الاكتفاء بأنا مزدحمة
أقرأُ للفيلسوف زيغمونت باومان كتاب الأزمنة السائلة، هذا الكتاب يبهرك كما هي عادة باومان في كل صفحة، يتناول أزمات الإنسان وعذاباته في عصر ما بعد الحداثة، أو عصر الحداثة السائلة، أو العصر الرقمي أو عصر الثورة الاتصالية الخامسة، وكلها تسميات تليق بهذا العصر الغريب. كانت أبرز القضايا والآلام التي ناقشها باومان هي قضية اللجوء واللاجئين، وقصة الهوية والوطنية والوطن المختلقة والجديدة جدًّا في عصر المدينة المترفة والخائفة والحذرة جدًّا.
إنها سلسلة يجر بعضها إلى بعض، فالمدينة المترفة والجميلة تحتاج إلى أن تكون على أهبة الاستعداد دائمًا، فهناك عدو يتربص بها في الخارج، ونفايات داخلها تحتاج إلى أن تكنس خارجها، ونِعَمٌ ومنتجاتٌ وسلعٌ وخيراتٌ تنتظر أن توضع على الأرفف وفوق الفاترينات كل صباح، لا مكان للراحة والتوقف في عالم المدينة المترفة، ولا عجب في ذلك فروح البحث المستمر عن الكمال هي ما تقوم عليه مجتمعات الاستهلاك. لذلك حين يطرق الأغراب من لاجئين وبؤساء أبواب هذه المدن تكون طرقاتهم ضجيجًا يقطع وتيرة النغم الاستهلاكي المستمر المتواصل، وهذا ما (لا نحتاجه) ولا (تحتاجه) مدننا المتخمة. ولعل الشعار الجديد للمرحلة هو: أنا أكتفي، إذًا أنا موجود. ولعل هذه الفكرة مزروعةٌ في لا وعينا الجديد ونلحظها في خطاباتنا اليومية: أنا لا أحتاجك، أنا لا أحتاج، أنا لست بحاجة إلى هذا، وكأن (الحاجة) أصبحت هي رعب العصر!
إننا نظن أننا نعيش عصر السيولة والتدفق كثيرة وأنه لم تعد في مدننا جدران ولا حصون، لكن الواقع أن تلك الحدود موجودة ومتسعة لدرجة لا تدركها أعيننا. على سبيل المثال: نعيش في مدننا داخل بيوتنا أو شققنا الصغير منها أو الكبير، يظهر لنا أن نعيش في حركة دائبة وسيولة غير متوقفة ونتصوّر أننا نتغيّر ونتواصل، لكننا محاطون بعاداتنا التواصلية والحيوية التي تجعلنا مكتفين بأنفسنا، بمساحاتنا، عاداتنا، رغباتنا، ولا نريد زيادة عليها. كم صديقًا جديدًا كوّن أحدكم في السنوات القليلة الماضية؟ عني أنا، بالكاد تعرّفت إلى زميلات عمل جديدات، ليس لأنني قليلة الود ولكن حياتي مزدحمة بشكل كبير، لقد مات ذلك الشغف اللذيذ القديم بمعرفة الآخرين وتقصي ما وراءهم، مات ذلك الولع بمعرفة المزيد، وسماع القصص الجديدة؛ لِمَ مات؟ إنه الاكتفاء!
حتى ونحن نسافر حول العالم، هل تجرأ أحد منا وقام بمغامرة داخل الأحياء الفقيرة في أي بلد؟ حين نخرج للسياحة نذهب بالضرورة مع دليل سياحي يأخذنا لكل الأماكن السياحية الجميلة، الجميلة فقط، المنصوص عليها في كتيبات السياحة فقط، لا نرى إلا الأشياء الجميلة المرتّبة فقط، ما سواها غير مسموح، القبح غير مسموح، نرى (المعالم السياحية) ونعود لفنادقنا المتشابهة والمتفاوتة في الأسعار فقط.
