محنة التقدم بين شرط الإلحاد وبين لاهوت التحرير

محنة التقدم بين شرط الإلحاد وبين لاهوت التحرير

هذه المقالة ليست، قصدًا، دفاعًا عن الدين، مثلما أنها ليست،‎ قصدًا، دفاعًا عن آمِر النهضة أو التقدم، أو مرافعةً مضادة ‎للإلحاد. فذاك كله لا يطلب عندي هذا القول بعينه. ومُحصّلُ‎ الأمر فيها هو أنها خطاب ينطق بوجه من وجوه مبدأ العدل، وإبانة‎ عن خلل معرفي في مركب المثقف العربي التنويري الضارب في ‎«الحداثة المتأخرة».

‎ شطحات العقل المأزوم

نشكو منذ أدهر قريبة، وبعضها بعيد، من‎ عللٍ شتى، ونطلب‎ شيئًا اسمه النهضة، زعم بعضهم، ممن هم على شاكلة الروائي ‎واسيني الأعرج، أنها مستحيلة! أما المتفائلون فعلّقوها على‎ الحداثة والتنوير، ووقفوا من ذلك عند مبادئ «عاقلة»، كالحرية والعدالة والكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان، وغير ذلك من‎ القيم التي تُعزى، بدقة أو بخفة أو بتوهم، إلى التنوير والحداثة، ‎وذلك في غياب تام للمقاربة وللفهم النقديين، وفي استقالة‎ مطلقة قبالة قيم الغرب الليبرالي. وفي الأحوال‎ التي تجذرت فيها (الاستقالة) لدى النخب الثقافية بدا ‎كأن المشهد يفضح حالة (خصاء منهجي) تكشف في ثلة من الأوضاع -الحدية- القطيعة مع التراث‎ التاريخي (عبدالله العروي)، نقد التراث (عصابة ‎تکوين)، تجديد الخطاب الديني، وامتهان المدونة الحديثة والفقهية (إسلام البحيري)، تحقير وسب المقدمات والرموز الإسلامية (يوسف زيدان)، التنكر والامتهان للقضايا القومية الصميمية، وبوجه خاص للقضية الفلسطينية (إبراهيم عيسى والميديا/ الغوغائية المتواطئة)، الجراءة المسرفة في الجهر الفج بالإلحاد وتحقير عقائد المؤمنين (فراس السواح، الذي عرج إلى السماء وتحقق بأم عينه من أنه لا وجود للجنة وللنار!)، وزعم مغالطيّ جانح أن «الإلحاد شرط للنهضة» (أدونيس وآخرون).

واسيني الأعرج

هذه القضية الأخيرة تهمني. لا لأنها صادرة بشكل صادم عن شاعر ناقِم ينتحل لنفسه، بقدرة قادر، نعت «المفكر»، وإنما لأن مثقفين كثرًا، عربًا، تتلبسهم اللوثة نفسها. وقد أزعم أن الذي يغلب على مثقفي «الحداثة الراديكالية» أنهم ينتحلون هذا المذهب، لكن لم يذهب الهوى بأي منهم إلى أن يطلق هذه «المغالطة»، بِسفهٍ منقطع النظير، في أرض كانت منذ البدء مبدأ لأعظم تقدم تاريخي، وكان «فعل الإيمان» لا/ ارتكاسه الإلحاد، هو حاكم هذا التقدم.

بالطبع، ليس علينا أن نلقي بالًا لمثل هذه القضية حين ينطق بها شاعر؛ لأنها، بما هي قضية أنطولوجية- عُمرانية، تتجاوز أفق الشاعر وكينونته، لكن يتعين أن يكون لنا فيها شأن آخر إذا ما تمثلناها خارج حدود شطحات العقل المأزوم، وقدّرنا أنه يراد لها أن تكون قاعدة من قواعد الحداثة والتنوير والواقع.

‎والحقيقة هي أن جميع الذاهبين، في سؤال النهضة، هذا المذهب، يعوّلون في تسويغ المذهب على واقعتَيِ الحداثة والتنوير. لكن الذي يغلب على هؤلاء هو أن المعاني الحقيقية للحداثة والتنوير تظل غائبةً، قصدًا أو قصورًا، عن مدى مداركهم. كما أن جنوحهم إلى الاستمتاع اللّاذّ والاستفزاز القبيح بمديح الإلحاد في ذاته، «نكايةً» في المؤمنين، يخفي عيوبًا قد تكون عند بعضهم تكوينيةً أو «جِينية».

وبدءًا، ما الإلحاد؟ بكل بساطة ووضوح هو، فلسفيًّا، إنكار وجود «علة شخصية» فاعلة، مستقلة عن العالم، عاقلة، مبدعة أو خالقة لهذا العالم. حين تكون هذه العلة «مُفارِقة»، أي ليست هي العالم، تكون في حدود: «فلسفة في الخلق»، وحين تكون هذه العلة «محايثة» أو «باطنة» في العالم تكون في حدود فلسفة في «وحدة الوجود»، مباينة كل المباينة لمبدأ الخلق، أي الخلق من العدم، ونكون في الآن نفسه خارج حدود ديانات الوحي، التي تعلّق «الإيمان» على عقيدة الخلق أو الإبداع لا على عقيدة المحايثة ووحدة الوجود. وذلك يعني أن «فعل الإيمان» الديني الذي هو النقيض الجذري للإلحاد، يستند إلى مبدأ تعليق وجود العالم على إرادة «شخصية» مفارقة، عاقلة، فاعلة، خالقة، لها بالإنسان علاقة. حين تتدخل هذه العلة المفارقة في العالم المباشر، الشاهد، أي بالإنسان، يتبلور الدين بما هو «طريق للحياة».

عبدالله العروي

في تجربتنا التاريخية لهذه الطريق، نشهد أشكالًا متباينة تتشخص في الخيار العملي الأخلاقي، أي في مقولة الفعل. أبرز هذه الأشكال اثنان. طريق أول هو طريق الفعل والتدخل والصنع والنذير، وطريق ثانٍ هو الطريق الارتكاسيّ، الانفعاليّ، السلبي، القابل، الذاتيّ، السكونيّ. الأول فاعل صانع مبدع، الثاني منفعل سكونيّ. الأول عقليّ وعمليّ منخرط في العالم، الثاني صوفيّ منحصر في الذات، ارتكاسيّ. يتبلور الأول في شكل إيجابيّ فاعل للدين، ويتشخص الثاني في شكل للدين سالب، طارد، انعزالي «ميثيّ». في حدود هذا الاستقطاب يتعين وضع معنى الدين ودلالته وقيمته في سؤال النهضة والتقدم، وفي فصل القول في التمييز بين الدين بما هو حافز على النهضة والتقدم، وبين الدين بما هو مضاد للنهضة والتقدم. في حدود هذه الإبانة ينبغي معاينة دعوى الإلحاد بما هي شرط للنهضة أو التقدم.

وذلك لا يتحقق، أولًا، إلا بالاحتكام إلى المعطيات الوضعية التاريخية، لا الأهواء والخيارات أو التفضيلات «القَبْلية». ولأن هذه الدعوى أُطلِقت في حدود الفضاءات العربية التي يحتل فيها الدين، دين الاسلام على وجه الخصوص، مكانة مركزية، فإن التحقق من قيمتها ودلالتها محكومان قطعًا بمعاينتها في حدود التجربة التاريخية لهذا الدين وفي المنطوق النظري والعملي له.

التجربة التاريخية للدين

واقع الحال هو أن التجربة التاريخية العربية- الإسلامية لا تحمل في هذا الشأن الدلالات نفسها؛ إذ هي تتقلّب بين أشكال متعددة من التشخص النظريّ والعمليّ. في مبدأ هذا التقلّب وفي الوضع التأسيسيّ للدين، وفي التمظهرات العملية له، مثَّل الدين، دين الإسلام، انقلابًا جذريًّا في الوجود العربي في التاريخ وفي التقدم العربي والتحول من الحالة القبلية الأسطورية إلى الحالة الإنسانية العالِمة، حالة الأُمة والحضارة. كان ذلك «تدخلًا» فاعلًا صانعًا مبدعًا. لم يكن مجرد حشد من المعتقدات التعبدية والروحانية الخالصة، وإنما كان «لاهوت تحرير» إنساني شامل انطوى معنى الألوهية فيه لا على خالص الحياة الروحية المعلقة في فضاء الميتافيزيقا للصوفية المتمترسة في أحوال المؤمن الذاتية الخلاصية، وإنما على عملية «غزو حضاريّ» وتحرير من أوهام الوثنية والأهواء والخرافة والسلطات الزائفة، أي نزع غلائل السحر عن العالم وبناء نظام العلم والعقل والقانون والإبداع والخلق والفعل والحرية، أي تفجير الطاقات النظرية والعملية للمؤمنين الجدد، وإعداد هؤلاء المؤمنين لبناء عالم حضاريّ جديد مثّل غزوًا روحيًّا وماديًّا وتمدينيًّا كونيًّا وأدرك مداه في العصر العباسي الثاني مرسلًا وجوهه وظلاله إلى جميع العوالم التي عرفها الكون المعمور. كانت العلوم النظرية والوضعية، والفنون والصنائع، والآداب، وفنون الحياة الجميلة المفيدة والفتوحات، بعض مظاهر التقدم العظيم الذي تحقق في حدود المشروع الديني التأسيسي الذي خرج من أعطاف «لاهوت التحرير».

بيد أن الوضع التأسيسي للدين وامتداداته في التجربة التاريخية وفي التفاعلات والاختلالات والتدافعات الداخلية والخارجية والمسَتصْعَبات العمرانية، قد انتهى في واقعه الأعم إلى تمثّلات للدين مضادة للإبداع والفعل والحرية. وهذه التمثلات هي التي تحكم في زمننا الحديث «الوضع الديني» وحالة «فعل الإيمان» وتمظهر الدين بما هو «أيديولوجيا ميثّية» فاقدة للحياة والإبداع والفعل.. بل واقعة في «رؤية سحرية» يتمظهر فيها الدين بما هو نشاط تعبدي شكلاني طارد يستكين فيه المؤمن إلى المهانة والاستبداد والذل وغياب الكرامة والنبل، ولا يطلب إلا الفوز بحُسْنيَيِ النفع الدنيوي والجنة. بذلك كفّ الدين عن أن يكون مبدأ حرية وتحرر من القيود والأوضاع التي خرج عليها في مبدأ زمنه التأسيسي؛ أي أنه كفّ عن أن يكون «لاهوت تحرير».

أدونيس

بالطبع ذلك لا يعني أن هذا الوضع مطلق قطعيّ؛ لأن ثمة ما ينبئ أو ما يُبين عن أن خروجًا عليه ينجم وأن اختراقات له تحدث هنا أو هناك. والذي أذهب إليه في هذا الشأن هو أن العالم العربي بات مسكونًا بقدر عظيم من الأهواء والأوهام، وأن مقالات الأنظمة «الكلامية» التقليدية والاجتماعية والسياسية الظافرة عززت الفلسفة التاريخية الضاربة بعمق في الجمود على الموجود والمستغرقة في الفعل والطاعة المضادين للتغيير والتقدم.

