المجلات الثقافية السعودية ومواجهات التحديات!
يحمل هذا العدد من «الفيصل» الرقم 500 ويتزامن مع مرور أربعين عامًا على انطلاقة المجلة، شهدت خلالها «الفيصل» تحولات مفصلية وخاضت تجارب مهمة وواجهت تحديات صعبة. وفي هذه المناسبة، ننشر مقالًا للدكتور خالد الرفاعي، عن أحوال المجلات الثقافية، عربيًّا وسعوديًّا.
تعدّ المجلات الثقافية واحدة من أهمّ الأدوات التي غذّت العقل والوجدان العربي منذ بدايات العصر الحديث، وواحدة من أكثر الوسائل استخدامًا في المشروعات النخبوية الرائدة، التي ساهمت في «مواجهة الاستعمار»، و«تحرير الهوية العربية»، و«إحياء التراث»، و«إعادة الاعتبار للأدب والفنّ»، و«تجديد الفكر». وما من أحد يستطيع التقليل من القيمة الثقافية التي خلّفتها مجلات عربية رائدة كالمقتطف 1876م، والأستاذ 1892م، والمشرق 1898م، والهلال 1892م، والمجلة الجديدة 1929م، والرسالة 1933م، والفكر المعاصر 1965م، ومواقف 1969م، والناقد 1988 وغيرها؛ فقد مثلت –بتنوّعها واختلاف منطلقاتها وأدواتها وغاياتها- توق المثقف العربي إلى التجديد والتواصل الحضاري، وصراعه من أجل الهوية العربية، ورؤيته الجديدة للذات والآخر. كما قدمت صورة واسعة للاختلاف الفكري بين النخب تجاه هذه الموضوعات وغيرها، ولا تزال المواد التي نشرتها هذه المجلات، والمسارات الفكرية والثقافية التي اجترحتها تجذب انتباه المؤرخين والراصدين والمعنيين بقراءة العقل العربي إلى يومنا هذا، بل ربما كانت فاتحة لأسئلة ومراجعات جديدة.
ولم يكن المشهد الثقافي السعودي استثناءً من هذا السياق، فقد حظي خلال القرن الماضي بمبادرات متعدّدة (لمؤسسات وأفراد) أفضت بنا إلى صدور مجلات ثقافية مهمة، من مثل: مجلة المنهل 1937م، والقافلة 1952م، والعرب 1966م، والمجلة العربية 1975م، والفيصل 1977م، وعالم الكتب 1980م، إضافة إلى عدد كبير من المجلات التي صدرت لاحقًا عن مؤسسات أكاديمية وإعلامية وثقافية، وتعثّرت أو ما زالت تغالب التحديات. وجميع هذه المجلات كانت تهدف إلى خدمة الفكر والأدب والفنّ، والانطلاق منها لإغناء ما يمكن أن نطلق عليه (النشاط الثقافي التنويري) بالقياس على طبيعة تلك المرحلة. وقد احتضنت هذه المجلات أصواتًا متعددة في كثير من القضايا الفكرية والثقافية والأدبية والاجتماعية، ومهّدت لولادة ظواهر مهمة في المشهد الثقافي السعودي، ومدّت مسارًا واسعًا مكّن من تحقيق قدْرِ جيد من التواصل بين المثقف السعودي والمثقف العربي، ومن ثمّ بين المشهد الثقافي السعودي والمشهد الثقافي العربي. ومع أهمية الالتفاتة الجادة إلى الموقف النقدي الذي يقلّل من قيمة ما قدمته أو تقدمه هذه المجلات نظرًا إلى محدودية (الجدلي) أو (المغاير) في طرحها، فإنّ ثمة راصدين يؤكدون قيمتها، ويذهبون بعيدًا في توصيف جوانب الثراء فيها، لذلك ما فتئوا يطالبون بتعاهدها، بل بتدخل الدولة لحمايتها بصفتها مكتسبًا ثقافيًّا مهمًّا، وأداة ما زالت قابلة للاستثمار وقادرة على العطاء. ولأنني أحد المؤمنين بأهمية الدور الذي نهضت به هذه المجلات خلال القرن الماضي من جهة، وبأهمية المنعطف التحديثي الذي تمرّ به بلادنا اليوم من جهة أخرى، ولأنني أنظر إلى المجلات الثقافية بصفتها وعاءً له خصوصية لا يمكن أن تؤمّنها لنا أوعية أخرى كالصحافة اليومية والمؤلفات واللقاءات المنبرية، فإنني أرى أهمية إثارة الحوار حول واقع المجلات الثقافية السعودية واحتمالاتها، والبحث الموضوعي في أسباب نجاح بعضها وإخفاق بعضها الآخر، واستعراض جميع الآراء التي استهدفتها، وبخاصة بعد التوقّف المفاجئ مؤخرًا لبعض المجلات الثقافية، واتساع دائرة الشائعات حول إمكانية توقف مجلات أخرى ذات أهمية أكبر كمجلة العربي الكويتية!
