حنا مينة.. الرواية لم تكن خيارًا «نوعيًّا» ينتمي له

حنا مينة.. الرواية لم تكن خيارًا «نوعيًّا» ينتمي له

الحياة التي عاشها الروائي حنا مينة والإبداع الروائي الذي قدمه؛ يضعنا أمام العديد من الأسئلة الخاصة بالحياة الثقافية في سوريا؛ والتراث الأدبي الثري الذي تركه الراحل الكبير. لكن هذه الأسئلة؛ تحتاج إلى العودة إلى أسئلة «الثقافة» الأساسية والجوهرية؛ ومواجهة الصعوبات الراهنة؛ التي تعانيها العلاقات الثقافية السائدة هذه الأيام؛ القائمة على «خندقة» الرؤى والمواقف الثقافية؛ وتغيب الأسئلة… وطغيان المفاهيم الشعاراتية؛ وتغـليبها على الأسئلة الحقيقية؛ في كل ما يجري إنتاجه وتبنيه وتقييمه. الروائي السوري حنا مينة؛ بمعنى من المعاني؛ «ظاهرة» ثقافية خاصة: بشخصيته؛ وحياته الطويلة الصعبة؛ وبعطائه الأدبي. «ظاهرة» ساهمت بالتأثير في الحياة الثقافية السورية؛ وتركت أثرها الأدبي الممتد من الجيل الثقافي الذي انتمى له؛ إلى الجيل الذي أتى بعده؛ حتى اليوم… كتب الكثير عنه؛ وعن أعماله الروائية؛ وصدرت عنه الدراسات الأدبية العديدة والكتب؛ وأعدت الأطروحات الجامعية حوله وحول رواياته. أما ما يتعلق بالسينما «بذاتها»؛ والأفلام السورية التي اقتُبست عن أعمال كتبها؛ فإنها تطرح أمامنا – بالنسبة لي – قضيتين أساسيتين:

القضية الأولى: الأفلام السورية المقتبسة عن رواياته؛ ومفهوم العلاقة بين الأدب والسينما. القضية الثانية: العلاقة بين حنا مينة كروائي والسينما في سوريا. إلا أن هاتين القضيتين؛ تضعنا أيضًا أمام قضايا أخرى؛ تتعلق بالوضع الخاص للسينما في سوريا؛ الذي يعاني القلة العددية للأفلام التي تُحَقَّق؛ وحصر هذا الإنتاج في المؤسسة العامة الخاضعة لسلطة الدولة. إضافة إلى القضايا التي تتعلق بالأجيال السينمائية التي أخذت على عاتقها التأسيس للسينما السورية.

***

إن مفهوم العلاقة بين الأدب والسينما؛ الغائب تمامًا لدينا – إلا ما ندر- هو مفهوم شغل الكثيرين من المفكرين والبحاثة؛ والعديد من السينمائيين والنقاد؛ منذ بدايات السينما حتى اليوم. سواء على الصعيد الأكاديمي؛ أو على الصعيد العملي. وكتب حول هذا المفهوم الكتب والدراسات؛ وجرى تحقيق العديد من الأفلام والتجارب السينمائية؛ التي قدمت تصورات مختلفة لهذا المفهوم. ساهمت بتقديم أشكال متعددة للعلاقة بين الكلمة والصورة؛ وبين الأدب والسينما. على الرغم من ذلك كله؛ فإن التجربة السينمائية في سوريا؛ لم تستطع أن تقدم من خلال الأفلام التي انطلقت من أعمال أدبية؛ رؤية واضحة؛ في تناولها لهذه العلاقة. بل لم تكشف عن وجود تصور لهذه العلاقة. التجربة السينمائية السورية؛ في هذا الجانب؛ وغيره من الجوانب الأخرى؛ تجربة ضيقة ومحدودة إلى حد كبير. وهي تجربة تائهة في زوايا متعددة ومختلفة. وهي غير حرة؛ ومحكومة ليس فقط بالرقابة السياسية والبيروقراطية؛ بل أيضًا بالمفاهيم العامة والشعارات؛ عبر مختلف المراحل التي مرت بها هذه التجربة؛ منذ تأسيس المؤسسة العامة للسينما (1964م) كمنتج حصري وحيد؛ حتى اليوم. هذه السمات للتجربة السينمائية السورية؛ كان لا بد لها من أن تنعكس في تصدي المخرجين السينمائيين السوريين؛ إلى اقتباس الأعمال الأدبية للروائيين. (وهنا لا أخص روايات حنا مينة فقط. بل أيضًا روايات غسان كنفاني على سبيل المثال). فإذا أحصينا الأعمال الروائية التي اقتبست عن روايات حنا مينة؛ وحُقِّقت كأفلام في سوريا؛ فإننا نجد أنفسنا أمام خمسة أفلام فقط. (من مجمل ذاك النتاج الروائي الثري)؛ تصدى لاثنين منها المخرج محمد شاهين: فِلم «الشمس في يوم غائم» (1985م). عن رواية بالعنوان نفسه. سيناريو محمد مرعي فروح. (هذا السيناريست الأكاديمي؛ الذي لم تتح له التجربة الضيقة؛ أن يعبر عن موهبته وقدراته المهنية؛ أو تطويرها العملي بكتابات متعددة). فِلم «آه! يابحر» (1994م). عن رواية بعنوان «الدقل». كتب سيناريو هذا الفِلم محمد شاهين نفسه.