هذه الحالة التي وقف نظري عندها هي التي تسوّغ لمن ينتحلون «الحداثة المتأخرة»، وربما الحداثة بإطلاق، أن يتعلقوا بالاعتقاد بأن الدين مناهض للتقدم أو بأن الإلحاد شرط للنهضة، وبأن النهضة مستحيلة أو غير ممكنة في فضاء الإيمان، وأن الحداثة والتنوير تقضيان باختيار الخروج من الإيمان وتمثّل الإلحاد للنهوض والتقدم.

مغالطة صريحة

إن التمييز الذي انطوت عليه عروضي السابقة بين الدين بما هو «لاهوت تحرير» وبين الدين بما هو أيديولوجيا «ميثية»، سكونية، سالبة، سحرية، عدمية، يشي بوضوح بأن مقالة الإلحاد، بما هو شرط للتقدم، لا تستقيم إلا في حدود تصورات سالبة عدمية للدين لا في حدود الدين بما هو لاهوت تحرير. ومعنى ذلك أن الزعم بأن الإلحاد شرط للتقدم ينطوي على مغالطة صريحة. هنا يتعين وضع السؤال التالي: ما الذي، في طبيعة الإلحاد، يسوّغ الزعم بأن الإلحاد شرط للتقدم أو للنهضة؟ بالطبع، يمكن القول: إن الإلحاد ينطوي أساسًا على موقف دُنْيويّ، أي على رؤية تحصر وجود الإنسان بواقعه الزمنيّ المباشر، الواقع العابر الزائل الذي لا يملك المرء شيئًا آخر سواه، وليس أمامه إلا ما يمكن لهذا الواقع أن يقدمه من معاني الرضا والسعادة والاكتفاء والمتعة الذاتية الخالصة التي يمكن أن تحفز على الفعل والإنجاز والإثمار والتحسين الدنيوي الخاص، أي أن الإلحاد يقترن اقترانًا عضويًّا بمبدأ اللذة الأبيقوريّ، وهو مبدأ ذاتي فرداني يطلب سعادة الفرد وخلاصه، لا سعادة المجتمع أو الوطن.

فراس السواح

أي أنه، من هذه الجهة، لا يطلب «تقدمًا اجتماعيًّا» أو «نهضة» شاملة، وإنما هو يطلب «تقدمًا ذاتيًّا». وبهذا المعنى هو لن يكون مبدأ لما جرينا على أن ننعته بالنهضة أو التقدم، وإنما هو مبدأ للسعادة الدنيوية الذاتية الخالصة. وأعظم من ذلك وأجلّ أن التقدم أو النهضة أو الإصلاح معانٍ ومواقف وأفعال، وكل ذلك يطلب الإقدام والتعلق بمبدأ إنكار الذات والجنوح العميق، بل الجذري، إلى «التضحية». وليس قبول هذه الغائبة مما يمكن القول: إنه ميزة من مزايا الشخص الملحد، على الوجه الأغلبي العمومي. والحقيقة هي أنه إذا أقدم هذا الشخص الملحد أو ذاك على «فعل تضحية» -وذلك ما تشهد به أحوال كثيرة- فإن معنى الإلحاد هنا لن يكون هو المعنى الذي يثوي خلف هذا الفعل، وإنما معنى آخر يمكن تفسيره في فضاء الكينونة العميقة لذات الفاعل.

لكن هذه الإبانة تطلب إبانة أخرى ترد الزعم بأن الإلحاد شرط للتقدم أو للنهضة؛ ذلك أن هذه الدعوى تنطوي، عند الآخذين بها، على الاعتقاد بأن الإلحاد شرط للنهضة، وأنها تتموضع في موقف يقيم صاحبه علاقة ضرورية بين النهضة المشروطة بالإلحاد وبين واقعتي التنوير والحداثة. فهي قضية تستقي مشروعيتها، عند الآخذين بها، من أنها وجه رئيس من وجوه التنوير والحداثة، وفلسفة التنوير هي التي يعتقد أصحاب هذه القضية أنها تؤسس الأطروحة. والتنويريون الحداثيون الراديكاليون هم الذين يطلقون أقاويل من هذا الضرب. لكن هل التنوير والحداثة يفرضان أو يفترضان فعلًا أو حقًّا هذه الأطروحة؟ لننظر ما التنوير؟ وما الحداثة؟

خروج الإنسان من قصوره

في حدود «تاريخ الأفكار» استقر القول على أن الحد الذي وضعه (إيمانويل كانط) للتنوير هو الحد المطابق للمصطلح. والتنوير في تحديد (كانط) هو «خروج الإنسان من قصوره الراجع إليه هو ذاته»، أي القصور الذي هو، أي الانسان، المسؤول عنه. والقصور هو عدم قدرة المرء على استخدام عقله دون قيادة العقل له. وإذا لم يكن سببه غياب العقل فإنه سيكون راجعًا إلى غياب العزم والجرأة في استخدامه دون قيادة الآخرين، أي أن مَرَدَّ ذلك كله إلى الكسل والجبن وغياب الجرأة والانقياد إلى سلطة خارجية والاستسلام إلى قيود تعزز القصور الدائم. لكن التنوير الذاتي والخروج من القصور ممكنان، بل إنهما مُحَتمّان إذا كان المرء متمتعًا بالحرية، يفكر اعتمادًا على نفسه لا على أوصياء عليه. والحرية الضرورية هنا، القمينة بتحقيق إصلاح حقيقي هي «الحرية الأقل ضررًا»، وهي استعمال العقل في كل الميادين بروية ودون الخضوع إلى «الطاعة» المقيدة للحرية؛ لأن تقييد الحرية يعوق التقدم في التنوير (كتابي: «معنى الأشياء»).

إيمانويل كانط

ومُحَصّل الأمر في معنى التنوير هو أنه يتقوّم بثلاثة مبادئ أساسية: العقل والاستقلال الذاتي والحرية. هذا هو الوجه الحقيقي للتنوير. لا شيء من هذه المبادئ الثلاثة يفرض القول بالإلحاد. لا العقل، ضرورةً، ولا الاستقلال الذاتي فعلًا، ولا الحرية إطلاقًا؛ إذ كل مبدأ من هذه المبادئ يفتح بواباته على الإيمان، مثلما يفتحها على اللاأدرية، أو على الإنكار، وذلك في حدود المعطيات الذاتية أو الشخصية لذات الإنسان الذاهبة إلى الإيمان أو إلى غير ذلك. وفي حدود هذه المطالعة يتعين علينا أن نُنَبِّه على أن فيلسوف التنوير، (كانط)، كان مؤمنًا ولم يكن ملحدًا، أي أن «العقل المستنير» قاده إلى الإيمان لا إلى الإلحاد.

صحيح أن «العقل النظري» لم يساعده على إدراك يقين الإيمان، لكن «العقل العملي»، زوّده بهذا اليقين وأنار له وجه الحق في المسألة. ومُحَصّل ذلك أن التنوير، وفقًا لعناصره الجوهرية، لا شأن له بالإلحاد جوهريًّا وعلائقيًّا وضرورةً. ويتبع ذلك التسليم بأن تعليق النهضة أو التقدم على الإلحاد هو دعوى هوائية زائفة.

لكن قد يقال: إن «الحداثة» نفسها، لا مطلق التنوير، هي التي تفرض هذه الدعوى وتشهد بها. فهل الحداثة تفرض حقًّا مثل هذه الدعوى؟

مفاتيح الحداثة التسعة

الأقوال في الحداثة كثيرة لا عد لها ولا حصر. وكلٌّ فيها يغني على ليلاه! لكن القول الفصل فيها، القول الذي يمكن اعتماده والموثوق به، هو القول الذي أبان عن حدوده الأستاذ الفيلسوف (جان- مارك بْيُوْت) في كتابه «مفاتيح الحداثة التسعة». والمفاتيح التي أبان عنها وفصّل القول فيها هي: الحرية الفردية، المساواة بين الأفراد، العقل في خدمة الهوى، أسبقية أو أولية العمل على الحكمة، والنبل على الدعاء (الصلاة)، أولية الحب على الإنجاب، أولية السوق على الجماعة، الديمقراطية التمثيلية نموذجًا جديدًا للنظام السياسي، أولية الأمة على الدين، الدين قضية شخصية. لا شيء من أي من هذه المفاتيح ينطوي من قريب أو بعيد على معنى الإلحاد. أي أن الحداثة نفسها غير ذات صلة جوهرية بواقعة الإلحاد.

جان مارك بيوت

وقصارى ما يمكن الوقوف منها على أمر ذي علاقة بالإلحاد وبالإيمان هو تقديم الدنيوي على الديني، وردّ الدينيّ إلى حدود الفضاء الشخصيّ أي إلى العلمانية، لكن العلمانية في ذاتها -وبما هي استقلال للعقل الإنساني في وضع النظم والشرائع الاجتماعية والسياسية، وإقامةُ علاقة فصل أو حياد بين الدين والدولة ومؤسساتها القانونية- لا تعني إطلاقًا الإلحاد بما هو إنكار للألوهية والدين. ثمة بكل تأكيد علمانيون فاقدون للإيمان، لكنْ ثمة أيضًا علمانيون مؤمنون، لكن تمثّلهم للإيمان يظل تمثلًا شخصيًّا ولا يتجاوز ذلك إلى التدخل في طبيعة النظم السياسية والاجتماعية والتشريعية للدولة.

ومُحَصّل القول هنا هو أن الحداثة لا تطلب، إثباتًا أو نفيًا، هذا المعنى أو هذا الموقف الذي هو الإلحاد. من أين تأتي إذن الدعوى العريضة، المغالِطة، دعوى تعليق النهضة أو التقدم على ضرورة الإلحاد؟ هي ليست، في حقيقة الأمر، دعوى عقلية- ميتافيزيقية أو فلسفية أو عُمرانية- وهي ليست دعوى مؤسسة على حس نقدي وضعي، أو على محاكمة منطقية ذات علاقة بالواقع الشاخص. وتعليقُها على التنوير وعلى الحداثة محض تضليل وخداع. وكذلك هي ليست تمثلًا ضاربًا في العلمانية الغربية نفسها أو في مطلق التحليل العلمي.

هي، وفقًا لتعبير (أرسطو) القديم، لكن السديد، «قول شعري». و«القول الشعري» في طبيعته، «قول كاذب»، «استِهامِيّ» وهوائيّ. وإذا كان ينبه على شيء ذي بال، فإنه ينبه على أنه لا ينبغي للشعراء والروائيين وأضرابهم أن يتحولوا، بأهوائهم وأوهامهم واستيهاماتهم، إلى مفكرين وفلاسفة، ويخوضوا في قضايا تعجز أحلامهم ومداركهم عن رؤيتها بوضوح وحكمة ونزاهة وحُسْن طوية.

مونتريال 24/8/2024م

الوعد الليبرالي.. أخلاقيًّا!

الوعد الليبرالي.. أخلاقيًّا!

