كيف أصبح العهد القديم كتابًا.. تدوين إسرائيل القديمة
شَغَل العهد القديم المؤمنين به والقراء والباحثين والنقاد لآلاف السنين، فهو كتاب مقدس في كل من اليهودية والمسيحية، إلا أن أتباع الديانتين لم يتفقوا على حجمه ومضامينه وقبل ذلك على نصه الذي تكوَّن بشكل متطور على مدار تاريخ بني إسرائيل القديم من (الشفاهة) إلى (الكتابة)، لتثبيت نص التوراة فقط (أي أسفار موسى الخمسة وهي: التكوين، والخروج، والعدد، واللاويين، والتثنية) في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد وتدوينه كتابيًّا وهو الأمر الذي أخذ قرابة ثمانية قرون كاملة تقريبًا.
أما نص العهد القديم بكامل أقسامه وأسفاره فقد أخذ مرحلة تاريخية أكبر وأطول تُقدر بما يزيد على عشرة قرون كاملة تقريبًا، ولم يعتمد على الروايات الشفوية وحسب بل على مجموعة نصوص ومخطوطات كثيرة سواء بالعبرية أو بلغات أخرى، وساهمت فيه الكثير من أجيال الكتَبة والمترجمين.
يركز كتاب «كيف أصبح العهد القديم كتابًا؟… تدوين إسرائيل القديمة» من تأليف البروفيسور الأميركي ويليم م. شنيدويند أستاذ نقد العهد القديم بجامعة كاليفورنيا وترجمة الدكتور أحمد عبدالمقصود مدرس العهد القديم بجامعة القاهرة، وإصدار المركز القومي للترجمة بالقاهرة، على قضية التراث الشفاهي والكتابي للعهد القديم من خلال تتبع المراحل التي مر بها التراث الديني لبني إسرائيل بدءًا من مرحلة «الشفاهة» وصولًا إلى مرحلة «الكتابة». ومن ثم فإن الأهمية الرئيسة للكتاب تكمن في كونه يقدم وصفًا تاريخيًّا دقيقًا عن الكتابة عند بني إسرائيل في عصورهم القديمة وخلال مراحلها التاريخية المتتالية، وذلك من خلال الإجابة عن عدة تساؤلات؛ أبرزها: ما وظيفة (الكتابة) عند بني إسرائيل؟ وكيف انعكس الاهتمام المتزايد بالكتابة في إسرائيل القديمة على مسألة بناء العهد القديم وأدبه وتكوينه؟ وكيف ينظر العهد القديم نفسه إلى عملية تدوينه وانتقاله من الشفاهية ليكون نصًّا مكتوبًا؟، وكيف عبَّرت نصوصه عن ذلك؟ وما العلاقة بين التراث الشفوي والنص المكتوب عند بني إسرائيل؟
مَنْ كتب العهد القديم؟
مَن كَتبَ العهد القديم؟ هو سؤال ساحر وإشكالي في آن، إلا أن أهميته الحقيقية ليست في أن نعرف مؤلف العهد القديم لكن في معرفة متى كُتب العهد القديم؟ وبخاصة أن العهد القديم عبارة عن مجموعة من الكتب وليس نتاج مؤلف واحد، علاوة على أنه من الصعب تحديد إلى أي عصر ينتمي أي من نصوص العهد القديم وإلى أي مؤلف أو كاتب بالتحديد، بل إنه مقيد بتاريخ الشعب الذي كتبه، ثم قرأه، ثم تناقله، ثم أعاد كتابته، ثم أعاد قراءته من جديد، ومن ثم فإجابة السؤال ترتبط أكثر بالعصر الذي جُمِّعَ فيه التراثُ القديم وكتابته وتحريره، ثم إعادة كتابته إلى أن جُمع في النهاية في كتاب واحد سُمي العهد القديم.