محمد ملص

القراءة السينمائية لأفلام المخرج المخضرم محمد شاهين؛ تبين أنه مخرج ذو خبرة عملية طويلة؛ وهو ما أتاح له أن يكون مخرجًا متمكنًا بالمعنى المهني. أما مفهومه للسينما بشكل عام؛ فهو يقوم على الحكاية أولًا وآخرًا. أما العلاقة بين الأدب والسينما؛ بالنسبة له؛ فهي علاقة تستند على أن يستأصل من الرواية «الحكاية» التي ترويها. (حتى لو كان بين يديه سيناريو؛ كتبه بالمشاركة مع سيناريست آخر ويحمل أبعادًا أخرى). فالإخراج بالنسبة له هو المهارة في تصوير الحكاية. والفِلم الذي يسعى لتحقيقه؛ يتم وفق ما يتيحه الإنتاج (والإنتاج غالبًا لا يتيح الكثير) سواء على صعيد الديكور أو الملابس أو الإكسسوار. إضافة إلى ذلك فإنه يتصور أنه لا بد من وفاء نسبي للبعد الزمني والتاريخي للحكاية؛ وللمرحلة التي يرويها الفِلم؛ إذا كانت الحكاية تنتمي لماضٍ لم يعد موجودًا. كما يعتقد محمد شاهين؛ على الرغم من أن الأفلام التي اقتبسها عن روايات حنا مينة؛ أنتجها القطاع العام؛ أنه لا بد من «رش» بعض التوابل التجارية؛ التي يظن أن الجمهور يحتاج لها. فيضيفها لكي يتذوق هذا الجمهور الطعم الــ«جدي» للحكاية الهادفة والملتزمة. ضمن تصور سينمائي كهذا؛ يمكننا أن نتخيل ما سيؤول إليه أي عمل روائي. مثلما كان من الصعب بالنسبة لي؛ أن أتخيل رواية «الدقل» خلال مشاهدتي لفِلم «آه! يا بحر». بل من الصعب البحث ليس عن حنا مينة فقط؛ بل عن الألق الحكائي؛ للحكايات التي يرويها في هذه الرواية وغيرها. إن الإيذاء الأدبي؛ ودهس الفضاء السردي للعمل الأدبي؛ في التجربة السينمائية للمخرج محمد شاهين مع الأفلام التي حققها للمؤسسة العامة للسينما؛ لا تنتمي لمفهوم الاقتباس والعلاقة ذات الحد الأدنى بين الأدب والسينما؛ ليس فقط في أعمال حنا مينة؛ بل في التجربة التي لا تقل مرارة؛ التي تتمثل أيضًا في فِلم «المغامرة» الذي حققه للمؤسسة العامة للسينما أيضًا؛ عن مسرحية سعد الله ونوس «رأس المملوك جابر».