ويبدو لي أنّ تعجيل الحوار حول واقع ومستقبل المجلات الثقافية يتأكد اليوم بسبب تشكّل صوتٍ يحاول الإقناع بعبثية استمرار هذه المجلات، ويجتهد في في تصوير عجزها عن القيام بأي درجة من التفاعل في هذه المرحلة المثقلة بالمتغيرات. ويتجاهل أصحاب هذا الصوت أنّ التحديات التي تواجه المجلات الثقافية ليست وليدة هذه المرحلة ومتغيراتها وإن تفاقمت بسببها، بل هي قديمة قدم المجلات الثقافية نفسها، وهنا تجدر الإشارة إلى نقطتين مهمتين: أولاهما: أنّ التحديات التي تواجه المجلات الثقافية العربية تشبه إلى حد بعيد التحديات التي تواجه صناعة المجلات الثقافية في العالم كلّه، وإن كانت تتضخم في العالم العربي بسبب المشكلات التي يعانيها السياق الثقافي العربي في مجال حرية التفكير والتعبير، وطغيان الطرح المتشدّد، وضعف المؤسسات الثقافية، وغياب ثقافة الملكية الفكرية، والحماية القانونية. وثانيتهما: أنّ هذه التحديات ليست خارجية وحسب كما تلحّ أكثر المقاربات حين تقف عند أزمة (الورقي) في مقابل (الإلكتروني)، والعجز المالي، وضعف التوزيع، وعزوف القراء، بل داخلية أيضًا، لها علاقة أولًا بقناعة القائمين على المجلة بأهمية الوظيفة التي تنهض بها، وبقدرتهم على تأمين متطلباتها الرئيسة وتطويرها. ومجرد استحضار هاتين الجزئيتين يجعلنا نتعامل مع هذا الملف بقدر كافٍ من الهدوء، وبموضوعية تباعد بيننا وبين الطرح الإقصائي، الذي لا يرى معالجة المريض إلا في تسريع عملية موته!
إنّ من المهم أن نستحضر أن ثمّة مجلات ثقافية محلية وعربية تراجعت أو تعثرت أو توقفت في بداياتها قبل نصف قرن أو أكثر، مع وجود المناخ الثقافي المناسب، وتوفر الدعم المالي، وذلك لمشكلات داخلية، لا تختلف كثيرًا عن المشكلات التي تعاني منها مجموعة كبيرة من المجلات الثقافية في هذه المرحلة. ومن الخطورة بمكان أن نجهل أو نتجاهل دور العوامل الداخلية في نجاح المجلات الثقافية أو فشلها، وفي مقدمتها: الصيغة الإدارية (فرد- مؤسسة حكومية- مؤسسة خاصة- مؤسسة ثقافية- مؤسسة غير ثقافية). خبرة رئيس التحرير في مجال الصحافة، والتزامه بشرطها. الوعي بأسئلة المشهد الثقافي السعودي وهواجسه. القدرة على المنافسة والإثارة والتطوير والتجديد.