لم يكتسب هذا السؤال أهميته إلا بعد ظهور الحضارة اليونانية في القرن الرابع قبل الميلاد، أي بعد كتابة معظم أسفار العهد القديم؛ إذ لم يكن ذلك السؤال مثار اهتمام في العالم السامي القديم، كما أن اللغة العبرية القديمة لا تعرف لفظًا واحدًا بمعنى (مؤلف) وأقرب لفظ لذلك هو סופר الذي يعني كاتبًا وليس مؤلفًا، ويشير كذلك إلى هيمنة الثقافة المكتوبة، رغم أن المجتمع الإسرائيلي القديم كان شفاهيًّا، ومع ظهور الحضارة الهيلينية وسيادة اللغة اليونانية ظهر مفهوم جديد هو (التأليف) وأصبح أي نص مكتوب مرتبطًا من ناحية مكانته وقيمته بمؤلفه، وكان من الطبيعي أن يشعر التراث الديني اليهودي بالاضطرار إلى إيجاد مؤلفين. وسُجلت أولى المحاولات لذلك في لفائف البحر الميت التوراتية التي اكتُشفت عام 1947م، وكان ملحوظًا فيها إحلال ضمير المتكلم (أنا)، محل ضمير الغائب (هو) الذي تحدث به موسى إلى ربه؛ وذلك لإظهار الإله على أنه مؤلف النص.
وعلى العكس من ذلك، فإن العهد القديم لا يُبدي أي اهتمام بتحديد هُوية مؤلفه، وهو ما مثَّل إزعاجًا للقراء اليهود الذين عاشوا في العصر الهيليني؛ إذ كانت شرعية النصوص ترتبط بمؤلفها، وهو ما أدى إلى ظهور بعض التفسيرات الخاصة بأن بعض الأسفار تُنسب لمن تحمل أسماءهم مثل أسفار صموئيل وأشعياء وأرميا. ثم بدأت تظهر في العصر الحديث فكرة أو نظرية مصادر التوراة على يد يوليوس فلهاوزن (1844-1918م) -أحد أشهر المتخصصين في مجال النقد الأعلى للعهد القديم وأكثرهم تأثيرًا في هذا المجال- الذي حاول أن يبرهن على نسبتها إلى مصدرين أساسيين هما اليهوي والإلوهيمي، ثم ظهور مصدرين آخرين بعد السبي البابلي وهما التثنوي والكهنوتي.
وخلال القرن الماضي، سيطرت نظريات النقد المصدري تلك على مجال دراسات العهد القديم، رغم معارضة المتدينين اليهود لها لأنها تُضعف من مكانة نص العهد القديم في قلوب المؤمنين به، علاوة على صعوبة تطبيق هذه النظريات على العهد القديم نظرًا لأنه لم يكن يهتم بمسألة من هو مؤلف نصوصه؛ إذ إن هوية المؤلف لم تكن أمرًا مُلِحًّا يؤثر في مكانة الرسالة الدينية أو معنى النص.
بدايات الكتابة
كانت للكتابة قوة رُوحية في المجتمعات التي لم تتعلم الكتابة بعد في منطقة الشرق الأدنى القديم، فقد كانت الكتابة في بادئ الأمر وسيلة لإحداث الرهبة الدينية ووُصِفتْ بأنها تمنح البركة الإلهية، ووصفت في التراث الديني اليهودي القديم بأنها أداة إلهية لبقاء الكون، واحتل (الاسم المكتوب) تحديدًا مكانة جوهرية في الفكر الديني اليهودي، فقد كان تغيير اسم الشخص وتعليله أو تفسيره من الأساطير المهمة التي وردت في التوراة والتي تمحور حولها الكثير من الرؤى والعقائد؛ مثال: أسطورة تغيير اسم يعقوب إلى إسرائيل الواردة في سفر التكوين 32/24-38.
وصلت الطبيعة الروحية للكتابة إلى ذروتها عندما أُعطِيَ موسى لوحي الكتابة على جبل سيناء، اللذين وُصفا في التوراة بأنهما (كُتبا بإصبع الإله) وهو الأمر الذي منحهما قوة سحرية استثنائية، رغم أن المجتمع الإسرائيلي القديم كان بدائيًّا وبدويًّا، ووُصف في العهد القديم نفسه بأنه (نصف بدوي) سيطرت عليه حياة الرعاة الرُّحَّل، ومن ثم كان من اللافت للنظر أن اللغة العبرية لا يوجد بها فعل مستقلّ يعني (يقرأ) بل إن الفعل العبري (קרא) يعني ينادي أو يعلن، ولم يكن في إسرائيل القديمة يستخدم بمعنى القراءة.