في الاستخدام الجاري، في حياتنا العربية اليوم، يَشي مصطلح «الليبرالي» بجملة من المعاني والصفات التي تلحق بمن يشار إليه بهذا النعت. فالليبرالي هو ذاك الفرد أو الشخص «المتحرر» من علائق المجتمع التقليدية، ومن القيم «البالية» ومن التراث والتاريخ السالفين، ومن الشكل الدينيّ «المحافظ» ورسومه الجامدة. وهو إنسانٌ متجذّرٌ في الوضعيّ الآنيّ العابر، منفتحٌ على المستقبل، يؤثِر حياة بلا قيود اجتماعية ضاغطة، ويجنح إلى حياة المرح والمتعة العارضة والسعادة المشخصة المباشرة، ويألف التعدد والتحوّل والخفة في العلاقات العاطفية، والسيولة والسعة في العيش وفي الفراغ. وذلك في الغالب الأعم. ثم إنه في شخوصه الاجتماعيّ، وإذ ينأى بنفسه عن «العامة» ويلتحق بجماعة «المثقفين»، يُبدي ذاتًا تطلب الفرادة والتميّز وتسبغ على نفسها مزايا ليست هي ما يغلب على «القطيع»، وفي حالات كثيرة تُظهر قُبالةَ الآخر لا معاني الاختلاف والتميّز فقط، وإنما أيضًا معاني الإنكار والاحتقار والاستعلاء. وذلك في الغالب الأعم أيضًا.

لكن الليبراليّ، في الاستخدام الاصطلاحيّ، لا يعني إلا أشياء يسيرة من هذا كله وسواه؛ لأن المصطلح هنا يصبح قرينًا لمذهب رئيس من مذاهب الفلسفة الاجتماعية – السياسية المعيارية الحديثة، مذهب تبلور على وجه الخصوص واشتد عوده في القرن الثامن عشر، واقترن بالحداثة وفلسفة الأنوار والفلسفة النفعية، هو المذهب الليبراليّ أو الليبرالية.

في حقل القيم الأخلاقية

ينتمي المذهب ابتداءً إلى الفضاء الحضاريّ الغربيّ، لكن الظفر الغربيّ الكوني حمل المذهب إلى كل الفضاءات الأخرى. ومن ذلك ما ظهر في ثقافتنا العربية منذ ما يدعى «عصر النهضة» في القرن التاسع عشر وامتد إلى أيامنا. وما ظهر منه عندنا يشبه، على وجه التقريب، جملة ما تشكل عليه في الغرب، أي الأشكال الرئيسية الثلاثة: الليبرالية الاقتصادية، والليبرالية السياسية، والليبرالية الاجتماعية.

لا أقصد في قولي هنا الخوض في هذه الأشكال على سبيل الإبانة والعرض والتحليل، فذلك مطلب يمكن إدراكه، في حدود نَظَر آخر، بالرجوع إلى مصادره ومظانّه وأدبياته المتوافرة في غير مكان. وما أقصد إليه هنا قضية تتعلق، على وجه التحديد، بما يحمله «الوعد الليبراليّ» للإنسان، على وجه العموم، ولجماعتنا العربية على وجه الخصوص، لا في الحقلين الاقتصادي والسياسيّ، وإنما في حقل القيم الأخلاقية حيث يندر القول والنظر والمراجعة؛ ذلك أن ما يتقدم القول فيه، في أمر الليبرالية، هما المجالان الاقتصاديّ والسياسيّ اللذان يتوخيان، في الدعوى الليبرالية، إسباغ الحرية والمتعة والفائدة على حياة الفرد والمجتمع. وذلك هو «الوعد الليبراليّ» وَعْد «نهاية التاريخ».

جون رولز

هذا الوعد الذي أخصه بالقول هنا، هو وعد الليبرالية في أشكالها الكلاسيكية لا في شكلها «الليبرتاريّ»، أي الليبرالية الجديدة، أو الـ«نيو ليبرالية»، التي مثّلها فلاسفة سياسيون أميركيون على شاكلة فريدريك فون هايك، وميلتون فريدمان، روبرت نوزيك، وهي ليبرالية تقطع وتخرق الليبرالية الكلاسيكية التي تقلب فيها الفلاسفة: جون لوك، وهوبز، وكانْط، وهيغل، ومونتسكيو، وآدم سميث، وكارل بوبر، وبنديتو كروتشه، وريمون أرون، وجون رولز وآخرون.

يمثّل هؤلاء الفلاسفة ومن يلحق بهم ممن ينتمون إلى المذهب على نحو من الأنحاء، تيارًا فكريًّا ينافح عن جملة من الحقوق الفردية كالمساواة المدنيّة والحرية والأمن والملكية الشخصية، ترتد إلى رؤية خاصة في الفرد وفي العلاقات الإنسانية، وفق منظور شامل حدده على وجه الخصوص (جون لوك) وعززه (إيمانويل كانْط) بنزعة أخلاقية مثالية ضاربة في مبدأ «الكرامة الإنسانية»، وما يتعلق بها من معنى الاستقلال الذاتيّ والمسؤولية، أي في منظور أنطولوجيّ ممتد في فلسفة الأنوار ومتجذر في مبدأ المسؤولية الأخلاقية والحرية الإنسانية، مضادٍ للنظريات المادية والنفعية و«العلمية المسرفة» ولمبدأ اللذة على وجه الخصوص.

يعتقد الليبراليون أن الكائنات الإنسانية كائناتُ عقلية، مستعدة لـ«للتخلُّق»، حرّة، مالكة لحقوق أساسية لا يحق لأية سلطة قاهرة أن تجور عليها وتخرقها. وذلك يعني أنه ينبغي أن يكون لسلطة الدولة والمجتمع حدود، بحيث يقوم النظام الاجتماعيّ على مبدأ تمتُّع الفرد بأعظم قدرٍ من الحرية، وفي ذلك الحقلين الرئيسين: الاقتصاديّ والسياسيّ.

تُطلق الليبرالية الحرية في الحقل الاقتصاديّ إذ تشجع المبادرة الشخصية أو الفردية، والمنافسة، واقتصاد السوق، والملكية الخاصة. وفي تطوراتها المختلفة تنتهي إلى نظرية في المساواة دافع عنها مؤخرًا (جون رولز) و(دوركين) وتمثلت، عند (رولز)، في نظرية العدالة تستند إلى التصور التالي: «إن جميع الخيرات الاجتماعية الأولية: الحريات والفرص والدخل والغنى والقواعد الاجتماعية لاحترام الذات، ينبغي أن يتم توزيعها على وجه المساواة، اللهم إلا أن يكون توزيعٌ غير متساوٍ لمجمل هذه الخيرات أو لواحد منها مفيدًا للأقل حظًّا. في إطار هذه النظرية يربط (رولز) فكرة العدالة بالتوزيع المتساوي للخيرات الاجتماعية، بتعديل مهم. فنحن نعامل الأفراد على قدم المساواة لا بإلغاء جميع التفاوتات، لكن بإلغاء تلك التي تُلحق حَيْفًا ببعض الأفراد. فإذا كان بعض التفاوتات مفيدًا لكل الناس من حيث إنها تثمر مهارات وقدرات مجدية اجتماعيًّا، فإنها ستكون حينذاك مقبولة لدى الجميع.

المبادئ الحاكمة للنظرية

إن التفاوتات مقبولة إذا كانت تزيد من حصتي الأولية العادلة، لكنها ليست كذلك إذا كانت تجور على هذه الحصة، مثلما هي الحال في المذهب النفعيّ. إن المبادئ التي تحكم هذه النظرية هي التالية: المبدأ الأول: لكل شخص، من جملة الحريات الأساسية المتساوية، حق مساوٍ بأوسع قدر لِما يحق لجميع الآخرين من هذه الحريات.

المبدأ الثاني: ينبغي للتفاوتات الاجتماعية والاقتصادية أن تنظَّم على النحو التالي:

أ- تحقيق أعظم النفع للأفراد الأقل حظًّا.

ب – أن تكون متحلقة بوظائف وأوضاع ميسورة للجميع، في أوضاع سِمتها المساواة العادلة في الفرص. وعند (رولز) فإن للمساواة في الحرية الأسبقية على المساواة في الفرص، التي هي بدورها ذات أسبقية على المساواة في المصادر والموارد، والمساواة ليست مقبولة إلا إذا كانت مفيدة للأقل حظًّا. ثم إن توزيع الموارد يظل ضروريًّا للانتقال من المذهب النفعيّ إلى المساواة الليبرالية (كتابي: معنى الأشياء- رسالة في الجوهريّ من وجودنا المباشر، 2023م). هذه هي الصورة العليا لما يمكن أن أدعوه «الوعد الليبراليّ» في المجال الاقتصاديّ.

جون لوك

قبالة هذه الصورة يشخص «الوعد الليبراليّ» في المجال السياسي، حيث تدافع الليبرالية عن مجتمع «حر» يلتزم بحرية التعبير الفرديّ في حدود احترام القانون، ويدافع عن التعددية والتبادل الحر للأفكار، وعن حرية الضمير والاعتقاد والانتقال وتشكيل الجماعات المدنية والأحزاب السياسية واحترام الأقليات العرقية والإثنية، والحرية الدينية، حيث يمكن لليبرالية أن تذهب إلى حدود تحطيم «التقليد الدينيّ» أو «الاجتماعيّ» الذي يمثل «ضغطًا» على المجتمع أو الأفراد، أو الذي لا يروق لـ«الذوق الليبراليّ»، مثلما يحدث، منذ زمن، في عدد من دول الغرب الليبراليّ قبالة «المقدس الدينيّ الإسلاميّ».

في هذا الحقل، حقل الحرية والحريات، تشخص الليبرالية بما هي، بإطلاق، دين الحرية، فيها يمكن أن تطرد فكرةُ الحرية، متضافرةً مع العلمانية الراديكالية، وعلى المحور السياسيّ، محور اليمين واليسار، تتموضع الليبرالية بما هي أيديولوجية في الحرية ضاربة في «اليمين» قبالةَ أيديولوجية ضاربة في «اليسار» هي الأيديولوجية الاجتماعية التي قوامها العدالة. وفي حدود هذا التموضع تتقابل، بتضاد، الديمقراطية الليبرالية والديمقراطية الاجتماعية، ويُلقي ذلك كله بظلاله على جملة من الأسس القاعدية والقيم التي تمد جذورها في النظام الأخلاقيّ والاجتماعيّ المعياريّ.

في العلاقة مع الآخر

يهمني من المُسْتَصْعَبات التي تثيرها هذه المسائل ما يطول على نحو مباشر اجتماعنا العربيّ الراهن، بموروثاته الثقافية والاجتماعية التقليدية وبمطامحه المستقبلية الضاربة في الرغبات وفي الأماني. ولا يهمني ما يتعلق منها بالغرب الليبراليّ إلا بالقدر الذي يلقي منها بظلاله على حال هذه المستصعبات لدينا. وبتعبير آخر، أُصرح وأُوضح، أريد أن أذهب إلى الكشف عن الوجوه «الأخلاقية» أو «اللاأخلاقية» التي «تَعِدُنا» -أو «تتوعدنا»- بها الليبرالية الغربية في شكلها الشاخص في الديموقراطية الليبرالية.

