الحداثة الرقمية وإعادة تشكيل الثقافة
إن التحليل الثقافي يذهب إلى ما هو أبعد من النص ليحدد الروابط بين النص والقيم من جهة، والمؤسسات والممارسات الأخرى في الثقافة من جهة أخرى. ويرى بعض الداعين إلى التحليل الثقافي أن هذا المنهج يسعى – بالاتكاء على القراءة الفاحصة- إلى استعادة القيم الثقافية التي امتصها النص الأدبي؛ لأن ذلك النص قادر على أن يتضمن بداخله السياق الذي أُنتج من خلاله، ومن ثم يمكن -نتيجة لهذا- تكوين صورة للثقافة بوصفها تشكيلًا معقدًا. (الرويلي، ميجان، والبازعي، سعد (2007). دليل الناقد الأدبي. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي. ط5.).
يمكن القول: إن النقد الثقافي «ليس منهجًا بين مناهج أخرى، أو مذهبًا أو نظرية، كما أنه ليس فرعًا أو مجالًا متخصصًا من بين فروع المعرفة ومجالاتها، بل هو ممارسة أو فاعلية تتوفر على درس كل ما تنتجه الثقافة من نصوص؛ سواء كانت مادية أو فكرية. ويعني النص هنا كل ممارسة؛ قولًا أو فعلًا، تولِّد معنى أو دلالة.» (قنصوه، صلاح (2007م). تمارين في النقد الثقافي. القاهرة: ميريت، ط1.).
ولا يعني النقد هنا كشف الإيجابيات والسلبيات، بل يعني بيان الإمكانات المتاحة والحدود التي ينبغي الوقوف عندها في إنتاج الدلالات واستقبالها في حال أية ممارسة ثقافية. ويتبدى ذلك في إجراءات التفكير والتحليل والتفسير. وهذا يعني أن مجال النقد الثقافي هو ما يسمى الدراسات الثقافية التي تنطوي على دراسة الثقافات الرفيعة والشعبية والهامشية والأيديولوجيات والأدب والحياة اليومية ووسائل الإعلام والنظريات الفلسفية والاجتماعية وغيرها؛ على أن يتخذ من كل ذلك أدوات للتحليل والتفسير، من غير هيمنة لإحداها على سائرها أو استبعاد بعضها عن عمد. وهذا يعني أن النقد الثقافي لا يمارس عمله كأنه خطاب متخصص أو حقل منهجي مستقل؛ مثل الخطاب الفلسفي أو السياسي أو الاقتصادي الذي يتبنى أدواته وخطواته الإجرائية الخاصة، فلا يمكن التسليم بوجود واقع أو ظاهرة خارج الممارسات المولِّدة للمعنى، وهي في مجملها وسائط ثقافية. ( قنصوه، ص ص 6-7).
وإننا لنجد كثيرًا من الأبحاث في مجال الدراسات الإنسانية يتجلى في عنوانها عبارة «قراءة ثقافية». ولعل الأكثر دلالة أن توسم تلك الأبحاث بأنها «قراءة نقدية ثقافية»؛ فكل قراءة تسائل الثقافة أو تتخذ من التحليل الثقافي أداة لكشف الأنساق هي بطبيعتها قراءة تنتمي إلى النقد الثقافي ولا تكون بمنأى عن حقول معرفية أخرى. ويبدو أنه قد كُتب على الثقافة العربية أن تشهد التبشير بميلاد نظريات، ونعي غيرها، في حين أنها تقف مكتوفة الأيدي أمام المشاركة الفعالة نقدًا وتنظيرًا. وها هي المكتبة العربية يضاف إليها كتاب بالغ الأهمية ينتمي إلى حقل النقد الثقافي؛ أعني كتاب «الحداثة الرقمية» للناقد الثقافي البريطاني آلان كيربي، وذلك عن مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر بالقاهرة، بترجمة زين العابدين سيد محمد، ومقدمة كتبها هاني الصلوي. يتناول الكتاب ما سمّاه الحداثة الرقمية منطلقًا من مرحلة ما بعد الحداثة التي حدد «جيمسون» تاريخ ظهورها بحقبة الخمسينيات عندما أصبحت الحداثة ذات طابع مؤسسي. وصحيح أنه ليس هناك ما يؤكد فرضية الموت النهائي لما بعد الحداثة، لكن كيربي يرى أن الحداثة المبكرة أطلت برأسها وتشكلت على أطلال سابقتها.
