تأويل السُّلّم نصوص

تأويل السُّلّم

نصوص

اللانهائي

يجسد السلّمُ، في حالي الصعود والنزول، فكرة اللانهائي، وينبثق عنها

إنه لحظة الممكن، بين جناحي المستحيل:

لا نهائية الصعود تواجه لا نهائية النزول، تحاكيها وتعاكسها لتحكي عنها

صعودُ السلّم يجد متخيّله في نزوله

نزولُ السلّم يجد متخيّله في صعوده

كلُّ سلّم مرآة

وكلُّ صعود أو نزول ذهابٌ لا نهائي في جوهر المرآة.

السلّمُ جسرٌ بين الهنا والهناك، حيث الهناك لا تُرى، في حالي الصعود والنزول، ولا يمكن الوصولُ إليها، نقطة مستحيلة في جغرافيا الحلم والوهم والتحسّب والمستحيل، تتحقّق مع أبعد فكرة تنوس فيها شعلة العقل وتُلقي ضوءًا شحيحًا على العالم، في الدواخل القصية للنفس الإنسانية، المرتفعة منها والمنخفضة على السواء، وفي خوارج هذه النفس، حيث تبدأ فكرتا الصعود والنزول ولا تنتهيان، وحيث يكون الطموح في الاكتشاف لا نهائيًّا، اكتشاف الأعالي والأسافل وما تخبئان.

نهايةُ السلّم توجد أبدًا في العقل، في دورة التصور والخيال.

كلّ سلّم نراه ونستعمله مقتطعٌ من سُلّم أول، فريد، لا نهاية لحديه، يواصل امتداده، في كلِّ وقت، في جهتي العالم، العليا والسفلى.

السلالم، كلُّها، تتكتم على حنينها لروح السُّلّم الأول الذي لم يتخل عن نشدانه المزدوج: صعودًا نزولًا لا نهائيين.

فكرة اللانهائي تقود السُّلّم، على نحو دائم، للتيه والذوبان في استقامة الزمن.

الصعود، ذلك الفعل الجوهري الذي يؤاخي هبوطًا جوهريًّا هو الآخر، فعلان متوافقان في إتقان مربك، ليس سطحيًّا فحسب، بل عميق في توغله في فكرة الزمان المستمر بلا التفات، والمليء مع ذلك بالارتجاعات والالتفاتات.

طبيعة السُّلّم تجعله، بطريقة أو بأخرى، صلبًا ولينًا، ثابتًا ومتحرّكًا، صاعدًا ونازلًا، ليس له أمام وخلف، كل ما يكون على درجاته يغادر الأمام والخلف ويكون في جهة ثالثة، مجردة وجوهرية، تحيا في صلب مطلقها الذي يتخلق من التسلسل غير النهائي للدرجات.

عند هذه النقطة يحين القول: السُّلّم لولبٌ معتدلٌ ينشأ في فراغ ويجعل له قيمة من استمراره الصارم، إن الضبط الهندسي في السُّلّم مدعاة للتفكير في مساحة الرعب التي ينشأ فيها، رعب بارد ينبثق من قوة الشكل الجداري ويقيم علاقة وطيدة معه.

السُّلّم نسق يتجسد في فضاء العمارة مثل شجرة منحنية على نهر.

الشجرة المنحنية: سُلّم.

السُّلّم يأتي بالشجرة والنهر، بالحفيف والزقزقة والخرير، إلى قلب العمارة المصمت الكتوم. درس لا نهائي في العلاقة الفريدة التي يُقيمها السُّلّم مع كل ما ينبثق عنه ويؤدي إليه.

استقبلتُ صديقةً مهاجرة

ذات شتاء، استقبلتُ صديقةً مهاجرةً

وقضينا نهارًا بصريًّا عذبًا، زرنا فيه بعضَ أماكنها الأولى:

إعداديتها العريقة المواجهة لرصيف الميناء، وشوارع فتوتها، حيث سيقان السبعينيات العارية والفساتين المزهرة ذات الكراكيش بعض من الذكرى، وتوجهنا إلى بيت الأسرة المقفل، منذ خمس وعشرين أو أكثر، لم تكن الأسرة قد حسمت أمره، فأوصدت الباب وأمنت المفتاح لدى الجيران، ولأن خمسًا وعشرين مرت، لم نتوصل إلى المفتاح بسهولة، لكننا فتحنا الباب، آخر الأمر، واستقبلتنا، على الفور، رائحة هواء محبوس.