أول ذلك ما يطول فِعال الليبرالية بما هي «روح الغرب الحديث» ومقوّم نظامه السياسيّ والاجتماعيّ؛ لأن قادة «الغرب السياسيّ» في بروكسل وبون وباريس وواشنطن، حين يتكلمون عل العلاقات بين الغرب وبين العوالم الأخرى، «المختلفة»، يقدّمون دومًا في دعاواهم، أنهم يمثّلون: «النظام الليبراليّ» وأنهم، في أحوال الصراع، يدافعون عن الحرية وعن الليبرالية.

لكن ممثل السياسة الخارجية الأورُبية في بروكسل، حين يتكلم على البلدان الأخرى غير الأورُبية، ينعتها بـ«الأدغال»! وفي الوقت الذي يُنفذون مبادئ الحرية ومظاهرها في بلدانهم ويروّجون للديمقراطية يتنكرون لها خارج بلدانهم. أما العدالة فتغيب من مخططاتهم ومن أفعالهم، وقضية عادلة كالقضية الفلسطينية تظل خارج منطقهم في العدالة. ومطلب «الديمقراطية الساحرة» يتبدد حين يتعلق الأمر بالنظم «الحليفة» وبممارساتها القمعية. بكل تأكيد، لا ينبغي أن ننكر ذلك على النظام الليبرالي الغربيّ؛ لأنه في طبيعته الماهويّة يقدم الحرية والمصلحة على العدالة، لكن «التنكّر» للعدالة ينحل في «أخلاق» غير أخلاقية.

وحين تتنكر الليبرالية للعدالة، خارج حدودها الجغرافية – السياسية، فإنها تتنكر لقيمة أخلاقية كبرى هي قيمة «الكرامة الإنسانية» التي هي في ماهيتها العميقة احترام الذات والاعتراف بقيمتها الكونية على نحو غير مشروط وبشكل مستقل عن الوضع الاجتماعيّ أو الدين أو العرق أو الجنس أو العمر؛ هي ذات معنى مقترن بنبل المشاعر ورفض الإهانة والإذلال والاستغلال والعبودية والامتهان بإطلاق، وأن يعامل الشخص الإنسانيّ بما هو غاية في ذاته لا بما هو وسيلة، أو شيء، أو أداة، أي بما هو ذاتية قائمة بذاتها لا يجوز أن يلحق به الضرر والأذى والإساءة والامتهان.

يثور ههنا سؤال جوهريّ: ما المدى الذي يحق للحرية فيه أن تذهب إليه حين يتعلق فعلها بالإساءة أو الضرر الذي يطول الذات أو الشخص؟

المسلم الليبرالي

يطلق الليبراليون العنان للحرية حين لا تتعارض مع القانون. وذلك ما جروا عليه في تقييم «الإساءات» التي لحقت بالمقدس الدينيّ الإسلامي، منذ الرسوم التي تهجو نبيّ الإسلام إلى الفِعال التي تمّ فيها حرق (المصحف)، مرورًا بإساءات (شارلي إبدو) وتخرّصات (الآيات الشيطانية)، وغير ذلك. وهم يتعللون دومًا بأن القانون لا يمنع من ذلك، وبأن أفعال الحرية «المسيئة» لا تطول الشخص في وجوده «الماديّ» المشخص، أي أن « الشخص» لم يتعرض لأي أذى حقيقيّ، وطالما أنه لم يتعرض لأي ضرر ماديّ أو جسديّ فلا حرج ولا جُناح، فلا النبيّ طاله شر ماديّ، ولا زوجاته، ولا أي مسلم لحقه الضرر الماديّ بسبب دينه أو عقيدته؛ لذا لا وجه لتحديد الحرية أو للحجر عليها. تبدو الحِجَاجُ سَدِيدةً. لكنها في حقيقة الأمر قياس مُغالطيّ مضلل؛ لأن ما هو دقيق وحسّاس وحقيقيّ في علاقة المؤمن بالمقدّس الدينيّ ليس هو الرّجْع الماديّ، أو العقلانيّ المجرّد «البارد»، وإنما هو قبل أي شيء آخر الرجْع الوجداني الحيوي للإصابة التي تُلحقها الإساءة بصاحب الاعتقاد؛ إذ هي تصيب منه وجدانه الإيمانيّ ورُوحه أو نفسه وحياته العميقة، وذلك وجهٌ بنيويّ أو أساس جوهريّ في كينونة المؤمن، لا يجوز ولا يحق التهوين من شأنه أو احتقاره.

ثم إنه –وهذا أمر جوهريّ بإطلاق- ذو رابط وشيج بموقع قيمة «الكرامة» في كينونة المؤمن الأنطولوجية والأخلاقية، مما لا يدخل في تقديرات الليبراليّ ولا في حسابات من ينتحل زي «المسلم الليبراليّ»، على شاكلة السوداني عبدالوهاب الأفندي، فلا يتلفت إطلاقًا إلى المعنى الجارح وإلى الأذى العميق الذي يقترن بإصابة قيمة «الكرامة» في ذات المؤمن العميقة حين تُوجّه إصابات السب والشتم والسخرية والتحقير والإهانة إلى شخص النبي ومتعلقاته، أو في فعل الاستفزاز المهين بحرق (المصحف)، وما يحمله من معنى الإزالة في لوح الوجود، حيث إن «فعل الحرق» لا يعني مجرد السبّ أو الشتم أو الاحتقار، وإنما يعني رغبة الذي يقوم بفعل الحرق في أن يُلغي بإطلاق وجود هذا «الشيء»، ووجود كل الذين يؤمنون به أو يدينون له بالولاء.

وهذا ما لم يدركه (الأفندي) في مقالة تنضح مهانةً ويندى لها الجبين.

جعل لها هذا الوسم الجائر: (مساهمة المسلمين في تأجيج الإسلاموفوبيا)! يَنْعَى «هذا السياسيّ» على المسلمين أنهم روّجوا لمقاطع من (الآيات الشيطانية) تنضح بالبذاءة والإساءة إلى الذوق السليم والحس الدينيّ، وتستهزئ بشخص النبيّ وبأمهات المؤمنين وأبطال الإسلام، فكان ذلك سببًا في تفجّر المظاهرات الصاخبة، وإدانة الكاتب وانتشار اسمه ورسمه، والإفتاء بقتله، ومن ثمّ نجوم الكراهية للإسلام والمسلمين، و«إعطاء الكاتب ما كان يريده! مثل ذلك، عنده، حدث أيضًا غداة أقدمت إحدى الصحف الدانماركية على نشر «الرسوم» التي تهجو النبيّ وتحقّره إذ، في زعمه، لو ترك الأمر «لوضعه الطبيعيّ» لَمَا سمع أحد بذلك ولَمَا كان لهذه الرسوم رواج! وكذلك الحال في «حرق شخص نكرة نسخًا من المصحف الكريم في العاصمة السويدية» وتكرار الجَرِيرة نفسها ليؤدي ذلك إلى مظاهرات في السويد وفي بلدان الإسلامية عدة! وفي إقدام آخرين على الفِعْلة نفسها في الدانمارك، والعودة إلى السيناريو نفسه: المظاهرات والإدانة والتشهير وتأجيج الإسلاموفبيا دون تنكّب الفاعلين عن فِعالهم المسيئة! ما يخلص إليه (الأفندي) هو أن كل ما سبق يشير إلى أن مساعي تدنيس المصاحف وحرقها والإساءة اللفظية –وأضع خطًّا تحت «اللفظية»- إلى المقدسات الإسلامية عمومًا لا تؤدي أغراضها من دون تعاوُن المسلمين في التهويل منها وانتهاج ردود أفعال عنيفة ضدها –وأضع خطًّا ثانيًا تحت عنيفة!– من شأنها تنفيذ السيناريوهات التي يخطط لها المغامرون الذين يلوذون بالقوانين الحامية لحرية التعبير. والرأي عنده هو «الإهمال التامّ لهذه الألاعيب»؛ حتى يموت المتطرفون بغيظهم ويخسروا الدعاية المجانية! وأن يتوقف المسلمون عن الإساءة لأنفسهم ودينهم بهذه التصرفات غير المدروسة! (العربي الجديد).

مقالة (الأفندي) هذه ذات دلالة، فيها مغالطات وألاعيب، وفيها مهانة. بيد أن ما يهمني منها يذهب إلى أمر واحد، هو أن صاحبها –بما يظهر من أنه «مسلم» يتعلق بذيول الدين- يتخلى فيها عن قيمة رُكنية أساسية هي قيمة «الكرامة»؛ لماذا؟ لأنه يطلب إلى المسلمين أن يلزموا الصمت قبالة الأذى والإساءة اللذين يلحقان بهم وبنبيهم وبمقدساتهم؛ كي «لا يسيؤووا إلى أنفسهم» عِلمًا أنّ «التأجج» الذي يأخذه عليهم يتقلب في «المظاهرات الغاضبة» التي تنضح بها الديمقراطية، ولا ينحل في «العنف»، ولأنه من وجه آخر، من حيث إنه رجل «سياسيّ» يفتقر إلى نباهة (حسن الترابي) وإلى المعرفة الكافية بطبيعة الكينونة الإنسانية، لا يعلم أن الإنسان ليس «عقلًا محضًا» تستطيع أن تطلب إليه أن يلوذ بالصمت ويجمُدَ ويتبلد عند اختراقك لذاته العميقة، وإنما هو أيضًا ذات وجدانية تطلب «الكرامة»، أي تطلب التقدير والاحترام وألّا يساء إليها بالهَجْو أو بالذم أو القدح أو السبّ والتحقير للذات ومتعلقاتها، وأنه يحق لهذه الذات أن تحتج وتغضب وتثير وتؤجج في الأحوال التي يُلحَق فيها الإساءة أو الأذى الوجدانيّ الأقصى بها، وذلك على وجه التحديد هو ما حدث في جملة الإساءات التي لحقت «المقدسَ الدينيَّ»، الذي هو موضع تقدير أسمى واحترام أقصى لدى المسلم الطبيعيّ أو العاديّ المتسق (كتابي: المقدس والحرية).

عبدالوهاب الأفندي

أما «المسلم الليبراليّ» الذي يُرخي الليبراليّ المتعصب والعِلمانيّ الراديكاليّ الحبل على غاربه وعلى إساءاته ويطلب من المسلم العاديّ أن يتخلى عن معاني الكرامة والاحترام والتقدير «حتى يموت المسيؤوون بغيظهم»! فلا يصدق عليه إلا قول من يقول: إنه يخلع عن نفسه كل معاني الكرامة واحترام الذات، وأن يُنَبّه على أن النهج الذي يختاره قبالة «محنة الضمير» القصوى التي يحياها المؤمن في تجربة الإساءة القصوى والمَهانة، سيفضي إلى أن المسلم «المَهِين» لا سواه، هو الذي سيموت بغيظه!

