كان له شأن مهم في خلق حراك فلسفي في فرنسا وأوربا وأميركا فيما بعد.
الأدب والـمنفى
اهتمت هيلين سكسو بشكل استثنائي بأدب جيمس جويس، فخلقت لنا عالـمًا هجينًا بين الأدب والفلسفة. باشرت سكسو بكتابةٍ ذاتِ عطرٍ نسوي خالص، وولجت عالم الكتابة الإبداعية بما يشبه أسلوب السير الذاتية الممزوجة بالخيال، ألهمت الكُتّاب والنقاد بمسرحياتها ورواياتها وخواطرها، إذ برزت بقوة عبر أعمال أدبية وتخييلية مثل: «اسم الإله» (1967م)، أو «الجسد الثالث» (1970م)، أو مع «أحلام امرأة متوحشة» (2000م) وصولًا إلى «هوميروس ميت» (2014م). وقد تـميزت بأسلوب جديد في الكتابة، يندرج في مصاف تيار ما بعد البنيوية، فناقشت المباحث الأخلاقية ومزجتها بالآفاق الأنثوية. وهي تُعد سبّاقة إلى عرض أول مشروع دكتوراه حول الدراسات النسوية في أوربا، لتقدم مَفهَمة نسوية مستوحاة من تفكيكات جاك دريدا، سواء عبر «الـمولودة الجديدة» (1975م)، أو في «ضحكة ميدوسا» (1975م)؛ واصلت في الثمانينيات مضاعفة الاهتمام بحقل الاختلاف الجنسي في السرديات الثقافية محيطةً نصوصَها النظرية والفلسفية بشعرية خاصة توفر لها رؤى جمالية وانصهارًا في آفاق السياسة والأخلاق. وقد استعارت في محاولاتها النقدية المثيرة للجدل شتى الوسائل ومختلف الكنايات والاستعارات لتحافظ على كتابة تواقة إلى اللانهائي واللامحدود، بأسلوب مختلف في زفراته الـمرجئة وصمته الصبور.
لذلك كانت كتاباتها فلسفية متشظية محمومة بقلق السؤال النسوي وهاجس الهوية الأنثوية كما نجده في «كتاب بروميثيا» (1983م)، أو «خطيبة الإغراء اليهودية» (1995م)، مركّـزة على ربط الصلة بشكل حيوي وإستراتيجي بين الخيالي والشعري والرمزي والمبهم مولدة عملًا مركبًا يأخذ بحسبان كل هذه الحقول الـمتقدة بنيران الحيرة والشك والجمال والصوفية. قراءات يصطدم بعضها مع بعض، في محاولة مستحيلة ومـمكنة للقبض على الـمعنى الهارب من قيود الحدود، مفككة الاعتراضات الـميتافيزيقية التي تسيج الاختلاف الجنسي، إعلانًا منها عن الانفلات من كل محاولة للتقييد أو التحديد النظري جاعلةً من التفكيك إستراتيجية أو مهارة تعبث بالنص وتفجّر طاقات الخيال وفانتازيا الحكي، بحكم أن طبيعة أعمالها لا تتحيز للمؤسس والثابت ولا تشتغل على تأكيده، كتابتها عولت دومًا على نطاق الدخيل أو حقل الغريب.
شعرية الكتابة وصدى الصوت النسوي
تكتب سكسو بشكل شاعري وشعري عن أعماق الوجود الإنساني، لترسم بتجريد فسيفسائي أفكارها التي تنضح بالاهتزازات والاختلافات لبلورة هموم الـمؤنث والإصغاء إلى شجيب الصوت الـمطموس. تقتنص سكسو فرصة ترجمة النوازع الإنسانية المختلجة بالحزن والفجيعة والفقدان إلى طاقات لسانية متفجرة ومكثفة دلاليًّا بلهجات عميقة تختلط فيها الحياة بالأدب والفلسفة كما نراه جليًّا في كتابها «آه! صرخة الأدب» (2013م). إذْ أعربت مرارًا عن كفاحها للنقاش حول المنفى أو السجن الذي تقاومه عبر الكتابة سعيًا للتحرير، وهو ما دعاها مثلًا إلى اقتحام مواطن جيمس جويس واختراق حدوده بحكمة وفنية عالية قصد التحليل والتقصي. فمنذ اشتغالها على فكرة المنفى عند جويس في أحد أهم أعمالها النقدية سنة 1968م، وهي تكتب عن أناها الضائعة بين ضفاف الـمتوسط. سكسو ابنة مدينة وهران الجزائرية، تصغي في حروفها ونصياتها إلى ذلك الشرخ الهوياتي الذي يفصلها عن الجزائر، «مُخلِصة لِذَاتِــــها قبل لَذَّاتِــــها»: ذاتُها التي تستوطن تحت مسامات الجلد، بحثًا عن أنطولوجيا ضائعة في شسوع الذاكرة الطفولية، لتنسج من السرد والحكايات عالـمًا آخر يمكن العيش فيه، صالحًا للأحلام ومعبرًا لتجاوز الآلام، جاعلة من جسر اللغات وسيلتها لحوار الألسن وبلبلتها وتفاهمها. سكسو التي حظيت بخليط مهم من اللغات، جَعَلها وريثة محظوظة تتقن أكثر من لسان لتكتب بأكثر من يدٍ، لذلك كان قَدَرُهَا الانتقال من لغة إلى أخرى ومن عالم إلى ثانٍ، وهو ما جعلها لاعبة حاذقة تتلذّذ بتغيير الكلمات وبعثرة الأصوات خلقًا للدهشة التي أخذت تواجهها وتكتب عنها بعمق، عبر لغة موليير، لغة الثورة، بلغة واحدة، بعنف ولطف، بقسوة ولين.