نحن نتدفق ونسيل من مكان لآخر تمامًا كما يقول العم باومان، ولكن نتدفق من كوبٍ إلى كوبٍ يشبهه تمامًا، نختلف فقط في لغاتنا، ممارساتنا الدينية، كمية الملابس التي نلبسها، ونفكر ونتصرف بنفس الطريقة بشكل غير مسبوقٍ في التاريخ. وعلى كل ما نراه في حياتنا المتعبة بالبحث عن المزيد والجديد، والدوران في دوامة الاستهلاك اللذيذة وقدح آلات الرغبة وشحذها على الآخر، إلا أننا لا ندرك أننا في نهاية الأمر قد كوّنا لأنفسنا نمطًا (واحدًا) من الحياة، لا نريد زيادة عليه، لا نريد أي تدخل خارجي يخلُّ بازدحامه. لذلك ترعبنا فكرة ارتفاع الأسعار، والحروب وتدفق اللاجئين؛ لأنها تخلّ بهذا الكيان الذي ندافع عنه بكل شيء، ليس بالسنان واللسان بالضرورة، بل حتى بالإنكار والتجاهل..
إنني لن أنسى يومًا ذلك التقرير الذي نقلته بي بي سي في ذروة وحشية النظام السوري ضد مواطنيه بداية 2014م حيث كانت المراسلة تراقب صبايا وشباب في أفخم أحياء دمشق يترقبون نتائج الثانوية العامة. كان هذا الحي الغني الذي يزدحم فيه شبان بأفخم الملابس يرتجّ أثناء التصوير، حيث كانت الأحياء التي لا تبعد أكثر من كيلومترات تُقصَف ببراميل المتفجرات التي تفتقت عنها عبقرية إجرام نظام البعث. المخيف لم يكن الارتجاج بل كانت ابتسامات الشباب وأصابعهم المرفوعة للتهليل للنظام وعيونهم الخائفة من شيءٍ ما، وإنكارهم أن هناك شيئًا يحصل في العاصمة، والأفظع حديثهم عن المنح الدراسية التي تنتظرهم حول العالم! كانت المراسلة محتارةً مثلي، كيف طوّر هؤلاء الشباب هذا الإحساس العجيب بالتبلّد أمام مقتلةٍ شنيعةٍ تبعد منهم كيلومترات قليلة؟ كيف يهنأ لنا العيش -كلنا بلا استثناء- في مدننا المترفة حول العالم ونحن نشاهد في الأخبار مذابح لا تبعد منا إلا كيلومترات ونشهد بأعيننا على تلك العذابات ونقوم ببساطة بتغيير القنوات والاستمرار في حياتنا؟
الإجابة في كل الحالات تقع في الملابس الفخمة والعلامات التجارية التي تحيط بنا، العالم السحري العجيب الذي تغلغل في لا وعينا حتى صار يظهر في أحلامنا، إنها ببساطة نزعة الاستهلاك التي تعمل كمحرّك للحياة تمامًا كما عملت من قبلها نزعات الخوف والولاء والإيمان والخرافة. إن نزعة الاستهلاك ببساطة تبرمجنا على طريقةٍ محددةٍ للحياة، للتفكير والعبور داخل الأيام، تغدو المتعة هي الهدف اليومي للوجود الإنساني بدلًا من أن تصبح مكافأةً ننالها من حين لآخر، والمتعة تُستمَدُّ من الأشياء، من الوجودات المادية المحضة التي تبدأ من بهجة التعرّف على العلامة التجارية، وتنتهي بنشوة الحصول على الطلب. إن هذه التجربة الاستهلاكية الممتعة تتضخّم وتتضخّم لدرجة أن تتحوّل إلى إدمان عند الأفراد في هذه المجتمعات السعيدة، ولأجل أن تظل القصة الأسطورية الجميلة مستمرةً يجب أن تغلق حدود القلعة المقدّسة، وأن تطرد الساحرة الشريرة، اللاجئون المتدفقون من خارج الحدود، الفقراء الذين لا يمكنهم أن يصبحوا مثلنا والذين نبحث عنهم حين تزعجنا ضمائرنا لنلقي عليهم ملابسنا التي ضاقت بها خزاناتنا، لنشعر بالهدوء قليلًا بعد كل هذا التنظيف.