وربما كانت مجلة «الفيصل» مثالًا مناسبًا في هذا السياق؛ لكونها إحدى المجلات التي نجحت في الاهتمام بالعوامل الداخلية، والاعتماد عليها في تجاوز أبرز العقبات التي تتعرض لها الصحافة اليوم، ويكفي أن أشير هنا إلى ثلاثة عوامل (داخلية) رئيسة:
أولًا- تشكلها في رحم مؤسسي، فهي في الأصل أحد منتجات دار الفيصل الثقافية التي أسسها الأمير خالد الفيصل في عام 1977م، ثم انتقلت ملكيتها إلى مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية التابع لمؤسسة الملك فيصل الخيرية في عام 1412هـ / 1991م. وقد كانت هذه المظلة بمنزلة المغذي الرئيس للمجلة، تمامًا كما هي حال «المجلة العربية» التابعة لوزارة الثقافة والإعلام، ومجلة «القافلة» التابعة لأرامكو، وغيرها من المجلات المنتمية إلى مؤسسات تتمتع بالقوة المادية والمعنوية.
ثانيًا- قدرتها على إثارة وإثراء جوانب مهمة في الفكر والثقافة والأدب، وحين عادت «الفيصل» إلى الاحتفال بمرور أربعين عامًا على صدورها وجدت نفسها أمام مادة ثرية في الكم، ومتنوّعة في موضوعاتها وقضاياها، ومتميزة في عمق تناولها، فضلًا عن القيمة النوعية لكتّابها.
ثالثًا- إسناد رئاسة التحرير منذ البدء إلى شخصيات فاعلة في المشهد الثقافي، أو مسكونة بالهمّ الثقافي بشكل من الأشكال، ويمكن أن أستحضر هنا شهادة الدكتور عبدالله الغذامي للتميز الذي حققته مجلة «الفيصل» خلال المرحلة التي شهدت المواجهة بين أنصار الحداثة وخصومها، إذ يقول: «لعبت مجلة الفيصل دور المحايد الذي يعطي كل الأطراف حقها في التعبير ولا يمنع طرفًا من طرف أو عن طرف، أي: إنه ينشر لك وضدك في آنٍ واحد، ويترك القراء يرون بعينهم كامل الصورة…» (المجلة الثقافية: صحيفة الجزيرة، ع473، في: 6 يوليو 2015م). وتأخذ هذه الشهادة أهميتها من كونها صادرة عن طرف مهم في قضية الحداثة، وهو الأمر الذي يعبر عن قدرة «الفيصل» حتى على إقناع الأطراف الفاعلة بأهمية ظهور الصوت الذي يخالفها! وقد حافظت (الفيصل) طويلًا على هذا المكتسب، فلم تسند منصب رئاسة التحرير إلا إلى أسماء تملك حضورًا جيدًا في المشهد الثقافي، ولديها المعرفة أو الخبرة الكافية في مجال الصحافة؛ لذلك كانوا قادرين على إثراء مسيرتها بموازنتهم بين العوامل الخارجية والعوامل الداخلية، تلك التي تتحكم – مجتمعة – في نجاح أي مجلة وإخفاقها.
وأخيرًا: إن النظر إلى المجلات الثقافية من نافذة مجلة «الفيصل» والمجلات التي تتمتع بالعوامل نفسها، يجعل السؤال ملحًّا عن قدرة مجلات أخرى على الاستمرار في ظل (انشغالها) بالعوامل الخارجية عن العوامل الداخلية التي أشرت إلى أهمها –بإيجاز– في الجزئيتين السابقتين.
ومع اتفاقنا جميعًا على صعوبة التحديات الخارجية التي تواجه المجلات الثقافية، فإنني على درجة كبيرة من الإيمان بقدرة العوامل الداخلية على تجاوزها، متى وعينا بأهميتها، وأخضعناها للمراجعة والتطوير.