محمد سبيلا: نعيش خسوف المثقف العضوي.. والإرهابي المعاصر ليس غبيًّا
المفكر المغربي الدكتور محمد سبيلا مشغول بالحداثة الحقة، وعدم الاكتفاء باقتطاف بعض ثمارها، إنما أيضًا تعهد شجرة الحداثة بالرعاية، فهي كما يرى سيرورة عسيرة وطويلة الأمد، وليست نموذجًا جاهزًا للاقتطاف والارتداء والاستهلاك، كما يقول في كتابه «في تحولات المجتمع المغربي»، الذي ينجز فيه تحليلًا عميقًا لمظاهر التحديث وميكانيزمات الصراع القوية بين الثقافات العربية المسلمة والحداثة، ويعالج مواطن التكامل والتعاون والتعايش بينهما. محمد سبيلا مفكر عربي مهموم في كتاباته بالبحث عن آفاق الحداثة والدفاع عن ثوابتها ورصد عوائقها، من دون الحاجة إلى الذهاب في اتجاه القول بضرورة إحداث القطيعة بين قيم الحداثة ومتطلباتها من ناحية، وبين المجتمع في صورته التقليدية من ناحية أخرى. في هذا الحوار مع «الفيصل» يستحضر سبيلا حال الصراع «التفاوضي»، المعلن أو المضمر، بين التقليد والحداثة، انطلاقًا من الراهن العربي عمومًا والمغربي خصوصًا، فضلا عن الخوض في آفاق التطور التكنولوجي النوعي الذي يسير في اتجاه تقوية الذكاء من طريق زرع شرائح بالدماغ لها اتصال بالإنترنت، وتحميل العقل، وغيرها من الاختراعات التي يعكف سبيلا حاليًّا على إنجاز كتاب حولها. وينتمي محمد سبيلا إلى رعيل من المفكرين الأكاديميين الذين ارتبطت لديهم الثقافة والفكر بالنضال من أجل التحرر والتحديث والديمقراطية، فجاء إنتاجه الفكري والفلسفي، تحليلا وتأريخًا وترجمة، متصلا على نحو وطيد بهذا الأفق الفكري، كما تجلت إسهاماته العميقة في تبديد التباسات الفكر العربي بصدد الفلسفة الحديثة والمعاصرة.
● إلى أين انتهت مشاريعك، أو ما الذي يشغلك اليوم؟
■ في السنوات الأخيرة كانت حالتي الصحية لا تسمح بالاشتغال، وبالرغم من المتاعب الصحية التي اجتزتها في هاته الفترة، كنت منكبًّا على دراسة موضوع يتعلق بمسألة تطور التكنولوجيا، وهي من الموضوعات التي أهتم بها. ركزت قراءاتي في قدر المستطاع على ما يسمى اليوم Transhumanisme (مجاوزة النوع الإنساني)، فالتكنولوجيا دخلت في مرحلة صناعة الحياة بعد صناعة الخلايا، وهذا هو الانتقال النوعي الذي حدث في تطور التكنولوجيا وهو انتقال قاتل، وتعني أن الحياة يبدأ في صناعتها الإنسان بواسطة التكنولوجيا، فمن الأشياء البادية في الاختراعات بـأميركا والصين واليابان، ما يسمى بتطوير العمر. الآن يفكرون في إيصال متوسط عمر الإنسان إلى 200 سنة، وتقوية الذكاء من طريق زرع شرائح بالدماغ لها اتصال بالإنترنت، وتحميل العقل، فهناك ثورة تكنولوجية بيوتكنولوجيا وهي تكنولوجيات الحياة والخلية والجينات، أي الهوية البيولوجية والجينية للإنسان. وآخر محاضرة قدمتها في هذا الموضوع في مؤسسة «مؤمنون بلا حدود»، وأعد كتابًا في هذا الإطار. التقنية تصب إحداها في الأخرى في اتجاه إحداث تحولات نوعية في تاريخ البشرية، وبخاصة أن التقنية هذه المرة، تتجه من الطبيعة الخارجية إلى الطبيعة الداخلية أو الذاتية للإنسان. وقد أصبح العلماء يقولون: إنه إذا كان القرن العشرون هو قرن الهاتف والسيارة والكهرباء، فإن القرن الحادي والعشرين هو قرن الثورات التكنولوجية بامتياز، ومستقبلًا ستفتح دكاكين لترميم الخلايا أو استبدال الأعضاء أو شراء مكملات أو قطع غيار العبقرية – قطع غيار التميز والتفرد في مجالات رياضية أو تعليمية أو تدريبية- إننا نعيش ثورة تكنولوجية، لكن ثقافتنا هاربة منها لأنها تخاف منها لكي لا تصطدم بالقناعات؛ لأننا نتحدث هنا عن صراع حياة ونتحدث عن معجزات العلم، إنه شيء رهيب يحدث الآن في العالم، فهذا المجال الذي ركزت عليه ولو بالقليل من الإشارة إلى هذه الأشياء المذهلة.