منظور ثقافي جديد
يُؤرِّخ الكاتب للحداثة الرقمية المبكرة بالنصف الثاني من تسعينيات القرن العشرين؛ حيث يراها قد حلَّت محلَّ ما بعد الحداثة، لتؤكد وجودها بوصفها منظورًا ثقافيًّا جديدًا لقرننا الحالي. ويرى الكاتب أنها تدين في ظهورها وهيمنتها لما يسمى بـ«حوسبة النص» التي يرى أنها غيرت شكل النص، وسوف تستمر في تطويره، وتغيير طريقة إنتاجه واستهلاكه وشكله ومحتواه واقتصاده وقيمته، كما يرى أنها تحمل في طياتها شكلًا جديدًا في كتابة النصوص، يتسم -في أنقى حالاته- بالتدفق والعفوية وسرعة زوال الإبداع الفكري والاجتماعي المتعدد الذي لا يُعرف له مؤلف بعينه، وهي تقدم -فضلًا عن كونها ثورة في كتابة النصوص- شكلًا ومحتوى وقيمة نصية جديدة، وأنواعًا جديدة للمعاني والمكونات والاستخدامات الثقافية. (كيربي، ص ص 15، 18).
الغريب في الأمر أن الكاتب ظل –في مطلع كتابه- يجادل حول ظاهرة الحداثة وما بعدها، بوصف كل مرحلة منهما ظاهرة إنسانية تتمتع بطابع الشمولية، لكنه حين انتقل إلى وريثتهما -أعني الحداثة الرقمية- تدثَّر بِدِثار النصوص (وإن جاء ذلك بالمعنى المتسع لها) وارتكن إلى جدارها، وأغمض عينيه عما سواها. وهكذا نراه يعرف الظاهرة الجديدة بأنها تحول ثقافي، وشكل جديد من النصية أو كتابة النصوص، وثورة في طرق الاتصال والتنظيم الاجتماعي اكتسبت مسحة متميزة من سياقاتها الجديدة. (كيربي، ص 95) ينظر آلان كيربي إلى الظواهر الثقافية في العالم المعاصر من منظور النقد الثقافي؛ فهو يموضع ذاته في إطار الثقافة العالمية على نحو لا يدعي الموضوعية المطلقة، كما أنه لا يبدي انحيازًا إلى نوع بعينه من النصوص، ولا ينحاز إلى السلطات المؤسسية التي تمارس هيمنتها. والحق أنه لا يدعي أنه يمتلك القدرة على جمع الظواهر الثقافية في إهابٍ واحدٍ، بل يرى أن وهم التحليل الثقافي الشامل يقوم مقامه تحليل ما يسمى المهيمن الثقافي؛ وهو ما اختزله في الحداثة الرقمية التي يراها الملمح الرئيس المهيمن على المرحلة الثقافية الراهنة، تاليًا لما بعد الحداثة، وإن تداخل معها بعض التداخل؛ فالحداثة الثقافية إذن منطق سائد ونمط مهيمن، وليس وصفًا شاملًا لكلّ الإنتاج الثقافي المعاصر.
لا يدّعي الكِتاب أنه يبشِّر بالحداثة الرقمية، ويبارِك قدومَها المجيد، بل إنه يرصد الظواهر الثقافية أو الواقع الثقافي بنهج يحاول التزام الموضوعية الممكنة. ويمكننا –في هذا السياق- أن نلاحظ إشارته إلى أن الحداثة الرقمية -التي تدعمها التكنولوجيا وعالم الإلكترونيات- قد أفرزت ثورة نصية عنيفة، لدرجة أن ما أحدثته من اهتزاز لا يزال عصيًّا على الاستيعاب.
سمة فارقة
يقدم الكاتب أمثلة على النصوص المبشرة بالحداثة الرقمية، من مجالات مختلفة، من بينها السينما وفن التصوير والصحافة والتلفزيون والموسيقا والأدب والفنون الاستعراضية، بل ما قد نجادل بشأن نصيته مثل ألعاب الفيديو، لكنه يركز –بحكم اهتماماته الخاصة- على السينما على وجه الخصوص، ويؤرخ سينمائيًّا لبداية الحداثة الرقمية بفِلْم «قصة لعبة Toy Story»، الذي يراه سمة فارقة لحداثة رقمية؛ بوصفه أول فلم يُنفَّذ بالكامل بوساطة الكمبيوتر. وعلى المستوى الفني، كان عملًا جديدًا بامتياز. والطريف أنه موجَّه أساسًا إلى الأطفال، ويتميز بتهجينه أو خلطه بين الطرائق القصصية للصغار حيث يمزج تقاليد سينما الأطفال كإعداد الرسوم المتحركة والرسم المنظوري للطفل والسحر أو الخيال (كالألعاب التي تدب فيها الحياة) من ناحية، وما ينتمي من ناحية أخرى للكبار؛ مثل أفكار الضياع والعودة والنكات للبالغين عن «بيكاسو»، والإلماحات إلى أفلام الرعب وما إلى ذلك. (كيربي، ص 28).