الفِلم الثالث المقتبس عن رواية لحنا مينة: فِلم «بقايا صور» (1979م). عن رواية بالعنوان نفسه. سيناريو سمير ذكرى ونبيل المالح. إخراج نبيل المالح. في البداية يجب الإشارة إلى أن السمة الأبرز؛ لدى السينمائي المعلم نبيل المالح؛ تكمن في عدم القدرة على ثبات المرجعيات السينمائية لديه؛ والرغبة العميقة في المغامرة والتجريب والتجديد؛ في تجربته السينمائية وفي الأفلام التي حققها. وهو إضافة لتكوينه الحرفي والثقافي؛ ومعرفته بالمفاهيم والعلاقة بين مختلف وسائط الأعمال الإبداعية؛ وإدراكه العميق لحال السينما في العالم، فإنه كثيرًا ما كان -بنزعته التجريبية- يفاجأ هو بنفسه؛ بما استطاع الوصول له؛ أو الخيبة فيما أخذته إليه التجربة والهوس التأليفي.

في تصديه لتحقيق فِلم عن رواية «بقايا صور» لحنا مينة؛ هذه الرواية المنغمسة في الصور الندية؛ للحياة التي عاشتها شخصيات الرواية وكاتبها. لم يجنح نبيل المالح إلى إعادة التأليف البصري. وتعامل مع مفهوم العلاقة بين الرواية وتصوره السينمائي بحذق ورقي. ونتج عنه فِلم ذو أمانة شديدة للرواية بالمفهوم الكلاسيكي للأمانة؛ من دون الانتقاص من الطاقة الإيحائية للصور؛ وتحويلها من بقايا صور؛ إلى صور حية ليست حبيسة الذاكرة كما لدى حنا مينة وروايته هذه. فقد بنى نبيل من خلالها فِلمًا يصعب أن يمّحي من الذاكرة؛ كما الرواية بذاتها.

الفِلم السوري الرابع المقتبس؛ والأكثر أهمية لمفهوم العلاقة بين الأدب والسينما؛ ولمفهوم الاقتباس:

فِلم «اليازرلي» (1974م) المقتبس عن قصة قصيرة بعنوان: «على الأكياس». سيناريو وإخراج قيس الزبيدي. المخرج العراقي قيس الزبيدي شخصية سينمائية استثنائية. درس أكاديميًّا المونتاج والتصوير والإخراج. وعمل كثيرًا على المفاهيم النظرية للسينما؛ وكتب وترجم التصورات حول ذلك. وقد اختار العيش في سوريا؛ والعمل في السينما السورية؛ لتحقيق مشروعه السينمائي؛ الذي كان يعتقد أنه من الصعب تحقيقه في العراق آنذاك (1969م). وقد ساهم مساهمة أساسية في التأسيس وتطوير السينما التسجيلية في سوريا. أعتقد أن التساؤل الخاص بالعلاقة بين الأدب والسينما؛ سؤال شغل قيسًا دائمًا؛ على الصعيد النظري والعملي؛ وأن انشغاله النظري به -ربما أكثر مما يجب- لم يقابلها في تجربة هذا المخرج على الصعيد العملي سوى فِلمين. الفِلم الروائي الطويل «اليازرلي» والقصير «الزيارة». أما ما يخص تعامله مع أدب حنا مينة؛ فقد كان قيس «صيادًا» ماهرًا؛ يحمل صنّارة الصيد السينمائي بوعي شديد؛ حين توقف عند قصة قصيرة؛ وليس أمام رواية كبيرة؛ تحمل ربما أسئلة وقضايا أكثر أهمية؛ وأكثر عمقًا على الصعيد التاريخي أو على الصعيد الوطني. لكننا نرى أن قيسًا على الصعيد الخاص؛ كسينمائي يبحث عن نفسه خارج وطنه… كان لا بد من أن يجدها في قصة «على الأكياس» التي كتبها حنا مينة كالعادة للتعبير عن طفولته؛ حين عمل عتالًا في الميناء). توقف قيس عند هذه القصة؛ ومضى ليكتب سيناريو سينمائيًّا يأتمن تجربة الكاتب؛ ويغمس صورها بذاكرته الخاصة؛ ويقاطعها مع مشاهد عاشها في طفولته؛ وما افتقده في هذه الطفولة الذي تعبر عنه هذه القصة. لكنه احتفظ بالمكان كما في القصة؛ وأعاد تأسيسه بمنظور سينمائي خاص ومبهر. كما احتفظ بالشخصيات الرئيسية في القصة؛ لكنه أعاد صياغتها بمنظور درامي ذي دلالات متعددة. قام قيس بذلك بعيدًا من مفهوم إعادة البناء الوثائقي؛ أو الحرفي بالعلاقة مع القصة. بل أضاف لتصوره السينمائي؛ وخبرته العالية في التصوير؛ ذاك المذاق البصري الروائي الخاص للتعامل اللوني مع الأبيض والأسود؛ ليس فقط في تصوير الفِلم؛ بل الأبيض والأسود في العلاقة مع اللباس والإكسسوار والمكان والضوء… سعيًا إلى «الهارموني» اللوني للفِلم ككل.