● لكن ماذا يعني كل ذلك من الناحية الفلسفية؟
■ الفلسفة دائمًا تبحث في إبستمولوجيا العلم وفلسفة العلم، وفي الدلالات الفلسفية في الاكتشافات العلمية. إنه شيء مهول بالنسبة للاختراعات. وبالنسبة للرصد الفلسفي نبحث في النتائج من هو الإنسان، ما هو الغيب، ما هي علاقة الجسد والنفس، إنها إشكالات عميقة، وتطرح على الفكر الفلسفي ضرورة التفكير في الأبعاد الفكرية والأخلاقية لهذه التطورات النوعية الحاسمة وفي انعكاساتها سواء بالنسبة إلى الإنسانية المتقدمة أو إلى الإنسانية التابعة.
● كيف تعرفون إشكالية الحداثة، وتجلياتها، وإخفاقاتها عند العرب، في بناء مشروع متكامل لمفهوم الدولة والعلمانية، وهل الزمن الذي كانت فيه الديانات مصدرًا للنظام السياسي قد ولَّى وبخاصة في ظل تعدد المرجعيات الإسلامية؟
■ من الأشياء التي استثمرت في دينامية مقاومة أشكال التحديث والتطور هو إعطاء تصور سلبي للعلمانية، مثل: العلمانية ضد الدين، العلمانية إلحاد، العلمانية كفر، العلمانية حرام، وقد قيل وكتب الكثير حول العلمانية في هذا الإطار، وهذا له ارتباط بالمقاومة وتشويه المفاهيم لجعلها غير مستساغة لدى الجمهور، في حين أن العلمانية نوعان كما يتبين من خلال الدراسات، فهناك العلمانية الراديكالية التي ظهرت بعد الثورة الفرنسية في مرحلة معينة، التي تقول: إن الدين تأخر وإن الدين ينتمي إلى مراحل تجاوزها التطور، وهي مرحلة غيبية ميتافيزيقية، ويجب إبعاده عن السلطة ويجب حماية المجتمع من هذا التصور، فهذا هو الحد الأقصى للعلمانية الراديكالية، ولكن هناك العلمانية العادية التي تقول: إنه يتعين الفصل بين الدين والسلطة، وليس إبعاد الدين كثقافة من ثقافات المجتمع، ولكن هي فقط تتحدث عن الجانب السياسي، بحيث إن استعمال الدين في الصراع السياسي هو مسألة فيها الكثير من الإجحاف، فيتعين أن يتطور المجتمع تلقائيًّا عبر صراعات اقتصادية وأيديولوجية في غياب استغلال الدين في السياسة. الخلاصة في قضية العلمانية أن مضمونها في التجربة الأوربية سواء الثورية أو العادية، تبين أن تطوير المجتمع تطويرًا إيجابيًّا يتطلب الفصل بين الدين والسياسة بمعنى تدبير الشؤون العامة وشؤون الحكم وأن السلطة يجب أن تكون محايدة، فهذه هي الخلاصة التاريخية للشعوب بخصوص التجربة الأوربية الكونية.
● وفق أي معيار يمكن تحديد الدولة الدينية، هل الفاتيكان، أم إيران حيث تسود ولاية الفقيه في ظل وجود برلمان وأحزاب، أم المغرب الذي تسود فيه إمارة المؤمنين، مع وجود حكومة وبرلمان وأحزاب إلى غيرها من النماذج؟
■ إضافة إلى هذه النماذج هناك السعودية ودول الخليج؛ لأنه يمكن الحديث عن درجات ومستويات في علاقة الدولة بالدين، فالفاتيكان دولة دينية أساسًا تعلنها وتؤمن بها، أما الدول الأوربية فهي دول علمانية بمعنى أنها تفصل بين الدين والسياسة، فيما إيران دولة دينية، ولكنها دخلت في تجربة تلاقح مع التجربة الأوربية في نهج الديمقراطية وممارسة الانتخابات مثلًا. المشكل اليوم أن الدولة الدينية بدرجة من الدرجات، مضطرة إلى اقتباس بعض مظاهر الحداثة على الأقل في المجال السياسي لتدبير الحكم؛ لأن مسألة الديمقراطية هي مسألة تدبير السلطة في المجتمع. نحن في المغرب لدينا تطور تفاعلي بين الدين والسياسة، نعم هناك سلطة أمير المؤمنين، ولكن بجانبها سلطة سياسية مبنية على الانتخاب وعلى التمثيل، وهناك مجالس محلية وبرلمان بغرفتيه، بمعنى أن هنالك تجربة ديمقراطية حداثية بتصريح الحكومة نفسها وبقبول وترحيب كبير من الأحزاب السياسية ولكنّ هناك نوعًا من إحداث التلاؤم بين هذا النظام السياسي الديمقراطي وبين إرث ديني تراكم في المغرب منذ نشأته، وهنالك محاولة للتفاعل والحوار بين المكون الديني والمكون الديمقراطي طبعًا بقبول المجتمع، فدرجة تفاعل الدين بالسياسة تختلف من دولة إلى أخرى.