كما أن بدايات أدب العهد القديم تضمنت أناشيد كان الشعب يغنيها، إلا أنها كانت تنتمي إلى (الأدب الشفوي) وتناقلها بنو إسرائيل ومن ضمنها أنشودة عُرفت باسم ( أنشودة موسى) التي لا تزال تُتلى كجزء من الخدمة الصباحية في المعابد اليهودية، والتي تعد من أقدم النماذج الشعرية في أدب العهد القديم، ويؤرخ لها ببدايات القرن الثالث عشر قبل الميلاد.
مع مرور الوقت بدأت هذه الأناشيد وغيرها في التطور، وظهر من يعرفون بـ( كُتَّاب بني إسرائيل الأوائل) بعد استيطان بني إسرائيل أرضَ كنعان؛ لذلك فإن أسلوب الكتابة لديهم ظهر متأثرًا بالثقافة الكنعانية الزراعية، وبدت الكتابة في إسرائيل القديمة خليطًا من الثقافة البدوية البدائية والثقافة الكنعانية المتمدنة، علاوة على عدم خلوها من التأثيرات المصرية الفرعونية القديمة.
كان لظهور الإمبراطورية الآشورية أثرًا بالغًا في البدايات الأولى للكتابة عند بني إسرائيل، بل إن العهد القديم بدأ يتكون كتابيًّا خلال هذه الحقبة، فهذه الإمبراطورية اهتمت بشكل بالغ بالكتابة والتسجيل والتدوين، واحتلت مناطق واسعة من الشرق الأدني القديم، ومنها مناطق يعيش فيها بنو إسرائيل، ونقلوا إليهم (مهارة الكتابة) التي استخدمت في أوساط اجتماعية مختلفة؛ من ضمنها -بطبيعة الحال- طبقة الكهنة. ومن ثم فإن انتشار الكتابة في مملكة يهودا في القرن الثامن عشر قبل الميلاد لم يكن ظاهرة خاصة بهذه المملكة وحدها بل جزءًا من توجه أكبر في الشرق الأدنى القديم ارتبط بتوسع الإمبراطورية الآشورية.
في مرحلة لاحقة، ظهر من سموا بـ(الأنبياء الكتبة) وهم أشعيا وميخا وعاموس وهوشع، والغريب أنهم لم يكتبوا أي شيء، فقد أمرهم الله بالحديث وليس الكتابة، لكن أطلقت عليهم هذه التسمية؛ لأنه أُضيفت إلى أسفارهم داخل العهد القديم إضافات تحريرية تجمع كلمات الوحي المُنَزَّل عليهم، وهو الأمر الذي أسهم في التأريخ لزمن هؤلاء الأنبياء؛ إذ تعكس الإشارات القليلة للفعل العبري (כתב كتب) في سفر أشعيا 1-39، كيف أن الكتابة في هذه الحقبة كانت لها قوة سحرية، وكانت أداة لبلاط الملك عند بني إسرائيل وإدارته؛ فاستُخدمت في إطار تسجيل أحداث الحروب والحديث عن الناجين منها.
كما حدث عند بني إسرائيل القدماء وتحديدًا في عصر الملك يوشيا، وهو ما يمكن تسميته بـ(ثورة النص)؛ إذ بدت الحاجة ماسَّة في عصره لمعرفة القراءة والكتابة بسبب وجود نهضة أدبية انعكست على ثورة النص، وفي عصره انتقلت الكتابة من أيدي طبقات اجتماعية عليا مثل الكهنة إلى أيدي عامة الناس، وانتشرت خارج نطاق الأعمال الإدارية للحكومة.
وقد تزامن مع هذه الثورة التحول إلى المدنية في عموم بني إسرائيل الذين تحولوا من مجتمع بدوي إلى مجتمع زراعي/ حضاري يتصف بالتمدُّن إلى حد ما، وهو ما أدى إلى تطور الكتابة بحكم الضرورة العملية للحياة والاحتياجات اليومية سواء التجارية أو الإدارية، كما بدأ تعلم الكتابة بحكم المنافع التي يمكن أن تؤديها، ويعد العدد الضخم من الأختام الشمعية المكتوبة بالعبرية التي تعود لهذه الحقبة دليلًا على مدى انتشار الكتابة.