أذكر أنني حين كنت طفلةً في الثمانينيات الميلادية كنت أحلم بأن أصبح امرأة خارقة، أميرة جميلة مثل سندريلا وسالي، أو معلمة رسم مثل أبلا نورة. وأتساءل عن جيل Z وما بعدهم من مواليد الألفية حتى عصر أطفالي ونوعية الأحلام التي تدغدغهم في طفولتهم؟ ولمَ يطمح كثير منهم إلى أن يصبحوا يوتوبرز، مودلز أو أن يذهبوا يوميًّا إلى ستاربكس أو ماكدونالدز؟ لِمَ اختفتْ أرض الأحلام التي كانت منتهى آمالنا من خيالهم؟ ألأنها ولدت أرض أحلام جديدة على مقربة منهم وعليهم فقط أن يعبروا إليها عبر بوابة المال والشهرة؟ إنه الاكتفاء مرة أخرى، أن يسلب الأطفال قدرتهم على الخيال والتمني لحدود الكون، أن تسلب منهم تلك النشوة العارمة التي كنت أنام عليها بأن أزور الكواكب الأخرى، وأن أصعد إلى القمر وأسافر عبر الزمن، أما جيل أمي – مواليد 1940م- الذي كان يرتعب من الموت جوعًا وبردًا وعطشًا، وكانت متعته عشاء آخر النهار، فقد كانت لديه خيالاته وأساطيره التي تصل حدود النجوم وتخاطب الكواكب وتسميها.
إن ما فعلته العولمة الاقتصادية والثقافية بالعالم محيّر، فعلى الرغم من أنها وحدت ثقافاتنا وطبائعنا على نمط أميركي – صيني رخيص فإنها لم تفلح في أن تبدل خوفنا أمنًا، أو جوعنا شبعًا، كل ما فعلته هو أنها أبدلت خوفنا من الجوع والحرب والمرض والعبودية بخوف من انتهاء التخفيضات أو انتقال الحروب إلى مدننا أو الإصابة بأمراض العصر المزمنة أو التقدّم في السن. ما زلنا خائفين لأننا ما زلنا نعيش نمطًا لا نريده أن يتغير، لا نتصور أنفسنا نتحول للاجئين يومًا بسبب حرب أو كارثة بيئية رغم أن أعداد اللاجئين حول العالم تتزايد، ولا نتصور أنفسنا نتقدم في السن لنصبح كبارًا رثّين كما أصبح الأجداد والآباء الذين نكتفي بزياراتٍ خاطفةٍ لهم لا تخفف شعورهم بالنبذ من حياتنا المملوءة ولا تعكّر صفو حياتنا الرتيبة المزدحمة، كما لا نتصور أنفسنا مرضى أو معوقين أو فاقدين لأي من النعم التي تعوّدنا عليها.
لا أحد منا يكاد ينجو من هذا الواقع في الحقيقة، لكن يمكننا -كل بطريقته الخاصة- أن نقاوم ونشق طريقنا لحياة ممتلئة بالمعاني والشغف والشعور الإنساني، بعيدًا من كل الماديات المرهقة. ولن يتم ذلك من دون التخلّص من كل الإضافات الكبيرة التي أثقلتنا بها هذه الحياة، عن الهوية، والانتماء، والوطن، والأعداء، والتصنيفات والإثنيات والعرقيات والأيديولوجيات، وحق لنا أن نكون مثقلين بكل هذا مثلما أثقل كل مواطن عالمي حول الأرض. فنحن نعيش في حالة وفرة عارمة من إنتاج السلع والأشياء ونعيش حالة وفرة عارمة في الأفكار والتوجّهات والأيديولوجيات والمحتويات والقصص. وتحتاج أرواحنا المثقلة في هذا العالم إلى كثير من الراحة والخلاص من كل هذه الأثقال؛ كي تبقى الروح متجرّدة من أي شيء غير إنسانيتها المحضة.