تنكر الليبرالية لوعودها

ويلحق بليبرالية الحداثة خيانتها للقيم التي قامت عليها في مطلع نجومها، أي قيم الحرية والمساواة والأخوة. وأنا أعني بالطبع قيم الثورة الفرنسية التي ألحقت بهذه القيم مبدأ «اللائكية» الصادمة في بعض وجوها لهذه القيم، وفرنسا، مبتدعة هذه القيم الليبرالية، هي أفظع من تنكّر لها في تاريخها الاستعماريّ الأسود في إفريقيا وفي العالم العربيّ منذ احتلالها الشمالَ العربيّ الإفريقيّ إلى إنفاذ أحكامها الجائرة وقمعها لحرية المرأة ولكرامتها وحقها في التصرف بمتعلقات مظهرها ولباسها، وإرسال ذلك إلى فضاء المدرسة والزيّ الثقافي الذي لا ينطق بأي معنى دينيّ، فضاءِ العباءة وقمصان التلاميذ. تدافع الليبرالية عن حق المرأة في التصرّف بدينها، لكنها لا تجيز لها التصرف بلباسها. وهي بذلك، مدمّجةً بالعلمانية، لا تشخص بما هي قمع واستبداد واعتداء على الحرية فقط، وإنما تصبح مثيرة للسخرية والتفاهة والعدمية والحمق.

تلك وجوه جوهرية تتنكر فيها الليبرالية لوعودها الطيبة وتخرق المبادئ المؤسِّسة لها. لكن ثمة ما هو، اليوم، أفدح من ذلك وأطغى. وذلك على وجه التحديد، ودومًا، فيما يمتد في النظام الأخلاقيّ – الاجتماعيّ.

كانت الحرية في مطابع التعهد الليبراليّ وفي تطوراتها «الوسطية» تتقلب بين معاني تحرير المرأة من سيطرة الرجل، وإرساء قواعد المساواة، بأقدار متفاوتة، أدركت فيها المرأة جل الحقوق التي ناضلت من أجلها، حتى احتلت أرفع المواقع والامتيازات، وعبرت حدودًا فذّة وجدت في النزعة النِّسوية مظانها وطلباتها. أما الليبرالية نفسها، بما هي مذهبٌ ذو طبيعة أيديولوجية، فقد أصبحت ذات معدن «سيّال»، متغير، متجدّد، لا يقف عند حال. وذلك في حدود الإهاب «الديمقراطيّ الليبراليّ» الذي تسيّجت به. لحق بذلك تطوّر جذري في التصورات الاجتماعية والقانونية التي تتعلق بالأسرة والجنس والعلاقات الإنسانية. ههنا يطول الليبراليةَ انقلابٌ عميق تخرج به عن كل ما جرت عليه الإنسانية في تاريخها «الطبيعيّ» وتفرض بِدَعَها المستحدثة على المجتمع وأعرافه وقوانينه، وتُجري أحكام نظام أخلاقي راديكاليّ قسريّ.

ترجع جذور هذا التطور الجاري إلى (جيريمي بنتام) ومذهبة النفعيّ الراديكاليّ الذي يمتد في منظور ثوريّ للنشاط الجنسيّ «الحر» وللأخلاق الجنسية الخارجة عن الطوق، أطلقه في العقد الأول من القرن التاسع عشر. يقترن هذا المنظور بالخروج على سلطة الكنيسة وبالضلوع في تيار صارخ ضارب في إطلاق الحريات الفردية وفي خرق قواعد النظام الاجتماعيّ التقليدي، وما جرى عليه في نظام العلاقات الجنسية، حيث دعا إلى التحرر من شبكة العلاقات الجنسية «المحرّمة». أو «الدنسة»، وشجَب التقاليد الدينية الخاصة بالزواج بين الجنسين، وأدانَ القيود المتعلقة بذلك وبالإنجاب، ونافح عن الحرية الجنسية وقدّم مبدأ «الإشباع الجنسيّ» والمتعة على الإنجاب وعلى العائلة.

سوّغ العلاقات الجنسية في إطار الجنس الواحد، ودعا إلى إلغاء تجريم الشذوذ الجنسيّ، وزعم أن ثورته الجنسية تساعد على تعزيز التوازن الاجتماعيّ. تقلبت ثورية (بنتام) الجنسية في الفضاء الليبراليّ الغربيّ، وبات بعض وجوهها الأخلاقية والاجتماعية الرئيسة، في الولايات المتحدة وأوربا الغربية، أَمَاراتٍ وأعلامًا ودعاوى مقترنة اقترانًا حيويًّا بالنظام الأخلاقيّ الاجتماعيّ في الغرب، وأصبحت الديمقراطية؟ الليبرالية تعني، في جملة ما تعينه، الدفاع عن البدع «الثورية» للنشاط الجنسيّ الحر. وقُرِنَت وعُلِّقَت على «حقوق الإنسان»، حتى باتت أحيانًا تعلو سُدَّة هذه الحقوق.

ولم تنحصر هذه الثورة في تقنين المثلية الجنسية، وإنما تجاوزت وتتجاوز ذلك بلا حدود. (جمعية الأطباء الأميركيين) ومؤسسات طبية أميركية أخرى تدعو إلى التنكب عن الإشارة إلى جنس الوليد في الوثائق الرسمية الخاصة به، وإلى أن تترك له حرية اختيار الجنس لما بعد البلوغ. الاقتران الزواجيّ بين أطراف الجنس الواحد بات قانونيًّا. رئيس جمهورية فرنسا، إيمانويل ماكرون، «يطبّع» العلاقة الزواجية وغير الزوجية بين أطراف الجنس الواحد لدى التلميذات الصغيرات في إحدى المدارس الفرنسية الابتدائية. التحوّل الجنسيّ الإراديّ! بات مألوفًا. التعليم الجنسيّ بات جزءًا من التعليم الأساسيّ الأوّليّ ولحق بذلك الترخص في الدعوة إلى ممارسة الجنس قبل سن البلوغ كي يكتشف الصبية والفتيات حقيقة أجسامهم وإشباع رغباتهم.

العائلة لم تعد مؤسسة اجتماعية قوامها رجل وامرأة، أو ذكر وأنثى. الشرطة الكندية تلقي القبض على فتى يصرح بإنكار شرعية الروابط المثلية. إحدى المُدَرِّسات في إحدى المَدارس الإعدادية تغلظ القول في الطالبات المسلمات اللواتي يصرحن بعدم رغبتهن في المشاركة في احتفالات (جماعة الميم) وتنذرهن بأشد العقاب وبالطرد من المدرسة. مجلس النواب التشريعي لولاية كاليفورنيا الأميركية ومجلس شيوخها يُقِرّان تشريعًا اقترحته الديمقراطية لوري د. ويلسون يُلزم الآباء بالاعتراف بحق الأطفال في التحوّل الجنسيّ أو تحمّل عواقب رفضهم، التي قد تصل إلى فقدان حقوق الحضانة لوالد آخر أو للدولة نفسها، وبموجب هذا التشريع يمكن للطفل أن «يبلّغ» عن والديه من خلال المنظمات الداعمة لحقوق المثلية والتحوّل الجنسي أو من خلال مدرسته، بحيث يمكن توجيه تهمة الإساءة للطفل وملاحقة أحد الوالدين أو كليهما؛ أي أن حقوق العائلة أو الوالدين في تربية أولادهم ورعايتهم واستقلالهم تُجَرَّد منهم وتذهب إلى الدولة.

تلك هي السياسة التي ينتهجها الليبراليون الديمقراطيون، وهي سياسة تقابلها قطاعات مدنية وشعبية واسعة بالإنكار والاعتراض. لكن الدولة الليبرالية تمعن فيها وتستخدم التعليم الرسمي الأساسيّ لإنفاذها. في نطاق النظام الديمقراطيّ الليبراليّ لن يقف هذا النظام عند هذه الحدود؛ لأن الحرية «سياّلة»، و«التجاوزُ» دَيْدَنُها. وهي أيديولوجية منفتحة بتجذّر ومن دون ضوابط حاكمة ثابتة، والقانون الذي يحكمها مرتبط بحبل سُرّيّ بالديمقراطية، وهذه معلقة برغائب وأهواء وأذواق وخيارات صانعيها، الممتدة جذورهم في الليبرالية الاقتصادية الرأسمالية والنفعية.

بين السياسة والأخلاق

ولأن الليبرالية تقيم فصلًا قاطعًا بين السياسة وبين الأخلاق، ولأنها تَجري مع العلمانية في الفصل بين الدين والدولة، بحيث إن كلًّا منها يستخدم الآخر ويتضافر معه، فإنني أجنح إلى الاعتقاد بأن «الوعد الليبراليّ»، الذي بات في حقيقة الأمر «وعيدًا» لا وعدًا، سيستجيب لقانون «السيولة» و«يقنّن» في مدى زمنيّ غير بعيد العلاقات الزواجية وغير الزواجية بين من ينعتون في المجتمعات «المحافظة» التي يحتل فيها الدين مكانة جليلة بـ«المحارم» أي بين الأب وابنته والأخ وأخته والأم وابنها، وغير ذلك.

لماذا؟ لأن إطلاق الحرية، خارج حدود الدين، وفي غياب أي إلزام أخلاقيّ، عقليّ أو طبيعيّ، لن يمنع النظام الديمقراطيّ السيّال من ذلك أبدًا. و«المسلم الليبراليّ» كالمسيحيّ الليبراليّ أو اليهوديّ الليبراليّ، سيكون عليه في «النظام الديمقراطيّ الليبراليّ» أن يلزم الصمت وأن يطلب السلامة ويتخلى عن مبدأ ومعنى «الكرامة»، وذلك «حتى لا يسيء إلى نفسه وإلى دينه»! أو حتى لا يتعرض للعقاب! يَنتظر الاجتماعَ العربيّ في المدى القابل المتفاوت زمنيًّا -ومن ذلك ما يعرض له اليوم، بل منذ زمن– أن «يستقبل» ضغوطًا مختلفة قادمة من أنحاء مختلفة من فضاءات الديمقراطية الليبرالية، سواءٌ أظهر ذلك في الاختراقات الميدانية أم في التدخلات السياسية، أم في التأثيرات الثقافية والفنية، أم في المطالب المباشرة الممتدة في دعوى «حقوق الإنسان»، أم تحت ستار الدعوة «المرسلة» إلى الديمقراطية والتحول الديمقراطيّ، أم غير ذلك. ويَرجح الظن أو الاعتقاد أن تتردد «الإصابات» المتوقعة في ثلاثة نظم أساسية: النظام الاجتماعيّ الثقافيّ، والنظام التشريعي الضارب في الدين، والنظام السياسيّ.