كان انتشار الكتابة في هذه الحقبة ومعها الإحساس بقيمة الكتابة وأصالة مكانتها نتيجةً طبيعيةً لتطور الوضع السياسي، إلا أن ذلك أظهر تبايناتٍ اجتماعيةً نتيجة ذلك الصراع بين مجتمع البدو ومجتمع المدينة داخل مجتمع بني إسرائيل، وهو الأمر الذي أدى إلى إدخال تعديلات كتابية على سفر التثنية لتوضيح مركزية الكتابة وأهميتهما والتخلص من أثر العبادات الأجنبية، مما أدى إلى إبراز سلطة النص الديني، على نحو جعل من الوضع الاجتماعي لدى بني إسرائيل خلال هذه الحقبة أكثر ملاءمة للكتابة؛ إذ لم تعد مكانتها مقتصرة على أوامر البلاط الملكي، بل تحولت إلى أداة للفهم الديني العميق، وهو ما مكَّن النص المكتوب من الانتشار على نحو واسع.
وقد تجلَّت ثورة الكتابة خلال هذه الحقبة في أنها جعلت السلطة المرجعية تنتقل من التراث والجماعة التي وضعته إلى النص وقارئه، فلم يعد الأمر كذلك في حاجة إلى الصوت الحي، بل إلى طرائق تعليم تقليدية وبِنى اجتماعية للمعرفة، وتحولت المرجعية الدينية في المجتمع من التراث الشفوي للآباء والشيوخ إلى جيل يكتب ويحمل مفاتيح الحكمة والمعرفة، فاحتلت النصوص المكتوبة محل الحكمة التراثية الشفاهية التي ترتكز حول الجماعة، وأصبحت شريعة (توراة) الرب تشير إلى نص مكتوب وليس لحكمة ترتبط بالتراث الشفوي للجماعة وكلام الأنبياء الذي يبلغونه للناس.
اتسمت العلاقة بين التراث الشفوي والنص المكتوب بالاتصال والتعارض في آن واحد، فقد اعتادت المجتمعات التقليدية في منطقة الشرق الأدنى القديم على الاعتماد على التراث الشفوي، ومع ظهور النصوص المكتوبة صار هناك تحدٍّ وصل إلى حد استئصال مصادر الحكمة التراثية، لكن النص المكتوب تمكن في النهاية من أن يحلّ محلّ الأنبياء والتراث الشفوي، وأصبحت (كلمة الرب) مرتبطة بالنص المكتوب أكثر من ارتباطها بالخطاب الشفوي للأنبياء. إلا أن ذلك لم يكن معناه انتهاء الصراع بين التراثين الشفوي والمكتوب، بل إنه استمر ولعب دورًا مهمًّا في الديانة اليهودية خلال مراحل لاحقة.
النص المكتوب
تعد عملية كتابة أسفار التوراة الخمسة مثالًا جليًّا على تدوين الديانة الإسرائيلية القديمة وكتابتها، وفي هذا الصدد نحن أمام موقفين متباينين، فحينما ننظر إلى سفر الخروج؛ الإصحاحات 19-23 تحديدًا، نلحظ عدم الاهتمام بأن يكون العهد القديم نصًّا مدونًا، لكننا سنجد العكس حينما ننظر إلى سفر التثنية؛ إذ يجعل السفر من عملية التدوين جزءًا حيويًّا من الوحي.