كانت الصديقة المهاجرة تزداد صمتًا مع كل خطوة تخطوها داخل الغرف الخالية متآكلة الطلاء.

في زاوية البيت شبه المعتمة توقفتْ ونظرتْ إلى السُّلّم الحجري، ثم تقدّمتْ ببطء، كما لو كانت تحلم، جلستْ على أولى الدرجات، محاولةً أن تكتم بكاءها، لكنها لم تستطع حبس دموع نزلت في صمت.

دموع صديقتي جعلت كلَّ شيء مرئيًّا .

يأخذنا السُّلّم إلى ذكرياتنا البعيدة، صعودًا أو نزولًا، كما لا يفعل أيُّ مرفق آخر، في بيوتنا المهجورة.

سُلّمُ النهار والليل

ينهمك السُّلّم نهارًا في أفعال الصعود والنزول التي تخطها الأقدام على درجاته، أقدام فتية رشيقة سريعة النقلات، وأخرى كهلة متأنية، كلٌّ منها يترك بصمته فوق درجاته ويغيب في الأعلى والأسفل، ويبقى السُّلّم في وحدته الليلية النهارية، يفكر بما كان من حياة على درجاته، بالأقدام الصاعدة والنازلة، والأيدي الطليقة في فضائه، تحط أو تطير، وبظلال الأجساد، كلٌّ يغيب في نوعه وفي علامة وجوده، القدم في الخطوة، واليد في الإشارة، والظل في انكسار الكتل التي يلمسها الضوء

في هدأة الليل يهب السُّلّم نفسه لما يتبقّى من أصوات.

السُّلّم، في النهار، احتفال، وفي المساء، صدى متلاشٍ وفكرة آفلة.

متاهيّةُ السُّلّم

في كتاب الرموز يحضر السُّلّم بين أقدم الرموز مرة، وبين أحدثها مرة أخرى، ويظهر إلى جوار أشدها غرابة مرة، وأكثرها وضوحًا ومألوفيةً مرة أخرى، يُدهشني ذلك وأعود لتأمل تتابع الرموز من جديد والتفكير بموقع السُّلّم بينها، وأفكر، مع توالي الرموز، أن ليس للسُّلّم موقع واحد محدد ونهائي، وأن التعدد خصيصة سُلّميّة حاسمة، تمنحه موقعًا متصلًا منفصلًا في آنٍ، مع رموز الكتاب وعنها، وأفهم، ربما، أن وجوده الحافل المتكرر في الكتاب يمنحه فرصةً ليكون خارج التتابع المنتظم للرموز، وتلك أمثولة كلِّ واقعة مزدوجة المهام ثنائية الوظيفة والمعنى.

المرور من مستوى إلى آخر، ومن كينونة إلى أخرى، والوصول إلى مستوى وجودي جديد، يجعل من السُّلّم أداةً متاهيّةً، فالرمز الذي يُصعدنا إلى أعلى الطبقات يُنزلنا إلى أدناها، وتُسهم كلُّ وظيفة بين وظيفتيه، في نهاية الأمر، في بلبلة موقعه في كتاب الرموز، وتمنحه الحقّ في جملة ليس لها مثيل: «السُّلّم رمز لمحور العالم»، هكذا ندخل في نظام العالم المتاهي الذي تشكله الوظيفة الثنائية للرمز، إنه أداة الانتقال من الزيف إلى الحقيقة، ومن الحقيقة إلى الزيف، من الليل إلى النهار، ومن النهار إلى الليل، ومثلما تملك رمزية السُّلّم أن تجزّئ مقولاتها، يكون لكل واقعة سلالمها المنفصلة، لليل سلالمه وللنهار سلالمه، للحقيقة سلالمها وللزيف سلالمه.

الوسيلة المثلى للصعود، وسيلة مثلى للنزول، ذلك ما يقوله كتاب الرموز، وما لا يقوله أيضًا.

عينُ السُّلّم

للسلم عين بعيدة دقيقة لامعة كعين الطائر، تبادلك النظر، تدقّق فيك، لو نظرت إليها من أسفل السُّلّم أو من أعلاه، في الحالين تكون هناك ومن حولها يكرّر الجفن الحجري استداراته الحلزونية، في مدٍّ لا ينتهي، ودورة ليس لها اكتمال. عين السُّلّم تتراءى مشفوعةً أبدًا بسحرية المشهد وحلميّته، مأخوذةً بروحه الطقسية وهي تنعم النظر في الكائن الصاعد، أو النازل، في هذا العمق أو ذلك الارتفاع، تقول خطاه الكثير عن الجموع التي صعدت سلالم الزمان تحرسها العناصر في كلِّ عصر، ويقول ظله المرتسم على الجدار.