تطور كاسح لا يرحم
● في كتاب «في تحولات المجتمع المغربي» توقفت عند الأعطاب والمعوقات ذات الصلة بإشكالات الحداثة والتحديث بالمغرب، هل يمكن أن تستعيد هنا خلاصة ما توصلت إليه في هذا الشأن؟
■ التحولات الاجتماعية والثقافية والفكرية في بلد كالمغرب يمكن رصدها من زاويتين، زاوية إيجابية تسجل هذه التحولات في وجهها الإيجابي تقنيًّا، واقتصاديًّا وسياسيًّا وثقافيًّا، أي الحديث عن الأشياء الإيجابية التي أحدثها التطور والركوب في قطار الحداثة والتحديث، وهذه الإيجابيات للحداثة والتحديث كثيرة جدًّا، وهي من الكثافة والتراكم لدرجة أنها تصبح مكتسبات عادية أو اعتيادية، ومن فرط الاعتياد عليها، لا نوليها أهمية؛ لأن هنالك التعود على اقتطاف ثمار التحول الإيجابية. أما الوجه الآخر فهو الوجه السلبي، بمعنى الآثار السلبية التي يحدثها هذا التحول، لا من ناحية تدمير بعض العادات القديمة أو لربما حتى الأخلاقيات والقيم القديمة؛ لأن التطور كاسح وعنيف ولا يرحم. وينضاف إلى ذلك عنصر آخر يتمثل في رصد العوائق، فالمهتمون بالتحولات في مجتمعات العالم الثالث سواء السوسيولوجيون أو الفلاسفة لا ينسون في الغالب هذا المعطى؛ لأن التفكير في العوائق هو تفكير في العوامل التي تعوق التطور وضرورة رصدها للتفكير فيها ومحاولة تجاوزها، ويحضر هذا الاهتمام ربما لدى رجل الدولة المؤمن بالخيار التحديثي وأيضًا المفكر أو المثقف التحديثي الذي يرصد العوائق من أجل التفكير فيها، سواء تمثلت في العادات القديمة في جانبها السلبي أو أشكال مقاومة التطور؛ لأن كل مجتمع معرض طبعًا لدينامية التطور والتحديث لكنه يفرز داخليًّا عوائق أو يبدي نوعًا من المقاومة، سواء كانت عوائق موضوعية خارجية ليست بإرادة الأفراد أو عوائق ذاتية تنحو نحو رفض التطور. وفي تاريخنا نعرف مثلًا أن فئة الفقهاء في أوائل القرن الماضي، كانت بمثابة فئة محافظة ترفض مظاهر التطور سواء التقني أو السياسي، أو أحيانًا حتى التطور الأخلاقي، ومن هذا القبيل، استحضر وأنا أشاهد في هذه اللحظة التي نجري فيها الحوار تساقط الأمطار، مثالًا من ضمن عشرات الأمثلة التي تكون فيه المرأة محور هذا النقاش في التطور بين تياري المحافظة والحداثة. ففي فترة من فترات السنوات الأولى للاستقلال، كانت المغربيات ينتقلن من لباس الحائك إلى لباس الجلباب الذي كان لباسًا تقدميًّا، سواء بـ«القب» (غطاء الرأس يقي من أشعة الشمس ومن برد الشتاء) أو من دونه، هنا ظهرت بعض الفئات التقليدية التي حركت النساء للقول: إن سبب عدم نزول المطر في إحدى السنوات العجاف هو الجلباب، بحيث رفعن شعار «الجلابة بلا قب ما خلات الشتا تصب»، أي الجلباب من دون غطاء الرأس منع هطول المطر. هذا فقط شكل من المقاومات للتطور التي يبديها مجتمع أو تبديها فئة بقيادة وتوجيه من التيار المحافظ، وهذه علامة بارزة متمثلة في مقاومة التطور، تنطلق من تفسير أسطوري، فلا علاقة بين اللباس والمطر، بمعنى أن نزول المطر يتحكم فيه عوامل طبيعية.