كما يعد موسى -عليه السلام- هو الشخصية الرئيسة في عملية تدوين التوراة وكتابتها؛ إذ ترتبط عملية تدوين التوراة وفقًا لتاريخ النصوص الأدبية بدور موسى في عملية الوحي، فموسى هو مُخلّص بني إسرائيل في المقام الأول، وثانيًا هو من كان يتلقى الوحي ويتحدث باسمه على جبل سيناء وهو من يتلقى الألواح الحجرية، وفي نهاية الأمر يتطور دور موسى ليصبح مؤلفًا للديانة اليهودية ومرجعية لها، وظلت الكتابات والتراث المنسوب لموسى يتسع محتواه حتى أصبح الحديث عن كتابته للتوراة كلها، وظل يهود العصر اليوناني بين 300 ق.م و300 م يكتبون أسفارًا مثل سفر اليوبيلات وينسبونها لموسى انتحالًا، وخلال الحقبة التي أعقبت دمار الهيكل الثاني 70م جمع بعض الحاخامات أمثال عقيبا ويهودا الناسي التراثَ التشريعيَّ الشفويَّ في مجموعة كتابات عُرفت باسم المشنا والتوسفاتا والتلمود، وهذه الأعمال جميعها نالت مرجعيتها وسلطتها نتيجة نسبتها لموسى، ونقلها عنه يشوع، ونقلها يشوع إلى الشيوخ، ونقلها الشيوخ إلى الأنبياء، ونقلها الأنبياء إلى رجال أو حاخامات المجمع الكبير (السِّنْهدرين).
أما المشهد التوراتي الذي يصور موسى ممسكًا بالوصايا العشر مكتوبة على اللوحين الحجرين ، فهو من إنتاج سفر التثنية الذي تعني تسميته بـ Deuteronomy في الإنجليزية Second law الشريعة الثانية، والذي يتضمن خطب موسى إلى بني إسرائيل قبل أن يعبروا نهر الأردن متوجهين إلى أرض كنان، وتشتمل هذه الخطب على تكرار مسهب لقصة وحي سيناء متضمنًا نسخة متطورة من الشريعة التي أصبحت (مدونة)؛ إذ تكررت الإشارة إلى مسألة الكتابة مرارًا في سفر التثنية، فيظهر من مطالعة سفر التثنية امتزاج الشفوي مع المكتوب، بشكل جعل من الوحي الإلهي نصًّا مكتوبًا.
يحيلنا سفر التثنية إلى عملية تدوين التوراة، التي كانت عملية متواصلة؛ إذ بدت الكتابة عنصرًا مهمًّا من عناصر الوحي، وهو ما يدل عليه (لفيفة المعبد) التي وُجدت ضمن النقوش المكتشفة في لفائف البحر الميت، وكُتبت على أيدي إحدى الفرق الدينية التي سكنت منطقة خِربة قمران منتصف القرن الثاني قبل الميلاد، وتتشابه محتوياتها مع سفر التثنية رغم تغيير بارز في صيغ الفعل وطرائق التعبير.
مع ذلك فإن علمية التدوين كانت أكثر تعقيدًا من أن تكون مجرد تطور قائم على التوالي الزمني، وهي ليست عملية خط زمني بسيطة، فدور النص والتراث الشفوي عند بني إسرائيل قديمًا وفي مرحلة اليهودية التكوينية كان دورًا معقَّدًا، إضافة إلى دور العلاقة المتوترة بين التراث الشفوي اليهودي وبين الشريعة المكتوبة، وهو ما يعكس الخلفيات الاجتماعية المختلفة للجماعات والبيئات المختلفة في التاريخ الإسرائيلي القديم وفي مرحلة اليهودية التكوينية.
وكانت إصلاحات الملك يوشيا على سفر التثنية ثورية جدًّا ضد نخب المدينة والكهنة، وانتقلت مرحلة تدوين التوراة من (قلم الكتبة الكاذب) إلى (قلم الشعب والعوام)، ومن ناحية أخرى كان التراث الشفوي وكلمات أنبياء بني إسرائيل يرحب بها على أساس أنها الحكمة الحقيقية وأنها مرجعية دينية لا يمكن تجاهلها، وبشكل طبيعي اكتملت النصوص المكتوبة لتحل في النهاية مكان التراث الشفوي.