هي تلك هلين سكسو، الـمصابة بلعنة اللعب أو حيوية الـمرح بالأساليب والـمزج بالكلمات لتخلق لنا أنـماطًا منزاحة لا تؤمن بمجانية الأداء، وهو ما صدّر لنا شاعرة وجودية غير عادية تنحت أشعارًا ومسرحيات تستحق الإعجاب مثل «التلميذة» (1971م) أو «بورتريه دورا» (1975م)، في أعمال تتجرأ على قول ما لا يجرؤ عليه القول، هي جرأة الصراخ داخل الأدب، لتعكس الكتابة الأنثوية لديها معاناة الـمرأة في صمت وكبت واضحين، لتعكس مدى الإقصاء الذي تتعرض له في الحياة وتفرغه في شكل صراخ ثم بكاء فكتابة.
تشظيات الـهوية.. النص والـجُرح
يبدو أن الخلفية الثقافية والفلسفية والشعرية عند هلين سكسو تلتحم بالقبلي، بسيرتها الحياتية كيهودية وُلدت في الجزائر (المستعمرة الفرنسية)، والاطلاع على تلك الكليشيهات يوثق جيدًا لفهم طروحاتها حول «الكتابة والحياة»، التي تراها بعيون «أنثى»، لتكون بؤرة محورية لمشروعها الخيالي الحاد والحرج في حقول النسوية والمسرح والشعر والنظرية الأدبية والفلسفة. لهذا اختطّت عبر أساليب كتابتها نوعًا من الدقة والحذر، لتلعب بـمهارة عالية فوق الحبال موظفة لغةً تشتعل بالتناقضات وعواقبها التي لا تعد ولا تحصى في الجمع بين كينونة «الـمرأة» وكينونة أن تكون «يهودية». فمن التحريف واللعب بالحروف، تباشر سكسو استجواباتها لجذور التصنيف الثنائي لطبيعة الذات، لتعمل على تفكيك الحدود التي رسمتها تلك الطبيعة سياسيًّا وأخلاقيًّا، معالجةً قلق الأنثوي وقضاياه الحاسمة إنسانيًّا، بكثير من الشاعرية التي تشع بريقًا في أسلوبها، أو بأيادٍ مرتعشة ودماء تتدفق بسرعة إلى أوردة النص.
خاتــمة
تبنّت سكسو الكتابة النسوية باحثة عن جدواها، وهي تسكن الـممارسة التي لا مكان لها؛ فكلما غرقت في الكتابة عن «الأنثى» تجاوزت بشعرية وحميمية حدود المكان أو اخترقت قيود الزمان. الكتابة أنثويًّا عن الأنثى لا تتم إلا والرعشة تتحسّس أعضاءها كما قالت سكسو. فالكتابة الأنثوية تجري في مكان آخر، مؤجّل ومرجأ دومًا. إن اللانهائية هي طموح الكتابة الأنثوية عبر خطاب لا يمكن تصنيفه، متعذر توصيفه، يتغير مرات عدة في اللهجة واللغة والنوع.
الـمرأة، لِـمَ تكتب؟ وأين تكتب؟ وإلى أين؟ هي لا تعرف، لَـم تكن لتعرف أيّ شيء، «في منطقة ما من الجسم أنا لا أعرف أين هي»، كما قالت هلين سكسو. في أهبة وتسارع لتكون الـمرأة مكتوبةً الآن وبشكل مستعجل، كأنها حاجة ملحّة لا يمكن الاستغناء عنها.
مصادر الـمقال:
Hélène Cixous:
– L’Exil de James Joyce ou l’art du remplacement (Grasset, 1968).
– La Jeune Née, en collaboration avec Catherine Clément, (U.G.E., 1975).
– Le Rire de la Méduse (L’Arc, 1975 – rééd. Galilée, 2010).
– La Venue à l’écriture (U.G.E., 1977).
– Entre l’écriture (Des femmes, 1986).