● يوجد ما يشبه التأكيد بين عدد من الباحثين على أن الدكتور محمد سبيلا، لم يسلك في موقفه من مسألة الحداثة، طريقًا قاطعًا مع الإرث أو غارقًا ومنغلقًا فيه، إنما كان مفكرًا متوازنًا بين الضفتين. ما المنطلقات الكامنة وراء هذا المسلك؟
■ في المغرب، هناك في الحقيقة مدرستان أو توجهان، أو لنقل ثلاثة توجهات، هناك الإرث الفكري الفرنسي المتمثل في العلمانية في معناها الأوربي والفرنسي وبخاصة الذي يقوم على نوع إن لم نقل عداء، فعلى الأقل الصراع بين الدين والسياسة. ويقوم الاختيار الحداثي في هذا الاتجاه على رفض التراث، وعلى القطيعة مع الماضي ومع المجتمع التقليدي. وهنالك اتجاه آخر يمثله المرحوم الدكتور محمد عابد الجابري، باعتباره وريث الحركة الوطنية في مرحلتيها الكلاسيكية والتقدمية، التي مثلتها بعض الأحزاب المغربية. الجابري بحكم ازدواجية ثقافته، فهو خريج المدرسة التقليدية، ومن بين تلامذة الكتاب القرآني، وحافظ للتراث تقريبًا بشكل حرفي، ولديه في الوقت نفسه ثقافة عصرية، أضف إلى ذلك تجربته السياسية؛ إذ إنه كان مسؤولًا في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. والمسؤولية السياسية تجعل المرء يشاهد الواقع وينصت له، فالجابري بحكم إرثه الثقافي التقليدي وتجربته السياسية التي جعلته على اتصال بالمجتمع، لم يذهب قط في اتجاه القول بضرورة إحداث القطيعة بين قيم الحداثة ومتطلباتها، وبين المجتمع في صورته التقليدية.
في الحقيقة أنا كنت أقرب إلى هذا الاتجاه مع بعض الاختلافات الجزئية، ولنقل في موقف وسط بين الاتجاه القطائعي والاتجاه التراثي التقليدي، وأنا أيضًا حكمتني المحددات نفسها التي حكمت فكر المرحوم الجابري، المتمثلة في الاختيار الفكري الفلسفي الحداثي، ونحن في الوقت نفسه نتاج لسياسة التعريب والمدارس المعربة التي أنشأتها الحركة الوطنية التي تجعل المتخرج منها على بينة من التراث ومدافعًا عنه، إذن هناك جملة معطيات من بينها المعطى الثقافي والمعطى السياسي، لذلك لم أسقط في أحد الضفتين، راعيًا هذا التوازن في الاتجاه الثالث.
التشبع بروح الحركة الوطنية
● المساهمات النوعية التي قدمتها من أجل إثراء الفكر المغربي بشكل عام والدرس الفلسفي بشكل خاص، وكذا انفتاحك على الحقل السوسيولوجي من منطلق «العلاقة الجدلية بين الفكر والواقع» التي أطرت على الدوام وعيك المعرفي، هل تجعلك اليوم راضيًا عن وضعية الدرس الفلسفي في الجامعات والمؤسسات التعليمية وهل هو منفتح الآن على الواقع ويسهم في خلق جيل عقلاني؟
■ الفلسفة نشأت بالمغرب نشوءًا خاصًّا، والدرس الفلسفي الحديث بالمغرب بدأ في الجامعة المغربية في الستينيات من القرن الماضي، وكان أول من أنشأه هو المرحوم محمد عزيز الحبابي؛ لأنه كان عميدًا للكلية وصار متخصصًا في الفلسفة، ففتح القسم العربي وكان هناك قسم فرنسي، وبدأ القسمان في المرحلة الأولى متوازيين ومتنافسين، بعد ذلك حُذف القسم الفرنسي مع تعريب التعليم، وبقي القسم العربي وكان الخريجون الذين نشكل نحن الجيل الثالث منهم، بحيث كان قبلنا جيلان من الأساتذة، فمثلًا المرحوم الجابري كان قبلنا بسنتين أو ثلاثة، وهذا الجيل الثالث الذي يعتبر أكبر عددًا وبدأ يشكل نوعًا من التضخم العددي، وكان فاعلًا في المجتمع، انطلق في التدريس بالثانوي، ابتداءً من سنتي 1967 و1968م، فضلًا عن اشتغاله في مجال الترجمة والكتابة والتأليف ونشر الفكر الفلسفي، وتميز أفراده بدينامية تنافسية وإنتاجية، وشعور بأداء مسؤوليتهم الفكرية والثقافية؛ لهذا أقول: إن الأجيال الأولى المتخرجة من الجامعة كانت مشبعة بروح الحركة الوطنية التي هي حركة إصلاحية وتحديثية وتجديدية من دون أن تقع في معاداة الماضي أو التراث أو الإسلام.