القراءة وعوالمها كما يتصورها مارسيل بروست

القراءة وعوالمها كما يتصورها مارسيل بروست

القراءة وجه الكاتب الأصلي بملامحه التي تشحب وتختفي مع السنوات فيعمل على استعادته في كلِّ ما يكتب، ملمحًا بعد آخر يدفع عنه الضباب، أو هكذا يحلم كلما جلس للكتابة. والكتابة، على هذا النحو، مغامرة بعيدة من مغامرات الخيال، وإنصات عميق للتجربة الإنسانية في حضورها الفردي، وسفر متصل خارج حَدَّيِ الزمان والمكان، يمنحنا في كل مرة ما يعمّق تصوراتنا عن ذواتنا وعن العالم.

في كتاب «عن القراءة»(١) يقدّم مارسيل بروست (1871- 1922م) رؤيته عن القراءة وعوالمها، ويبين موقفه منها ومن التجربة القرائية، موثّقًا علاقته الشخصية بالكتب والمؤلفين الذين قرأ لهم وحاورهم وتأثر بهم، والحديث عن عوالم القراءة بوصفها مزيجًا من الذكريات، والتأملات، والتساؤلات التي تُسهم إلى حد بعيد في رسم ملامح كل منا واستعادة وجهه. والكتاب، في الأصل، مناقشة لأفكار الناقد الإنجليزي جون روسكين (1819- 1900م)، التي قدمها في محاضرتين مؤكدًا فيهما أن القراءة «فعل عام، جماعي، من المحبذ ممارسته في المكتبات العمومية». وقد عارض بروست هذه الرؤية مبيّنًا أن القراءة محادثة مع أناس أكثر حكمة من الناس الذين نتعرف إليهم من كثب، فـلا يمكن «للقراءة أن تتنكر في هيئة محادثة ولو كان ذلك مع أكثر أبطال الرواية حكمة».

وبذلك يقدّم كتاب «عن القراءة» رؤيتين تعمل كلٌّ منهما على وضع القراءة في موضع خاص من مواضع المعرفة، ببعدها الاجتماعي، كما يذهب روسكين بوصفه مفكرًا اجتماعيًّا، وبعدها الفردي، كما يرى بروست، لتُسهم بالنسبة لروسكين، في صياغة الجانب الاجتماعي في كل منا، في حين ترمي، في تصوّر مارسيل بروست، لما هو أبعد من تمجيد الإنسان. فهي «أنشودة بوسع أي عاشق حقيقي للكتب أن يسمعها، يستمتع بها ويفهمها»، وهي ضرب رفيع من التوحّد، تتعدّى ما هو غير مُجدٍ في علاقتنا مع الآخرين، «الصداقة مع الكتاب على الأقل صادقة، ولو كنا نربطها مع شخوص خياليين، وكتّاب راحلين أو غائبين، الشيء الذي يمنح هذه الصداقة بعدًا مؤثرًا وخاليًا من المصالح».

القراءة مساحة واسعة للحياة

تترفع القراءة، في تصوّر مارسيل بروست، عن كلِّ ما هو آني وخاضع لشروط المنفعة التي في الأغلب تحكم علاقاتنا اليومية وتتحكم فيها، «ففي القراءة تعود الصداقة إلى نقائها الأصلي، مع الكتب لا مجال للمجاملة». تكشف القراءة رؤية بروست الجمالية، ومبادئه، وتذوقه، ليضعه حديثها مع مثقفي عصره المشغولين بالإبداع في وجوهه المختلفة، التشكيلية، والموسيقية، والمعمارية، فضلًا عن أقدم الإبداعات الأدبية، وهي تجد في القراءة أفق حياتها.

جون روسكين

إنه يعمل، من خلال القراءة، «على استخلاص الجمال من كل شيء»، ويحرّرنا من أوهامنا. إن القراءة، بتصوّر بروست، ليست منفصلةً عن مجمل ما يحيط بنا من أشياء وأفعال، وهي تُدخلنا في توافق كامل مع كلِّ شيء من حولنا، وبها نكون أكثر حساسيةً وقدرةً على أن نؤثر فيما حولنا ونتأثر. إن القراءة بهذا المعنى تضعنا في قلب إيقاع الوجود، نُنصت إلى نغماته الخفيّة ونسمع إيماءاته البليغة. «لم يكن لدي سوى رفقاء يحترمون القراءة للغاية، كالأطباق المزخرفة المعلّقة على الحائط، الرزنامة الممزّقة منها حديثًا ورقة البارحة، بندول الساعة ونار المدفئة اللذان يتكلمان دون أن يطلبا منا جوابًا، وكان كلامها الناعم، المجرّد من المعنى -عكس أحاديث البشر- لا يشكل التباسًا في معنى الكلمات التي نقرؤها».