لنتأمل ما كتبه الناقد السينمائي البولوني ليسلاف باير؛ في مقدمة قراءته السينمائية لفِلم اليازرلي؛ لنكتشف العلاقة بين القصة والفِلم. يقول باير: «كم هو فقير الهيكل الروائي لهذا الفِلم. عائلة فقيرة على وشك الموت جوعًا. الأب ضاع في مكان ما بحثًا عن الرغيف. وصبي صغير في عمر العاشرة؛ يبادر لمساعدة أمه بالعمل حمالًا في ميناء صغير. هكذا هي بسيطة قصة الفِلم».

يقول قيس الذي يدرك العلاقة الإبداعية بين الأدب والسينما: «كان هدفي في تحقيق «اليازرلي»؛ أن يكون بيانًا في اللغة البصرية. وأن أقدم طموحًا تشكيليًّا، ووسيلة للسرد المختلف؛ ولما يمكن أن يكون عليه الفِلم العربي». هذا التلخيص المتعمد للحكاية للناقد البولوني؛ والسعي الذي قام به قيس لتقديم بيان بصري؛ والطموح التشكيلي لسرد مختلف؛ يكمن وراءه فهم مختلف ومهم؛ لمفهوم الاقتباس الروائي؛ والوصول إلى علاقة بين الأدب والسينما؛ تعطي لكل منهما طاقته التعبيرية. هذا الفِلم حُجِب طويلًا. ولم يعبر حنا مينة عن إعجابه بالفِلم -بصرف النظر عن إعجابه بقصته– وصرح مؤاخذًا: «أن قيس الزبيدي استبدل طفولتي بالتي عاشها هو في طفولته». كما أن الفضاء الثقافي والسينمائي؛ والأيديولوجيات والشعارات؛ افتعلت صراعًا حادًّا في قراءة الفِلم وتقييمه؛ ضمن مفهوم الدفاع عمّا كان يسمى حينها «سينما المضمون». وهو ما ساهم في الجرأة على حجب الفِلم. بل أستطيع أن أسمح لنفسي بالقول: إن «اليازرلي» هو الفِلم الوحيد الذي لم تمنعه الرقابة بل السينمائيون.

الفِلم السوري الخامس الخاص باقتباس روائي عن حنا مينة. فِلم «الشراع والعاصفة» (2011م)، عن رواية بالعنوان نفسه، وسيناريو غسان شميط ووفيق يوسف. إخراج غسان شميط. هذا الفِلم لم يعرض فعليًّا. ولم يتح لي أن أشاهده.