فنحن كنا محكومين من دون أن نشعر برسالة الحركة الوطنية والدفاع عن تطوير المجتمع وتحديثه بموازاة التطور السياسي بالمغرب، على الرغم من وجود العوائق والصراعات التي كانت في المراحل السابقة. وهذه النخب سواء الأدبية منها، أو المشتغلة في حقل الفلسفة والعلوم الاجتماعية والسياسية بصفة عامة، وكذا الأجيال التي تشكلت بكليات الحقوق، كل منها أسهم من موقعه في ترسيخ الاستنارة والتنوير والعقلانية والانفتاح على الفكر الحديث، الذي هو قريب منا وبخاصة الفكر الأوربي والفرنسي، فهذه ظاهرة نوعية، كما أن الثقافة المنتمية للعلوم الإنسانية في مجال الفقه، وفي اللغويات لعبت مجهودًا كبيرًا لإدخال اللسانيات للغة العربية ودراسة اللغة العربية من خلال اللسانيات الحديثة، وهذا شكل من أشكال التحديث الذي كان في عهد الأجيال الأولى مع بزوغ فجر الاستقلال، بحيث كان الوعي الوطني التحديثي يسير بموازاة النشاط الفكري والنشاط النقابي والسياسي، وليس هذا من أجل تحقيق أمجاد شخصية، بقدر ما كان استجابة لدوافع خفية للتطور والتحديث والإيمان بمغرب أحسن في اتجاه التقدم، كانت هذه هي الروح الدافعة القوية. لكن بعد هزيمة 1967م وحدوث الثورة الإيرانية، بدأت الأمور تسير في منحى آخر، بحيث بدأ الوعي العربي الإسلامي يغير توجهه، من التوجه التحديثي باسم الثقافة إلى التوجه نحو التراث، لنقل التوجه الإسلامي. في جل محاضراتي أركز على فكرة، تقوم على قوسين تاريخيين كبيرين، أحدهما يبدأ من الثورة الروسية 1917م، وبداية إشعاعها التدريجي ووصولها للعالم العربي ما بين سنتي 1930 و1940م، وهي مرحلة المطالبة بالاستقلال أو الاستقلالات، أفرزت موجة قومية تحررية تقدمية، هذا القوس وصل إلى حدود السبعينيات، فبدأ وعي آخر، يقول: إن الفكر القومي الحداثي الاشتراكي انهزم في عام 1967م؛ لأنه فرط في الدين وعادى الدين، وإنه يجب العودة للدين والثقافة التقليدية، فبدأنا في قوس تاريخي آخر، ازدهرت فيه الأحزاب الإسلامية وأحزاب الإسلام السياسي التي جرى احتواؤها واختراقها، وها نحن أمام قوس تاريخي آخر، إنه زمن ما بعد الربيع العربي وربما وصل عندنا إلى ذروته، وهو الآن في مرحلة اختبار حرجة قوية. على كل حال في هذه التوجهات بحكم تأثري بالبنيوية ألاحظ العوامل الخفية التي تحرك وعي الأفراد والجماعات والنخب، ولا يمكن التعرف على محدداتها إلا بعد مدة.
● كيف ترى أحوال المفكر العربي على مستوى صوغ الأفكار وصناعة الرأي العام؟ وما طبيعة تحديات الفكر العربي في هذه اللحظة القاتمة كالتي نعيشها؟
■ رصد الواقع التاريخي يبيّن أن هناك اختلاطًا، ففي العمق هو صراع بين التقليد والتحديث أو لنقل في خيط كبير منه هو صراع على المستويات كافة بين الفكر التقليدي والفكر الحداثي، لا على أساس أن كلًّا منهما صافٍ بل على أساس أن هنالك صراعًا داخل الفكر التقليدي بذاته، بين مكونه التقليدي والعصري، بين رغبته في الحياة وفي التجدد وانجذابه التاريخي للوراء، إنها معطيات شائكة من الصعب تبينها ولكن لنقل مبدئيًّا إن هناك موجات، مثلًا كيفية استغلال الوسائل التقنية الحديثة لخدمة ما هو تقليدي. فالتقليد الذي هو روح، يحاول أن يقاوم ما هو جديد ويحاول أيضا ألّا يموت، التقليد فيه رغبة في الحياة ورغبة في الاستمرارية فيها؛ لذلك يفرز عوامل للبقاء، وفي الآن نفسه عوامل لمقاومة الطرف الآخر حيث يستمر، لكن نقول أيضًا: إن الحداثة هي روح تريد أن تهيمن على التقليد باستخدام التقنية، بتسخيره هو نفسه، فهذا صراع معقد في العمق لكنْ في السطح هناك اختلاط وتموجات.