إيمانويل كانط

أما النظام الاجتماعيّ الثقافيّ فسيلقى العنت في قطاعي العائلة والعلاقات الجنسية. وسيلقي ذلك بظلاله على المدونة الفقهية الإسلامية. وأما النظام السياسيّ فسيكون مطالبًا على الدوام بالتحول الديمقراطيّ. لكن أية ديمقراطية؟

هي الديمقراطية بما هي نظام تمثيليّ بلا إرادة شعبية، بكل تأكيد. لكن ذلك لا يكفي؛ إذ هي إما أن تكون، في الأغلب الأعم، الديمقراطية الليبرالية أو الديمقراطية الاجتماعية. أما الأولى فقد أبان القول الذي سلف عن متعلقاتها، وأما الثانية، الاجتماعية، فإنها تجنح إلى تقديم قيم الخير العام والمساواة والعدالة والكرامة الإنسانية والرفاهية والرعاية الاجتماعية والحريات الأساسية في حدود القانون. ما نشهده في السياق العربيّ هو أن القول في الديمقراطية، بما هي طريق الخلاص، وفي التشديد عليها وعلى ما يُنعت بـ«الانتقال الديمقراطيّ»، يجري دون أي تحديد لطبيعة الديمقراطية التي يعظم اللهج بها، وذلك على الرغم من أن التعويل على هذه الدعوى يُطلب لخير الجماعات العربية أو الوطن العربيّ.

بيد أن الظاهر لكل بصر وبصيرة هو أن هذه الجماعات تشقى على وجه العموم، وأحيانًا على وجه الخصوص، بالفاقة والعوز والفساد والمظالم الاجتماعية والاقتصادية، وتطلب، قبل أي شيء آخر، «الخيرات الاجتماعية» الأساسية، وأنها تريد من النظام السياسيّ الذي يقوم عليها أو يستبد بها أو يسهر على شؤونها أن يرعى ويحفظ «كرامتها» بالعيش الطيب، وأن ينشر في أعطافها وثناياها الخير العام والعدالة الاجتماعية والاقتصادية التوزيعية، من دون أن يتنكر للحريات الأساسية ولمطالب الحياة الكريمة وفتح أبواب الأمل.

وليس ينبغي أبدًا أن يُتَوَهَّم أن الجنوح إلى الديمقراطية الاجتماعية يمكن أن يعني جنوحًا إلى نظام الاستبداد أو إلى نظام المستبد العادل، لما أن خِيار الديمقراطية الاجتماعية يمثل عزوفًا عن الديمقراطية الليبرالية وعن مجتمع الحرية والحريات السادرة؛ لأن ما ينبغي أن يستقر في الخاطر هو أن الخيار الاجتماعيّ، هو خيار لطريق في العدالة، التي هي قرين وشرط للسعادة، وأن السعادة دون التمتع بالحريات الأساسية لن تكون منقوصة فقط وإنما ستكون شقية بائسة.

ولأن جماعاتنا العربية، وَلْأقُلْ أوطاننا، بل وطننا العربيّ يمتد ويقوم على تراث أصيل وعلى ثقافة مؤسِّسة وتاريخ داعم وآمال عريضة مشتركة، يحتل فيه «المنظور الروحيّ الدينيّ» مكانة رئيسة حيّة، فإن أي شكل من أشكال الديمقراطية التمثيلية المتوخاة مدعوّ لأن «يحترم» هذه المعطيات والحقائق، بألّا يخرقها أو يسيء إليها، أو أن يجنح إلى نظام ديمقراطيّ غير اجتماعيّ يستبدل بالحريات الأساسية الطبيعية أشكالًا «سيالةً» ضاربةً في تحطيم بنى المجتمع الطبيعية، وفي إنتاج نظم «ثورية» شاردة لا قرار لها، ليس إطلاق الحريات الجنسية التي تتلبسها الديمقراطية الليبرالية اليوم إلا بعض وجوهها الآيلة إلى التغير والتجاوز على الدوام.

مُحَصّل القول عندي هو أن الليبرالية التي مثّلت منذ نجومها «وعدًا» لراكبيها في القطاعين الاقتصاديّ والسياسيّ، باتت تمثّل في القطاع الأخلاقيّ وفي نظام القيم «وعيدًا»، أي شرًّا. وإذا كانت الحضارة الغربية قد قطعت الحبل السريَّ الذي يربطها بالمسيحية، إذ جنحت إلى هجر قيمها والذهاب إلى قيم مضادة تحاول (الكنيسة) أن «تتكيف» معها بمرارة، فإن هذه القيم التي تروّج لها الديمقراطية الليبرالية تمثّل للاجتماع العربيّ، الذي يحتل فيه الاعتقاد الدينيّ مكانة مركزية، «محنةً» شاخصة، وبؤرة مفجِّرة لشكل «عصابيّ» من أشكال الصراع. وحيثما تكون «الدولة التابعة» عاجزةً عن الدفاع عن المجتمع وقيمه، فإن هذه الوظيفة تؤول حتمًا إلى مؤسسات المجتمع الوطنية ومنظماته المدنية الفاعلة. واعتقادي، في حدود ما أراه من أمر «الدولة العربية» ومن تَغَوُّل النظام الليبراليّ الغربيّ وجراءته واستعلائه، هو أن الخَطْب شاخص.

مونتريال 4 سبتمر 2023م

في مديح الأصالة .. التفاهة والأعراض المرضية قاتلة للحرية والإبداع

في مديح الأصالة .. التفاهة والأعراض المرضية قاتلة للحرية والإبداع

أعني بالأصالة الفاعلية المنبثقة عن ذات فردانية نقية، خالصة، صافية، مستعدة لإنجاز أفعال فكرٍ أو عملٍ مشخصة موافقةٍ لأحوالها القاعدية العميقة المتفردة، المتواصلة مع منابع وعناصر الإثارة الخارجية المختلطة المعززة لتركيب متجاوز مبدع. والأصالة تفترض، فيما فوق مواضعات الامتثال الاجتماعية، التعبير القوي عن حقيقتها الذاتية الباطنة العميقة بأمانة وحقيقة وصدق ومسؤولية. وحين تُجري الأصالة أحكامها خارج حدود القيود والشروط القسرية الوضعية، وحين تنقل (الذات القاعدية) ملكاتها من القوة إلى الفعل تولّد ما ندعوه «الإبداع»، أي «ما هو فذ». إذ الإبداع مقترن ضرورةً بهذا «الفذ»، أي بالأصالة؛ لكنه ليس الأصالة نفسها. وحين تفتقر الذات الفردانية إلى القدرة على الفعل، أو تتلبسها أحوال وعوارض «غير نقية» وتستبد بها عوامل الهدم الداخلي أو رياح الخارج الضاربة، تقع في الاستلاب وفقد القيمة والمعنى والتكرار والضحالة، وتصبح «عادية»، «تافهة»، مؤذنة بالاضمحلال والبوار.

تكشف الأصالة عن نفسها في الأفعال أو الأعمال الجديدة المخترعة، وفي المبدعات الروحانية الفذة، وفي الإسهام المشخص في فعل (التقدم) الحي الروحي والمادي والصناعي والعلمي والتقني والإداري..، وفي إثراء الكينونة الإنسانية، الفردية والجمعية، بالمعرفة، والمتعة، والفائدة، والحركة، والنشاط والتغير الواعد. والأصالة تتقوم بالحرية؛ إذ هي خروج عن المألوف القائم، المتداول، المبذول، واقتران بالإبداع والتجديد والكشف والإقدام، وتوليد للدهشة والانبهار، وللرائع، والمبدع والسامي.

في التجربة العربية التاريخية التي نعرفها، وفي أشكالها السارية في الفكر والدين والسياسة والفن والأخلاق والعلم – النظري والتطبيقي والأداتي – نلتقي نماذج لا عد لها ولا حصر من وجوه الأصالة الكاشفة عن وضع حضاري حي، لكننا نلتقي أيضًا وجوهًا من «مضادات الأصالة». جسدت «الظاهرة القرآنية» وما اقترن بها من «ثورة ثقافية» فعلًا أصيلًا من أفعال «الأنا الفردية» المتضافرة مع «الأنا الجمعية». الانقلاب السياسي الأموي قبالة (عصر النبوة والخلافة) كان فعلًا أصيلًا من وجه، بائسًا مجسدًا للأنا القبلية المشبعة بالإغراءات الدنيائية الخائنة للإيتوس الأخلاقي – الديني، من وجه آخر. في الحقل الفكري الاعتقادي أعلنت الأصالة عن نفسها في (ثورة العقل) على التقليد والاتباع وفي فتوحات الحرية والاستقلال الفكري التي تبلورت في مبدأ (العدل) الاعتزالي، وفي استئناف الفاعلية العقلية والعلمية الهلّينية والهلّنستية في الحركة الفلسفية. ومع أن هذه الحركة في الإسلام تمد جذورها القوية في التراث الإغريقي وتكاد توهم بأنها لم تضف شيئًا ذا بال إليه، إلا أن النظر المدقق يُبين إبانة قاطعة عن مظاهر الإبداع الفلسفي الإنساني الأصيل في ثلة من قضايا الوجود والأخلاق والنفس، فضلًا عن التطورات الجليلة التي حفل بها (العلم العربي).

وفي الفضاءات الأدبية يدهشنا التجديد الشعري في العصر العباسي، وتبهرنا النظريات النقدية والشعرية والإعجاز.. في المشرق وفي المغرب (إحسان عباس: تاريخ النقد الأدبي عند العرب). وكذلك يثير إعجابنا الشديد في حقل الفقه وأصوله نجوم «نظرية المقاصد». وفي أقصى مراحل الانهيار والأفول يستنبط ابن خلدون فلسفته المبتكرة في العمران البشري. فلسفة وضعية عظيمة، أصيلة بكل ما تحمل هذه الكلمة من معانٍ ودلالات، تنجم في «العصر السحريّ» المضاد للعلم والعقل والإبداع، المستغرق في النارنجيات والطلسمات والمكرور من الشروح والتصانيف.. قد جفت الدماء في العروق وانطفأت الأنوار وساد العقم… أي «اللا- أصالة»، بعد أن كانت الأصالة قد أعلنت عن تفجّرات حقيقية امتدت طيلة عصور الحضارة العربية الكلاسيكية.

تلك أمثلة ووجوه شاردة ودالة أسوقُها لأتحول منها إلى التنبيه على ما طال «مثال الأصالة» في التجربة العربية الراهنة. حتى لا يكون القول مرسلًا بلا حدود، سأنحصر، في حدود هذا القول، في الإبانة عن حال «الأصالة» في أكثر القطاعات التصاقًا واقترانًا بالفعل الثقافي؛ لأن هذا المفهوم يطول قطاعات كثيرة أخرى: في السياسة، والاقتصاد، والاجتماع، والعلم، والتقنية، والإدارة.. أقول: إنني سأنحصر في حدود «الثقافي»؛ لأنه يمثل الأسس القاعدية لجملة البنى والنظم التي تتقوم بها (المدينة) و(المجتمع) و(الدولة)، و(الحضارة)، وفوق هذا كله، وقبله وبعده: الإنسان.