كما كان السَّبْيُ البابلي 586 قبل الميلاد، حدثًا فاصلًا في تاريخ تدوين ديانة بين إسرائيل؛ إذ ظهرت الحاجة المُلِحَّة لـ(الكتابة) كاستجابة طبيعية لمحاولة حفظ تراث الجماعة الإسرائيلية، وظهر في أدب العهد القديم ما سُمِّي بـ(معجم الصدمة)، الذي يعني تلك المصطلحات التي استُخدِمت في وصف السَّبْيِ البابلي مثل ( מוסרה أي قيد أو رابط)، وهي كلمات استخدمت كاستعارات على السجن والعبودية، وأُضيف إليها استعارات تتعلق بالعبودية في مصر كاستعارة تاريخية مهمة عن تجربة المَسْبِيِّينَ في بابل.
وتعد قصة سفر أرميا من أغرب القصص في تاريخ تدوين العهد القديم، فنحن أساسًا لدينا سفران مختلفان لأرميا؛ فهناك سفر أرميا غير القانوني الذي اكتمل قبل السَّبْيِ البابلي الثالث لمملكة يهودا عام 582 قبل الميلاد، وجاء التلميح إليه داخل سفر أرميا القانوني نفسه؛ إذ إن سفر أرميا القانوني نفسه جاء تحريره مرتين، فتعرض بذلك إلى مصدرين مختلفين، وهو ما يمكن أن يرشدنا إلى فهم موضوع تكوين العهد القديم وتدوينه خلال السبي البابلي؛ إذ يُظهر اختلاف ترتيب الإصحاحات في نسخ مختلفة من هذا السفر ولا سيما النسخة اليونانية ونسخة الترجمة السبعينية منه، أن النصف الأول من السفر يعود لحقبة ما قبل السبي، أما النصف الثاني أي ما بعد الإصحاح 25 منه يعود لحقبة بعد السبي البابلي، ولذلك كان ترتيب النصف الثاني مختلفًا تمامًا، رغم أن محتوى الوحي والنبوءات يتطابق إلى حد بعيد.
أما في العصر الفارسي، فإنه في الوقت الذي أصبحت فيه العبرية لغة هامشية بذلك العصر؛ ازدادت الكتابة نفسها أهميتها، وهو ما أثَّر في أدب العهد القديم الذي دُوّن في حدود الإمبراطورية الفارسية علاوة على تأثير الآرامية وهو ما ظهر في سفري عزرا ونحميا؛ إذ قُدمت بهما (الكلمة المكتوبة) كمفهوم مركزي في الفهم الديني.
النص النهائي
أثبتت الشواهد الأثرية أن الكتابة لعبت دورًا كبيرًا في تدوين أدب العهد القديم، كما أن ذلك ظهر داخل نصوص العهد القديم نفسه وتحديدًا من خلال تطور الوعي بأهمية الكلمة المكتوبة في روايات العهد القديم تحديدًا من خلال إصلاحات الملك يوشيا نهاية القرن السابع قبل الميلاد.
وقد كان هناك مدّ وجزر بين التراث الشفهي والنصوص المقدسة التي بدأت مع إصلاحات يوشيا، ومرت الكلمة المكتوبة بطرق صعبة لتصل إلى حالتها النهائية التي وصلتنا على شكل كتاب مقدس ونص نهائي، وثمة قضيتان شَكَّلَتَا هذا الطريق؛ الأولى هي ما حدث من شد وجذب بين الشفاهية والكتابة، أما الثانية فهي التنافس الذي حدث بين الشفاهة وتدوين النصوص في مفترق طرق، وكان طريق الشفاهية هو الأطول.
مع وقوع السبي الروماني لليهود عام 70 ميلادية، تراجعت قوة الكهنة والنخب الاجتماعية، واختفت بعض الفرق الدينية اليهودية التي كانت تمثل سلطة النص، ومع دمار اليهكل على أيدي الرومان عادت مرة أخرى سلطة الكلمة الشفاهية لتأكيد نفسها من جديد.
ولما ظهرت المسيحية تصارعت معها اليهودية التقليدية (الحاخامية)، وهو الأمر الذي أدى إلى زيادة سلطة النص المكتوب للعهد القديم مع الإقرار كذلك بمرجعية التراث الشفوي، غير أن المسيحية تحديدًا أقرَّت بسلطة النص المكتوب أكثر، لتنجذب إليها اليهودية التي وضعت تراثها الشفوي في ثوب مكتوب وظهر على شكل (التلمود).