جاذبية التقنية وإغراءاتها
● من المفارقات الغريبة أن تنظيم داعش وغيره من القوى المتطرفة استطاعت أن تعزز وجودها من خلال الوسائط الحديثة، التي تعتبرها من منتجات الغرب الكافر؛ كيف تفسر هذه الازدواجية؟
■ الحداثة التقنية لها دائمًا جاذبيتها وإغراءاتها، وهي لا تقل إغرائية عن إغرائية التراث؛ لأن التراث التقليدي يقدم تفسيرًا بسيطًا للكون وللظواهر الاجتماعية كذلك، التقنية تيسر الكثير من المواقف وتبرهن على امتلاك القوة، فسواء القوة العسكرية أو القوة الإعلامية والمعلوماتية وغيرها. داعش، خصوصًا، ذات تكوين مزدوج، من بينه المكون التراثي التقليدي المتدحرج من القاعدة، وهنالك المكون التقني المتمثل في الجيش العراقي، فداعش تكونت من خلال هذين المكونين، ففي الكثير من المرات أشرت إلى أن «داعش» تكونت في عهد صدام حسين رغم أن بعض أصدقائي ذوو الانتماء القومي يرفضون هذه الفكرة؛ كيف ننسب نشأة داعش إلى صدام ونظامه القومي، فهذا ما حدث بالفعل. تسريح الجيش العراقي من طرف بول بريمر الحاكم المدني لقوات التحالف في العراق آنذاك، هذا الجيش العراقي الذي كان يعتبر من أقوى الجيوش في الشرق الأوسط، لا فقط بعدده وتسليحه، ولكن أيضًا بتقنياته، فضباط الجيش العراقي الذين جرى تسريحهم لديهم تكوين ديني، وإن صدام حسين في سنواته الأخيرة بحكم صراعه مع الغرب بدأ يطور نوعًا من الأيديولوجية الإسلامية، تمثلت في كتابة كلمة «الله أكبر» في العلم الوطني لاستجلاب تعاطف الدول العربية والإسلامية، وكذا الزيادة في منسوب تعاطف الشعب المتدين والمحافظ. إضافة إلى تكوين الضباط على يد العديد من الأئمة، هناك مزاوجة غريبة بين المكون التراثي التقليدي العنيف والمكون التقني الحديث، ويبرز هذا من خلال معطيات واقعية، زد على ذلك فالجيش العراقي وخصوصًا الضباط الذين تلقوا تكوينًا بروسيا والغرب يتوفرون على كفاءة وتقنية عالية.
● حمل فكر الجهاد معانيَ وأهدافًا ارتبطت بالحدود الزمنية التي أحاطت به، لكنها رسمت أخاديد في مخيال العقل المعرفي الإسلامي، بعضها استوجب حكمًا شرعيًّا جديدًا، ومع ذلك ما زالت الأيديولوجية «الداعشية» تتبنى مقولات وشعارات «دار الإسلام ودار الكفر»، وتدعو للسبايا وتوزيع الغنائم وتفجير النفس نكاية بالأعداء، فمن أين تستمد هذه الأفكار قوتها؟
■ الظاهرة الداعشية فريدة ومميزة ولها خصوصيتها، وهناك محاولات لفهمها وتحليلها، ولكن كظاهرة اجتماعية أو فكرية أو تاريخية، فإن المسافة الزمنية الكافية لاستجماع كل المعطيات لتحليلها تحليلًا عميقًا، ما زالت لم تستكمل؛ لأن الظاهرة الاجتماعية تتطلب وقتًا لاستجماع كل المعطيات والبحوث لكي يحصل التقدم في فهمها في اتجاه دراستها على أنها ظاهرة كلية، بمعنى أنها تطول كل جوانب المجتمع؛ العقدية، والدينية، والسياسية، والجيو-إستراتيجية، والمخابراتية، جوانب كلها لم يتم استيفاؤها، فهناك أحيانًا غلبة المنطق البوليسي أو المخابراتي عليها، أو المنطق الأيديولوجي، وهناك بعض البحوث الجامعية تعطي الأهمية للجانب النفسي والبنية النفسية والعقد وغيرها، وأخرى تعطي الأهمية للعوامل الاقتصادية والاجتماعية والحرمان والعنف… إلخ، لكن الجانب الذي يتم التعتيم عليه شيء ما، هو الموضوع الديني، فهناك نوع من التواطؤ؛ هل هو مقصود؟ مخطط له؟ أم هو تلقائي؟ مثلًا عندما يقال: إن «الإرهاب لادين له»، نعم «الإرهاب لا دين له» ومع ذلك، فإن هذا لا يعفينا من التستر على أناس يتبنون منطقًا معينًا وينسبون أنفسهم لديانة وتوجه معين، وإذا كانت هذه الاتجاهات هي نفسها لا تُخفِي ذلك بل تُعلِنه، فعلى الباحث أن يسلط الضوء على الجذور العقدية والدينية لهذه الاتجاهات، هناك محاولات تصدر للتستر عليها لتبرئة الدين وهو نوع من الدفاع عن الإسلام، غير أن التعتيم على الظاهرة لإبعادها من دين معين، يتطلب البحث والدراسة في جذورها العقدية، وهذا لا جدال فيه.