مضادات الأصالة

جيل دولوز

لكن الإبانة عن «مضادات الأصالة» تظل ضرورية من أجل تقييم أحوال «الأصالة» التي أطلب وأقدّر أن هذا القول يمثل «دعوة» أريد أن أراها جارية في منتجاتنا الثقافية القابلة، و«مديحًا» أريد أن أسبغه على هذه «الفضيلة» الركنية التي سأقول: إنها باتت غائضة الملامح إن لم أقل مفقودة أو شاردة ضائعة. ثلاثة أعراض رئيسة تحدد في اعتقادي ما أعدّه «مضادات للأصالة»، هي: التقليد، والتكرار، والتفاهة، تتضافر لمقاومة «الفذ» «أي الذي لا مثيل له». وحيث يشخص أي عرض من هذه الأعراض أقول: إننا في حالة مضادة للأصالة. يمثّل التقليد، من وجه أول، استبداد الاتباع والانقياد والسكون والجمود. ويشخص التكرار بما هو مراوحة في المكان أو جهد مجاني عابث لا معنى له ولا قيمة، معوق لحركتي التقدم والتطور الضروريين لحياة المجتمع ومعناه وقيمته في التاريخ. وتشخص التفاهة بما تحمله من «تَدلٍّ أخلاقي» أكثر الأعراض «المرضية» القاتلة للحرية والمعنى والإبداع والقيمة. حين «تتضافر» مضادات الأصالة هذه في جسم الثقافة وروحها لا يتبقى للثقافة وأهلها أي مقوّم من مقوّمات الوجود الحي الجدير بالتقدير والاحترام والتكريم.. والحياة.

الفكر والمعرفة والأدب واللغة والفن والقيم هي الوجوه المركزية للثقافة التي تتجلى فيها أو تضمحل أعلام الأصالة ورسومها «الروحية». وبقدر ما تكون هذه الرسوم جليّة، قوية، حيّة، فاعلة في الاجتماع البشري، تكون قواعد هذا الاجتماع العلمية والتقنية والإدارية والتنظيماتية والاقتصادية والاجتماعية والمادية.. قوية، حيّة، معززة لأسباب التقدم ودواعيه. إطاري المرجعي التاريخي، في عدِّي هذه الوجوه من الحياة الثقافية العربية، يمتد، بقدر عظيم من التجريد والتكثيف – وفق ما تقتضيه حدود هذا القول – ما بين الفضاء الذي ندعوه (عصر النهضة) العربي الحديث، وبين هذه العقود المتأخرة التي نحياها في الفضاءات العربية الممتدة المتباينة الشاهدة.

المعرفة والفكر أولًا

وفي حدود معاني ومقومات «مثال الأصالة»، أعني: الفاعلية الذاتية القاعدية «الطّبْعِية»، والإبداع، والحرية، والاستقلال والقيمة، والتمظهرات «الفذّة»، المجاوزة للمتداول وللاتباعيّ..، ما هو تقديرنا – وبتحديد أدق ما هو تقديري.. لحالة الأصالة في هذا الحقل، حقل المعرفة والفكر؟ حين ننعت (عصر النهضة) بأنه عصر «نهضة» فإننا نقرّ، بكل تأكيد، أننا قبالة مثقفين ومفكرين وإصلاحيين تمدنيين وأخلاقيين وأدباء وكتاب بذلوا الوسع من أجل الخروج من التقليد ومن «القائم المستقر»، المتدلّي، بحسب مصطلحهم، وإدراك حالة «الرقي» أو «التقدم». ثمة في جملة أعمالهم، من التركيب بين «المدنيّة الإسلامية» وبين «المدنية الغربية»، ما يشي بقدر ملموس من «التجديد» أو من «الإصلاح» أو من طلب «التميّز النوعي» أو الذاتي الذي يقترن بكل تأكيد بمعنى «الأصالة»، المعززة للترقي وذلك على الرغم من التأثيرات الغربية التي أريد لها أن تشكّل تركيبًا تدخل فيه أفهام «حديثة» للتجربة المعرفية والعلمية العربية – الإسلامية. الفاعلية الذاتية في هذه الجهود بارزة، والحرية تمارس نشاطها بقدر ملموس، والاستقلال الفكري ذو قيود، والاتباعيّ لا يزال حاضرًا بقدر.. أي أن مواضعات الامتثال الاجتماعية لا تزال فاعلة. إننا قبالة أصالة، لكنها «أصالة مقيّدة».

عبدالله العروي

حين نتجاوز عصر النهضة المبكّر ونعبر أعتاب القرن العشرين وعقوده المتتالية تزداد الأحوال والأعراض والرسوم وضوحًا وتميُّزًا ودخولًا في «زمن الأصالة»، وتحولاتها الضاربة في «اللا-أصالة». من المؤكد أن فضاءات المعرفة اتسعت على نحو مذهل، وذلك للتواصل البشري الحديث و«العبور الغربي» وفعل (الحداثة)، والحركة الاستعمارية بأشكالها المختلفة، وفي المرحلة المتأخرة: العولمة. بيد أن «المعرفة» التي تعاظمت وانتشرت في كل الآفاق ظلت رهينة «المبدعات الغربية»، ولم ترقَ إلا بمقادير هزيلة لكي تدرك ناصية الأصالة. لم يظهر ذلك واضحًا جليًّا في فضاءات العلوم الطبيعية والتقنية فقط، إنما تجاوز ذلك إلى عالم الفكر، الذي كانت «المحاولات الفلسفية» أبرز رسومه وتجلياته. ويثير الانتباه والنظر ههنا أن التجربة الفلسفية العربية الحديثة، أعني منها تلك التي تبلورت منذ أواسط القرن العشرين وامتدت إلى أيامنا هذه، تبدو في علائقها مماثلة إلى حد بعيد لتلك التي شهدتها التجربة العربية الكلاسيكية، حيث اقترنت إسهامات الكندي والفارابي ويحيى بن عدي ومسكويه وابن سينا وفلاسفة المغرب إلى ابن رشد، بفلاسفة الإغريق: أفلاطون، وأرسطو، والرواقيين، والأفلاطونية المحدثة، وبدت الأعمال الفلسفية المعاصرة امتدادات للفلسفات الغربية الحديثة: يوسف كرم يتابع التوماوية الجديدة؛ عبدالرحمن بدوي ينسب فلسفته المبكرة إلى هايدغر والوجودية؛ زكريا إبراهيم يمتح من الوجودية الإيمانية؛ محمد عزيز الحبابي يتبنى شخصانية (مونييه) ويحولها إلى شخصانية إسلامية؛ فؤاد زكريا يأخذ بالعقلانية الطبيعية؛ زكي نجيب محمود يتقلد الوضعية؛ حسن حنفي يتمثل أصول الفقه، فينومينولوجيًّا؛ عبدالله العروي يغادر إلى هيغل والتاريخانية.. أركون يتمنطق بمفاهيم العلوم الإنسانية والاجتماعية ويحاول استخدامها في ما يسميه (الإسلاميات التطبيقية)؛ والجابري لا يبتعد كثيرًا من نهجه.. والطيب تيزيني يتقمص الماركسية بعجرها وبجرها… وفوكو ودريدا وجيل دولوز وآخرون ينتشرون في «محاولات» المثقفين «المتجمّلين» بالبنيوية والتفكيكية والهرمينوطيقا وما بعد الحداثة.. ولا يكاد يخرج من هذه الدوائر إلا قلة من المفكرين الذين ينشدون الأصالة الذاتية المستقلة، كناصيف نصار، أو يستأنفون التقليد الفلسفي العقلاني الراديكالي، كعادل ضاهر، أو ينشدون تركيبات فلسفية دينية إسلامية تطلب التفرد كطه عبدالرحمن في نزعته الضاربة في التصوف، أو نصر حامد أبو زيد في توظيفه للتأويلية.

قد تشي هذه المقاربة بأنني أريد أن أذهب إلى إنكار تشخص فلسفات عربية حقيقية، أعني فلسفات عربية أصيلة، في المجال العربي المعاصر؛ وذلك موضع احتجاج؛ إذ يوهم بأنني أفترض أن الأصالة تعني بإطلاق إقصاء كل العناصر «الخارجية» الضاربة في التجربة الأصلية الخاصة، أعني التجربة ذات الطبيعة والأعراض «العربية»! وليس الأمر كذلك؛ لأنه لا ينبغي أن نفترض أن «الأصالة» تنكر مبدأ «التأثر» أو «التواصل» أو «التفاعل» مع العناصر الضاربة من خارج في «قلعة الذات». إنني أعي ذلك كل الوعي، وأعلم أن أصالة أرسطو لم تجبّ تأثير أفلاطون، وأن أصالة ديكارت لم تبدد تأثير القديس أنسلم أو القديس أوغسطين، وأن أصالة توما الأكويني لم تُقصِ تأثير ابن رشد، وأن هايدغر نفسه كان مستغرقًا في الأنطولوجيا اليونانية. لكن الذي أرى أن ما كانت تفتقر إليه أغلبية «المحاولات الفلسفية» العربية المعاصرة، هو أنها لم تقدم، في نهاية المحاولة، ما يتجاوز خالص التركيب «الشكلاني» السكوني، التكراري، إلى رؤى أو منظورات أو تصورات شاملة مبتكرة أو إبداعية خاصة، أي أن «مثال الأصالة» والاستقلال الذاتي الحر المبدع ظل غائض المعالم والرسوم. بتعبير آخر، لا أملك إلا الإقرار بأننا، خلا حالات قليلة جدًّا، نلمس بوضوح أن الفكر الفلسفي العربي المعاصر يفتقر افتقارًا شديدًا إلى «الاستقلال الفلسفي»، الذي شدد عليه من قبل ناصيف نصار. وذلك يعني أنه يفتقر إلى «الأصالة الحقيقية» ولا يحقق منها إلا قدرًا محدودًا.

هل ينسحب هذا التقدير على ما يسمى (الفكر العربي المعاصر)؟ ليس سرًّا أن هذا المصطلح يقال على المنجزات الفكرية التي تمتد من أواسط القرن التاسع عشر إلى زمننا الحالي، وأنه يشار إليه عادة بالتعبير (فكر النهضة). هو فكر، من حيث إنه «نظر إنساني» في مشكلات العالم العربي الثقافية والاجتماعية والسياسية، قبل أي وجه آخر. والمحور الرئيس لهذا الفكر لا يتعلق بقضايا الفلسفة الكلاسيكية كالمعرفة والوجود والإلهيات والطبيعيات، لكنه يدور على قضايا التمدن والترقي أو التقدم والحرية والعدالة والشورى والديمقراطية والأخلاق والتجديد والإصلاح الديني والتحرر من الاستبداد والاستعمار والدفاع عن جملة حقوق الإنسان.. والمواطنة.. والمرأة.. وغير ذلك مما حفلت به أعمال تمتد من خير الدين التونسي ورفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني وقاسم أمين وشبلي شميل وفرح أنطون وطه حسين.. إلى مجموعة من المفكرين الفلاسفة أو المتفلسفة الحاليين الذين وجهوا قدرًا من اجتهاداتهم إلى حقل «الفعل الثقافي» الذي يطلب التغيير أو الإصلاح أو الثورة (كتابي: أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث، ط5).

والحقيقة أننا لا نملك أن ننسب هذه الأعمال إلى «القول الفلسفي»، على الرغم من أن هذا (القول) يتدخل فيها من حيث إنه يطلب قدرًا من «العقلنة» التي تضفي على «القول الثقافي» – الجدليّ أو الظني الاحتماليّ وفق المعنى الأرسطي – ضربًا من المشروعية والقبول.