***

القضية الثانية التي أود الإشارة إليها؛ هي العلاقة الغائبة بين حنا مينة والسينما. إن حنا مينة خلال حياته الأدبية الطويلة (40 عملًا) ونشاطه الدائم ومواقفه كمثقف… لم يفصح عن نظرة واضحة؛ أو رأي يخص السينما كفن؛ ولم يُبدِ اهتمامًا بالسينما والأفلام السورية. فعلى الرغم من انشغاله بقضايا الثقافة بشكل عام وانخراطه في مجالات مختلفة من النشاط الجماعي؛ برؤية فكرية ونضالية تسعى وتناضل للتغيير الاجتماعي والسياسي في سوريا؛ فقد بقيت العلاقة بينه كروائي مع السينما لا تستحق أن يولي لها أهمية. لذلك لا يمكننا البحث عن هذه العلاقة؛ إلا من تجاهله لها في المواقف التي كان لها تأثيرها؛ أو من خلال المواقع «الاستشارية» لدى الجهة الرسمية صاحبة القرار. ولا بد لي كسينمائي أن أتساءل: هل شاهد الأفلام التي تناولت الأعمال الروائية الخاصة به؟! وما رأيه وموقفه؟ باستثناء موقفه السلبي من التجربة الأكثر تميزًا؛ الذي اتخذه من أفـلمة قصته «على الأكياس»؛ وانتقاده هذه التجربة؛ التي لم يرحب بها أو يرضَ عنها؛ ومؤاخذة محققها قيس الزبيدي. هذه «المؤاخذة» وعدم الرضا؛ يشيران إلى فهم ضيق ومحدود للعلاقة بين الأدب والسينما، ويكشفان عن نظرته للسينما كفنٍّ «تبعي» وليس إبداعًا قائمًا بذاته. وعن العجز في فهم السينما كفنٍّ له وسائطه التعبيرية الخاصة؛ القائمة على ماهية «الصورة». فاقتباس العمل الأدبي؛ يقوم على البحث من خلال الصورة كـ«أيـقونة»؛ عن المعادل البصري للأحداث والدلالات في العمل الأدبي؛ وبناء عالم بصري يملك شحنته الخاصة به؛ وإيحاءاته؛ للتعبير عن كل ما أراد الروائي التعبير عنه باستخدامه وسيطًا آخر هو الكلمة.

هذا الانكفاء عن السينما بـ«ذاتها»؛ يفصح في الوقت ذاته عن التصور الذي اختاره حنا مينة لنفسه؛ واعتمده في مفهومه الروائي. يبدو أن الرواية له؛ هي التعبير الأدبي «الحكائي» للتجربة التي عاشها؛ وللمحيط الاجتماعي التاريخي للواقع. بمعنى آخر؛ فهو على الرغم من النتاج الروائي الكثيف والمتنوع؛ فإن «الرواية» لم تكن بالنسبة له خيارًا «نوعيًّا» ينتمي له؛ ويتعامل معه كـ«وسيط» تعبيري، ومعطى فني وأدبي قائم بذاته. خيار تعمل على أن تسخره وتسخر نفسك له؛ من أجل أن تكتشفه؛ كـ«مشروع» وتهدف إلى أن تطوره؛ وتشتبك معه ليلبي طاقتك التعبيرية؛ بل تناحر طاقته وعجزه؛ لتكتبه من جديد؛ مطورًا ماهيته وقدراته بحميمية ارتباطك به، وحميمية ارتباطك بالتجربة المريرة التي عشتها. هذه التجربة التي كلما غصت داخلها؛ تغوص بالرواية معك في هذا الغوص المتلاطم؛ لتطل معها وبها «رواية» أخرى.

***

على الرغم من كون حنا مينة مشدودًا لوعي المراحل الاجتماعية والتاريخية التي عاشها وعايشها؛ وانخراطه في مناخات فكرية تسعى للتطوير الاجتماعي والسياسي؛ وتدعو لرفض الواقع السائد. فإن هذا «الرفض» لم يتحول لديه ليكون الأساس في تجربته الإبداعية؛ ورهنها بهذا الرفض. ولغياب الجدل الإبداعي الدائم بين صيغة التعبير والتجربة. وهذا ليس ترفًا إبداعيًّا أو مهمة مبالغًا فيها؛ بل هي «الجوهر» والأساس لكل تصدٍّ للثقافة المبدعة. حين يقول الروائي حنا مينة نفسه: إن «الرواية العربية هي نجيب محفوظ وأنا»؛ فإني أعتقد أنه قـد فاته؛ التمييز الخاص؛ الذي نحسه في التجربة الروائية الخاصة بنجيب محفوظ. التي حظيت بالكثير من القامات الأدبية؛ وبالمفكرين والنقاد في العالم العربي؛ ممن تناولوا التجربة الروائية لنجيب محفوظ؛ وممن هم أقدر في التعبير عن هذا التمييز الروائي لنجيب محفوظ.