● داعش ما زال موجودًا، رغم أن قوته تتلاشى بشكل كبير، لكن أيديولوجيته وتنظيماته تمتد عبر شبكات واسعة في العديد من الدول، بآسيا الوسطى وبخاصة الغربية فضلًا عن شمال إفريقيا، فهل المقاربة العسكرية والأمنية قادرة على تقزيم داعش وأيديولوجياته في المدى القريب في غياب المقاربة الفكرية والثقافية والإعلامية؟
■ لنقل المقاربة والمناولة والآلية العسكرية والمتمثلة في استعمال القوة لإبادة الأشخاص، والقضاء عليهم، في هذا الباب تم إحراز تقدم، ولكن الفكرة باقية وتنتشر بمثابة عدوى، وهنالك فئات واسعة يتم استقطابها. وهنا أقول بأن «داعش» أو الفكرة الداعشية أو التطرف الديني، ارتبط بظهور الإسلام السياسي منذ القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، حيث وجد المسلمون، وبخاصة منهم الفئة المستنيرة، أنفسهم في وضعية دفاعية أمام الهجوم الاستعماري الأوربي، فتبلورت فكرة مؤداها أننا ضعفاء لأننا تخلينا عن الدين وفرطنا فيه، ولذلك تغلب علينا الكفار، فهذا منطق معكوس ومحاولة لتبرئة الذات، فأنا أعتبر هذا الإسلام السياسي بصيغه المختلفة المتطرفة والمعتدلة بدأ يتبلور تدريجيًّا حتى وصل إلى هذه المرحلة، ولذلك يمكن التأريخ لداعش منذ بداية ما سمي بالنهضة العربية ودخول الاستعمار، فداعش قمة هذا التوجه الذي دعا إلى ضرورة الرجوع إلى التراث والاحتماء به، ولكن مع الأسف لم يتم إحياء الجانب المستنير في التراث العقلاني والتنويري والاجتهادي المعروف في الثقافة العربية الذي تم طمسه، وتم تطوير الجانب المظلم المتشدد الداعي للعنف.
الإعلام بالإرهاب هو إرهاب بالإعلام
● تحدثت في غير مكان، عن أن الإرهابي المعاصر ليس عَدَميًا بالكامل؛ كيف ذلك؟
■ هناك إشكالية في تعريف الإرهاب، فللإرهاب ثلاثة أبعاد: البعد السياسي أو الأيديولوجيا التي يعتنقها الإرهابي، والبعد التقني أو التكنولوجي أو الأدوات، التي يستعملها الإرهابي، والبعد الإعلامي الذي يضاعف مفعول العنف السياسي والعسكري؛ إذ كما قال السوسيولوجي الفرنسي بودريار «الإعلام بالإرهاب هو إرهاب بالإعلام»، الإرهابي المعاصر ليس غبيًّا بالفعل؛ لأنه يستغل كل الكفاءات الدينية والتقنية والبشرية من أجل تحقيق الانتصارات، فبعض الباحثين يدعو إلى التركيز على دراسة الفاعل، والفاعل هنا هو الإرهابي، ولكن الإرهابي يموت، أقصد أن أحد مظاهر النقص في الدراسات حول الإرهاب هو أن الفاعل يغيب، فليس باستطاعتك أن تُسائِله وأن تحلل بنيته النفسية والفكرية إلى غير ذلك. فالمتخيل والمعنى هنا غائب وهذه ربما من إحدى النقائص الظاهرة في دراسة الإرهاب.
● في كتاب «الأيديولوجيا، نحو نظرة تكاملية» أخذ عليك البعض مسألة أنك لم تفسح المجال لتحليل الإشاعة والدعاية في منطق الأيديولوجيا، وهما العنصران الأساسيان في طول عمر أيديولوجية معينة أو قصرها؛ كيف ترى ذلك؟
■ هذا صحيح، ولربما هذا راجع لتأثري بالاتجاهات التي تناولت موضوع الأيديولوجيا، فقد تحدثت عن المحددات السوسيولوجية والفكرية والنفسية، لكن فعلًا طريقة انتشار الأيديولوجيا التي تدخل في إطارها الدعاية والإشاعة لم أهتم بها كثيرًا؛ لأني أوليت بالدرجة الأولى، الاهتمام بدينامية تشكل الأيديولوجيا في المجتمع بشكل فردي وجماعي وآلياتها الفكرية والنفسية، ولكن طريقة انتشارها لم تجذبني وتثير انتباهي؛ لأن هذا يدخل –لربما- في باب السيميولوجيا وتحليل الخطاب. أنا لا أبرر لك الآن، ولكن أحاول أن أفكر في الأسباب التي عاقتني عن الاهتمام بهذا الجانب المتعلق بالإشاعة والدعاية.