هل توصف هذه الأعمال بما يدور عليه هذا القول؟ أعني: هل هي أعمال «أصيلة»؟ في حدود معاني الاستقلال الفكري، وحرية القول، وصدقية المشاريع المطروحة، وارتباط هذه المشاريع بفاعليات فردانية ذاتية نقية تتوجه إلى ظواهر الوقائع بالتأمل الحر والنظر المدقق والتحليل والعرض والاستشراف والاقتراح، وطلب حلول «إبداعية»، أو «فذة» للقضايا العربية العويصة الشاهدة، في حدود القدرات المعرفية والعملية المتوافرة لدى هؤلاء «المفكرين» أو «المثقفين»، وفي سياق معرفي مُسَيّج بفاعليات ذات روابط عضوية عميقة بالرغبة أو الشهوة أو الإرادة أو المنفعة البراغماتية.. في هذه الحدود جميعًا لا نملك إلا التسليم بأن الماهية والغائية اللتين تقوّمان فكر النهضة العربية الحديثة والمعاصرة، وعلى الرغم من التأثيرات – التي لا مناص ولا مفر منها – الآتية من الرياح الخارجية، أعني من الثقافة الغربية ومتعلقاتها، هما – أي الماهية والغائية – تمدان جذورهما القوية في «مثال الأصالة». ليس أمرًا ضروريًّا أو قطعيًّا أن تكون هذه الأصالة مطلقة، ولا أن تكون خارقة للحدود والآفاق – إذ هي مقترنة دومًا بشروط وضعية نسبية متفاوتة – لكن يكفي أنها تحقق هذا الضرب من الفاعلية الذاتية الفردانية، الممتدة في «الجمعيّ»، التي تطلب اجتراح حلول «خارقة» لأوضاع ومشكلات صدئة قاتلة، ومخارج إبداعية جديدة مجدية لعالم يشكو من آلام القرون المبرحة ويطلب البُرْء من أمراض مزمنة لم تعد أنماط التفكير الاتباعية السكونية الجاهزة قادرةً على أن تقدم له الدواء الشافي.. في هذه الاستحقاقات أستطيع أن أقول: إن تجليات (الفكر العربي الحديث والمعاصر) هي تجليات أصيلة بمقادير متفاوتة، وإنها في جميع الأحوال، وبرغم القصور الذي يعتوِرها، ضرورية حتمية وتستحق الثناء والمديح.

الآداب ولغتها ثانيًا

محمد أركون

تحتل صناعتا الشعر والنثر مكانة أساسية في الظاهرة الثقافية العربية الحديثة، مثلما أنهما يحتلان المكانة العظمى في الثقافة العربية الكلاسيكية. والمكرور من القول هو أن «الشعر ديوان العرب» والمعبّر الحقيقي عن الأصالة العربية في ميدان الأدب، وأن النثر «المبين» قد تجلّى بأنواره الفذة في أدبي الجاحظ والتوحيدي مثلًا، وأن «الخلق» العلمي في مقاربة الشعر والنثر قد أعلن عن نفسه في الفلسفات التحليلية العميقة المستحدثة لنظريات النقد الأدبي الثرية العميقة الجديدة، أي «الأصيلة»: محمد بن سلام الجمحي، والآمدي، وقدامة بن جعفر، والحاتمي، وابن جنّي، والقاضي الجرجاني، والباقلاني، وابن رشيق، وابن شرف القيرواني، وحازم القرطاجني، وآخرون كثيرون. هؤلاء جميعًا أسبغوا على الأدب واللغة والشعر، فقهًا وتحليلًا وتنظيرًا ونقدًا، وهو ما حمل اللغة وآدابها إلى أسمى المراقي والتجليات الفذة. لم يحدث شيء من هذه الآفاق البعيدة والأعماق الثرية في حياة اللغة والأدب الحديثة. ولم ترقَ الجهود النظرية التي بذلت في هذا الحقل إلا بأقدار محدودة من مراتب الإبداع، وذلك على الرغم من أن الحركة الأدبية العربية الحديثة التي تجسدت، على وجه الخصوص، في صناعات الشعر والرواية والنقد، قد بلغت في حالات عدة أقدارًا طيبة من الثراء والجودة والخَلْق.

بيد أن الخشية العظمى هنا تأتي من أن المناهج والمفاهيم الفنية والأدبية والنقدية الغربية باتت توجه وتحكم وتستبدّ بطرائق وأحكام النظريات والمذاهب الأدبية والفنية والنقدية العربية المعاصرة. أي أن «مثال الأصالة» مهدد في الصميم، وأن المنخرطين في الفنون الأدبية واللغوية يبدون عاجزين عن إبداع المناهج الذاتية الحاكمة لفنونهم وآدابهم العربية.

على أن هذا الوجه من القول العارض في أمر الأدب وفنونه، لا ينبغي أن يمضي من دون التنبيه على حال اللغة العربية بما هي أداة للتعبير والاستخدام والإبداع، حيث تقرع أجراس الخطر الحقيقية في شأن لغتنا العربية وما يساق من إشارات ودلائل على مظانّ التهديد الحقيقي لوجودها ولمستقبلها، قبالة الانتشار الواسع الهجوم للغة الإنجليزية في جملة القطاعات الثقافية والفكرية والأكاديمية، فضلًا عن الإقصاء المتعاظم لاستخدامها لدى الصغار والكبار في الحياة اليومية وفي الشوارع والأسواق والمعارض وأسماء المحال التجارية، والإعلانات والنشرات الاجتماعية والاقتصادية والتجارية.. ناهيك عن الإخلال الفاضح بنحوها وصرفها في المذياع والتلفاز، وعن الدعوات الآثمة إلى تحويل التدريس الجامعي في العلوم الاجتماعية والإنسانية من اللغة العربية إلى اللغة الإنجليزية. إننا نفقد يومًا بعد يوم أسباب وآليات الضبط والسيطرة على حياة هذه اللغة، ونشهد، على أنحاء صارخة مروعة، مظاهر الانسحاب والاضمحلال والضعف التي تطولها، ولا نفهم ما الذي يثوي خلف هذا الصمت المريب واللامبالاة الفاجرة التي تبدو صارخة في غياب كامل لدور «الدولة العربية الوطنية»، المزعومة، في حماية هذه اللغة والدفاع عنها وإنقاذها من المصير الكارثي الذي ينتظرها وينتظر متعلقاتها المعرفية والثقافية والعلمية.. والوطنية!

الفن والقيم أخيرًا، وبقول وجيز

فيروز

الحق والجمال والخير، قيم أزلية أبدية أصيلة. نعرف هذا منذ أفلاطون وأرسطو. ونعرف أن كل الحضارات الفذة تعلقت بهذه القيم. ونحن من بين الذين بذلوا الوسع قديمًا في تمثّلها. ومن المؤكد أننا لا نزال على هذا العهد، أو أن علينا أن نظل متعلقين به.

الحق صنو المعرفة والعلم. وقد مر أن نصيبنا اليوم من المعرفة متعلق بمدى ما يأتينا من الغرب على وجه الخصوص، وأن إسهامنا في التقدم العلمي صفرٌ صارخ. وفي علائقنا بما ينعت بمجتمع المعرفة نبدو كالواقفين على الأبواب. مستهلكون مستنزفون غير فاعلين وغير منتجين. نحن (خارج السياق)، ولا يبدو أن أوضاعنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية و… تَعِدنا بأداء دور مشخص في هذا القطاع، على المدى المنظور. أما الجمال، الذي نقرنه عادة بتعبير (الزمن الجميل) الشائع، الذي نفترض أن الفن هو الذي يجسده أحسن تجسيد، فقد طالته في العقود الأخيرة كل رسوم «الانحطاط». منذ الأربعينيات حتى أواسط الستينيات من القرن المنصرم، وفي مصر ولبنان على وجه التخصيص، حيث مثّل هذان القطران واقع الفنون العربية الحديثة: السينما، والموسيقا والغناء، والمسرح – أدركت هذه الفنون مراتب عالية – أصيلة – من الصدق، والمعنى والفتنة والسحر، والجمال، والرقي، والنقاء. محمد عبدالوهاب وليلى مراد وأم كلثوم وعبدالحليم حافظ في الغناء، ونجيب الريحاني ويوسف وهبي في المسرح، فيروز والرحباني ووديع الصافي وسمير يزبك و… في الغناء والمسرح الغنائي.. إلخ. الأفلام الاجتماعية والغنائية الباكية والضاحكة الساخرة، الكلاسيكية والفولكلورية، السارّة اللّاذة الممتعة، الباعثة على البهجة والأمل والحياة. تحولات عميقة طالت هذا كله. انسحبت الأصالة الذاتية وانحدرت فنون الغناء والسينما انحدارًا مذهلًا. غزت أعراض التفاهة والسخف والعبث مظاهر الفن المختلفة. وبدا كأن حِلفًا قد انعقد بين «المدرسة الغنائية المصرية الجديدة»، الموغلة في التفاهة وفي التجاوزات والإيحاءات الجنسية المرذولة، وبين «مدرسة لبنانية جديدة مماثلة تتجاوز في التفاهة والانحطاط قرينتها المصرية. وأدت قنوات (أرابيكا) و(مزيكا) و(روتانا)، وبدرجة أقل (وناسة) أدورًا «مرموقة» في إشاعة الأنماط «المبذولة» من فن الغناء، الذي هو أكثر الفنون شيوعًا وطلبًا لدى فئات الجمهور الواسعة. بكل تأكيد ذلك لا يعني أن عُصبةً من الفنانين لم تظل أمينة على «الفن الأصيل الجميل»، وأنها لم تحرص على التعلق بفن نقيّ جذاب راقٍ لا تطوله نزعات المنفعة والغنى الفلكية. فذلك واقع مشهود يقطع بأن الفن الأصيل لم يرضخ لطغيان وإغراءات الفن الهابط المرذول، وبأن رموزًا فنية نبيلة ما زالت تَعَضُّ بالنواجذ على جمال الفن ونقائه وأصالته، وتتابع في المشرق وفي المغرب رسالة الفن الملتزمة بالقيمة والمعنى والمتعة والأصالة، وتكافح في وجه ما يبدو أنه «إستراتيجية» سياسية صارخة في «إفساد الذائقة» العربية!

ويظل القول عندي في (القيم) أكثر الأقوال جوهرية وخطورة. وليس ينبغي أن يكون محل قول عابر وجيز. عرضت للموضوع مرارًا، قديمًا وحديثًا، وأفردت له، على وجه الخصوص، بحثًا معمقًا أزعم أنه يدخل في باب الأصالة الحقيقية المنشودة («أولية القيم.. والعدل»، في كتابي: مرافعة للمستقبلات العربية الممكنة، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2016، ص411-467). لذا آذن لنفسي بأن أوجه القارئ إلى هذا البحث الذي من شأنه أن يشد أزري في دعوتي في هذا القول إلى أن ألهج، بالمديح والثناء، على الأصالة، وإلى أن أنبّه بقوة على أنها المعيار القاطع في تقييمنا لكل عمل ثقافيّ.