يشير الكاتب إلى سمة أخرى للحداثة الرقمية المبكرة تخالف سمات ما بعد الحداثة، وهي الميل إلى الواقعية المفرطة كما تجلت لدى جماعة سينمائية دانماركية ظهرت قبل مطلع الألفية الثالثة، تدعى «دوغما 95»؛ فقد نظرت إلى فكرة الحقيقة (أو الواقعية) بوصفها سامية لا يختلف عليها اثنان؛ فمع الحقيقة يأتي الواقع واضحًا لا لبس فيه ومشتركًا عالميًّا. وكان لزامًا أن تُنفذ الأفلام في أماكن حقيقية ومؤثرات حقيقية وأصوات حقيقية، في زمن حقيقي، وأن تتكون من أحداث حقيقية لا تفسدها التقاليد النوعية للفن السينمائي، وتتجنب أي نوع من إحداث مؤثرات الإخراج والتصوير بوساطة تكبير الصورة سواء في أثناء التسجيل أو بعد الإنتاج؛ فكأنها بذلك تنتزع المسحة الخيالية من القصص المؤلفة. (كيربي، ص 47) وهكذا يكون إحساس الحداثة الرقمية بالواقعية والبعد الزمني مخالفًا لما بعد الحداثة؛ حيث تكون ما بعد الحديث –وهي تتلاعب مع النصوص السابقة بالمعارضة والاقتباس والتهجين- عينها على الماضي؛ تستغرق الحداثة الرقمية في هنا والآن، كأنها في حالة أشبه بالغرق في الحاضر النصي.
والسؤال الذي يجيب عنه الكاتب باستفاضة في مواضع مختلفة من كتابه، هو: هل لنص الحداثة الرقمية سمات خاصة؟ ويبدو أن الكاتب أميل إلى أن له سمات تميزه، وإن ظل بعضها لصيقًا بمراحل ثقافية أخرى، أو بشَّرت به أو استشرفته على أقل تقدير؛ ويمكن تلخيصها فيما يأتي:
أولًا- الاستمرارية؛ فقارئ النص التقليدي، ينتهي زمنه بعد صياغته أو الانتهاء من كتابته، أما زمن النص الحداثي الرقمي فيبدو أن له بداية ما ولكن ليس نهاية.
ثانيًا- العرَضية؛ بمعنى أن المصادفة تضعه في حالة احتمال دائم بحيث يأخذ مسارات واتجاهات متعددة.
ثالثًا- التلاشي أو سرعة الزوال؛ حيث إن النص الحداثي الرقمي لا يدوم أو يستمر. ويصعب إلى حد بعيد فنيًّا تقييده أو أرشفته؛ ولا أهمية لقابليته للاستنساخ والتكرار.
رابعًا- إعادة الصياغة والتعديل للأدوار النصية؛ وهو ما يعني إعادة تعريف النص الحداثي الرقمي –جذريًّا- للمكونات الوظيفية النصية: القارئ والمؤلف والمشاهد والمنتج والمخرج والمستمع والمقدِّم والكاتب.
خامسًا- النص مجهول المؤلف؛ وإذا لم يكن مجهول المؤلف مجهولًا حقيقة، فإنه يميل إلى التمويه على الاسم الحقيقي للمؤلف.
سادسًا- النص ليس له حدود مادية كالكتاب التقليدي.
سابعًا- الرقمية الإلكترونية؛ إذا خرج النص الحداثي الرقمي من رحم الرقمنة أو الثورة الرقمية.
ويلاحظ أن كثيرًا من تأويلاته للحداثة وما بعدها يرتبط بالتفسير الثقافي لوضع العالم في العصر الراهن، حيث تستعاد السرديات الكبرى لتتمثل الأيديولوجية المهيمنة -من وجهة نظر النقد الثقافي- في النزوع الاستهلاكي الذي يلقي بظلاله على كل الممارسات الحياتية والثقافية. يتناول كيربي تلك النزعة الاستهلاكية الشاملة في الفصل السابع (الأخير) من كتابه، تحت عنوان: «نحو مجتمع حداثي رقمي»، ويستخدم في ذلك الفصل لغة تقطر أسًى على حال المجتمعات الغربية، خصوصًا المجتمع البريطاني، ليظل في النهاية سؤال يلحّ على ذهن قارئ كتاب الحداثة الرقمية: هل يبشِّر آلان كيربي بميلاد الحداثة الرقمية أم بموتها الوشيك؟