● ما رأيك في مستوى حضور المثقف في المجتمع والحقل السياسي؟
■ كلمة المثقف عندما نطلقها على وجه العموم، ندخل في إشكالات، فهناك المثقف التقليدي، وهناك المثقف الرسمي المنافح المدافع عن أي نظام سياسي، وهناك المثقف النقدي، نحن في الفلسفة على وجه العموم ننتمي للتيار الفكري الحداثي النقدي، فهذا المثقف الحداثي التقليدي مر بتجربة المرحلة الوطنية والمرحلة التقدمية والمرحلة الاشتراكية، وبعد ذلك كشف بعض المثقفين أن هنالك نوعًا من التنافر أو عدم التلاؤم بين الاختيار السياسي والاختيار الثقافي، نظرًا لتطور الجامعات، ولضخامة مهام التدريس والبحث. بدأ المثقف في هذه الفترة يشعر بأن تأثيره في المجتمع هو تأثير محدود، وأن مهمته ليست الاستمرار في الاجتماعات السياسية والنضال النقابي، بقدر ما تكمن مهمته في التكوين والكتابة والبحث؛ لأن هذا العمل يمتد على المدى الطويل، في حين أن العمل السياسي هو بمثابة فقاعة تنتفخ ثم تنفجر، وقد لا تترك أثرًا، لذلك بدأ نوع من الميل نحو الكتابة والتخصص والتفكير، وإلى جانبه نوع من النفور من العمل السياسي بسبب هذا المعطى المهني؛ لأن التقدم في البحث وفي الأستاذية يتطلب تفرغًا كاملًا، ولم يعد بإمكان الفرد أن يجمع بين النشاط السياسي والنشاط النقابي الذي يهدر الوقت، والكتابة والتأليف؛ لأن الثقافة لديها متطلبات، في الوقت نفسه بدأ يظهر نوع آخر من المثقفين، هو المثقف العضوي، لنقل الإسلامي الذي ينتمي للحركات الجديدة التي هي في طور النهوض كالحركات الإسلامية، فحركات الإسلام السياسي هي في جانب منها فعل سياسي، تتطلب تغذية فكرية، فهناك إذن حاجة تاريخية إلى مثقفين وباحثين يطورون ويكتبون في هذا المجال، فبدأ نوع من المثقف العضوي الإسلامي، وهذه هي المرحلة التي نعيشها الآن، نعيش مرحلة خسوف المثقف العضوي لنقل التحديثي بمعنى الراديكالي للكلمة، وظهور نوع جديد من المثقف. في السياق ذاته، أودّ الإشارة إلى الشروط الاجتماعية والفكرية والتاريخية التي يشتغل في إطارها المثقف وقد تكون قوية في مرحلة، وقد تكون أقل قوة في مرحلة أخرى، بمعنى ما أسميه بالشرط التاريخي أو الظرف التاريخي للمعنى الدقيق للكلمة «La condition historique» أي التي تتحكم وتوجه، تعبيرًا عن الحاجة التاريخية والاجتماعية، فهذه هي المحددات الكبرى سواء كانت تاريخية أو ثقافية التي أعطيها أهمية كبيرة في التحليل.
● في كتابك «للسياسة بالسياسة» ذهبت إلى أن الأحزاب السياسية المغربية هي امتداد للزاوية؛ كيف بنيت هذا الاستنتاج؟
■ في الحقيقة هذا حكم ناتج من ملاحظات وتجربة وأيضًا اقتيات فكري، والسوسيولوجيا تحدثت في هذا الموضوع، فكل الهيئات الحديثة أو الحداثية ومن ضمنها الحزب -على اعتبار أن الحزب مفهوم عصري وحديث- تجمع الناس على أساس آراء أيديولوجية متقاربة حول السلطة وغيرها، إنها ثقافة عامة سياسية، ولنقل أيديولوجية، فالحزب كتنظيم سياسي، هو أيضًا محط صراع بين مضمونه الجديد الحداثي، الذي لا يمثل طائفة أو عرقًا أو دينًا، بل يمثل رؤية مجتمعية، هو أيضًا محط صراع بين مضمونه التحديثي ورسالته التحديثية وأشكال بقاء التقليد، بمعنى أن الزعيم يتحول إلى مرشد، كأنه يريد أن يفرض الهيمنة على المنتمين للحزب لا على أساس أنهم أعضاء أحرار، بل على أساس أنهم مريدون وتابعون. فالتقليد يطارد حتى البنيات العصرية، كما أن التحديث يحاول أن يستعمل بدوره بعض الأدوات التقليدية وتسخيرها، في الحقيقة وفي العمق فلسفيًّا، الصراع بين التقليد والتحديث هو بمثابة معركة قاتلة في عمقها، ولكن في تشكلاتها وتمظهراتها هناك مستويات للتداخل والتفاهم والصراع. في الحقيقة التقليد لا يموت والحداثة لا تكتسح، هناك دينامية وجدلية عميقة، وإن قلت حسب قناعاتي الشخصية بأن المسار هو المسار التحديثي، وإنما يسير بشكل بطيء وعنيف وقاتل، لنقارن -مثلًا- المجتمع المغربي اليوم بمختلف فئاته، لقد حققت المرأة المغربية في العصر الحديث طفرة نوعية أصبحت جزءًا من الفضاء العام، ومطالبًا بمساواتها في الإرث، فهذه قمة النضال، فالسيرورة التحديثية بطيئة وخادعة حتى إنه يخيل أن التقليد هو الذي ينتصر، ولكن في العمق هناك صراع دقيق. في كتابات أخرى أتحدث عن صراع استعاري وهذا تفكير طويل المدى بحكم العلاقة بين التقليد والحداثة؛ إذ لا يمكن إعطاء رأي حاسم فيها، تترك دائمًا التطور مفتوح الأفق للتحليل.