إن الإحساس الذي نتلقاه حين نقرأ لنجيب محفوظ؛ ويمسك بنا رواية وراء الأخرى؛ يضعنا في مواجهة بيننا وبينه. وهو مع كل إطلالة روائية جديدة؛ نجد أننا في مواجهة تختلف في بنيتها وفي لغتها وفي عالمها الروائي. وهذا ما يحرضنا ويدفع بنا إلى طرح الأسئلة؛ والجدل مع أسئلة التغيير؛ الذي تسعى له الثقافة بشكل عام؛ ويسعى إليه المثقف في الممارسة الفنية والأدبية. وهي في الوقت نفسه؛ تطور هذه الوسائط وتربطها بالعصر كجزء من الثقافة الإنسانية والعالمية. إن المثقف في المجتمع الذي نعيش فيه؛ يُفرَض عليه وعي وموقف؛ بألّا يفصل بين الوسيط الأدبي والفني الذي يختاره، والواقع الذي يتصدى للتعبير عنه. وقد أتيح لحنا مينة بما كتبه؛ وبما حُقِّق من أفلام مقتبسة عن أعماله؛ أن يقوم بدوره المؤثر في التغيير للواقع الذي عاناه وكرس حياته له.

خاتمة

خلال أربعين عامًا مضت؛ لم يصادف أن التقيتُ حنا مينة؛ إلا مرتين قصيرتين. كانت الأولى أواخر عام 1976م؛ وكنت حينها قد أنجزت محاولتي الروائية الأولى التي بعنوان: «إعلانات عن مدينة كانت تعيش قبل الحرب»؛ التي كتبتها ردًّا على تدمير الإسرائيليين لمسقط رأسي «القنيطرة». وحاولت خلالها إعادة بناء المدينة وشخصياتها الحقيقية؛ ضمن نزوع للتجديد في الرواية السورية؛ بكتابة رواية «المكان». كان لديّ يومها رغبة في نشر هذه التجربة لدى وزارة الثقافة. وفي تلك الحقبة كانت السيدة الدكتورة نجاح العطار قد تولت حديثًا وزارة الثقافة. وفي تقدير منها للروائي حنا مينة؛ أحدثت له مكتبًا خاصًّا في الوزارة؛ قبالة مكتبها وخصَّته بشؤون استشارية… يومها ذهبت إلى الوزارة لأستعيد المخطوط؛ بعد أن علمت عدم الموافقة على النشر؛ وأشير لي بأن ألتقي لهذا الأمر حنا مينة. يومها أخذ يحدثني حول روايتي بإيحاء من عدم الرضى وإلى «هذا الإغراق الكبير في الشكلانية». وأضاف: «قرأت قسمًا لا بأس به منها، وحاولت الإمساك بخيط، ولكن عبثًا. فالشخصيات تظهر بكثافة، وليس هناك خيوط تربطها، ونعجز عن أن نلتقطها». ثم سألني: «لمن نكتب نحن يا محمد؟». «إن الرواية الأوربية الجديدة قد انتهت! فشلت! وعادت الرواية الآن للواقعية. وأنا لا أعرف عن ذلك كثيرًا… لكن الأصدقاء يحدثوني كثيرًا عنها…!». ثم فهمت من مناداته لـ«نجاة» لتسلمني المخطوط، بأنه رغبة في إنهاء اللقاء. فتسلَّمتُ المخطوط وغادرت. نشرت هذه الرواية في بيروت عن دار «ابن رشد». وصدرت في طبعة ثانية في دمشق عن دار «الأهالي». لكني حملت السؤال الذي سألني إياه: «لمن نكتب؟»، الذي كان لديه إجابة تختلف عمّا لديّ. وبقيت طوال عملي أحمي إجابتي الخاصة عن سؤاله. لم أقرأ كل ما كتبه. لكني قرأت العديد من رواياته وتركت في داخلي أثرًا عميقًا لامس وجداني وعالمي الداخلي بعمق. قد يتساءل أحد: لماذا كسينمائي لم أتناول أيًّا منها في اشتغالي السينمائي هذا؟! فأجيب بأن كون التجربة السينمائية في سوريا؛ على صعيد الإنتاج تجربة ضيقة ومحكومة بما هي عليه؛ فقد اتخذت لنفسي بأن أحقق «مشروعي» السينمائي المغاير للاقتباس الأدبي.