يوسع كتاب «عن القراءة» تصوراتنا عن بروست بوصفه قارئًا فريدًا، وهو يجعل من فعله القرائي مادةً للحديث عما تخلّفه القراءة من سحر في دواخلنا، سحر يستمر في مراحل حياتنا كافة، ليمتزج ويتداخل مع تجاربنا النفسية والاجتماعية كلما تقدّمنا في العمر حتى يغدو أخيرًا جزءًا عزيزًا مما نستعيده من الذكريات.

ترتفع القراءة لدى مارسيل بروست وتسمو فتكون «عتبة الحياة الروحية». إنها تنفلت، بهذا التصوّر، من مدار آنيتها لترسم دورتها في قلب الوجود، وتحافظ على موقعها في منزلة نفيسة بين النسيان والتذكر، ننسى لنقرأ ونقرأ لنتذكر. كما أن الكتابة لا تكون من دون محو، لا قراءة بغير نسيان، على طِرْس الوجود تحقق حياتنا الروحية عتبتها وهي تواصل الحضور بين محو وكتابة، لتكون هي المحو وهي الكتابة في آن، وهي الطِّرْس مثلما هي الوجود ذاته.

عن أيام الطفولة يتحدّث بروست متخيلًا أنها مضت من دون أن نعيشها، «الأيام التي أمضيناها رفقة كتاب من كتبنا المفضلة»، يحضر النسيان هنا ويحضر التذكّر، فالأيام الذاهبة بلا عيش هي الأيام المنسية، بلا علامة تجعلها تحنُّ وتعود إلى خواطرنا، لكنها الأيام التي نتذكرها بمزيّة ما قرأنا خلالها. أيام التذكّر هي، وما النسيان إلا توهّم، التوهّم رديف الخديعة والتخيل. وهمَ الشيء: دار في خاطره، وقد دار في خواطرنا أنها أيام منسية، لكن الوهم طريق واسع لاعتقاداتنا الضالة، وها هي طفولاتنا، التي تعود بلا سبب، تعاودنا بأسباب القراءة. والأسباب طرق السماء في مراقيها ومعارجها، تعود إلى أول الكلام، كلام بروست، وللقراءة وهي ترتفع وتسمو، «لتنحت بداخلنا أعذب الذكريات».

ذكريات القراءة في الطفولة لا حدّ لعذوبتها ولا مجال لفهمها وإدراك ما إذا كان مبعث العذوبة فيها القراءة أو الطفولة، لكنها، كما أتصوّر أو أتخيّل، منطقة سحرية ثالثة مصنوعة من عجينة هائلة من دقيق الطفولة وماء الخيال. وفي هذه المنطقة العجينية ينتظرنا رفقاء يحترمون القراءة للغاية، «الأطباق المزخرفة على الحائط، الرزنامة الممزقة منها حديثًا ورقة البارحة، بندول الساعة ونار المدفئة اللذان يتكلمان من دون أن يطلبا منّا جوابًا». عالم غرفة الطعام بموجوداته المألوفة يغدو مع القراءة مساحةً واسعةً للحياة الروحية. كلُّ شيءٍ من أشياء الغرفة يدخل في فعل قراءتنا، يُنصت لأنفاسنا ويستشعر بهجتنا، بانتظار الجملة الفتّاكة يلقيها الأبوان على مسامع الطفل: «هيا، أغلق كتابك، سنتناول الغداء».

القراءة واستعادة الطفولة

عبر حديث بروست عن القراءة بوقائعها اليومية، ألتقط ما يأتيني من العائلة، وجوه وأصوات تتداخل في مشاهد تدور في غرفة الطعام، والحديقة، فأترك حديث القراءة، كما يفعل بروست، وأنشغل بالعائلة، أنساق إلى لعبته وأتشرّب خديعته، وأتخيلني كمن ينظر إلى العالم من ثقب الباب. إنه مفتاح القراءة الذي يكون بين عالمين، عالم المكتبة وعالم الأسرة البروستية، يوهمني مارسيل بروست وهو يستعيد قراءة طفولته بأن ضوءًا يتسرب من الثقب، فأنصاع لوهمه وأنظر.. من خلال القراءة تُستعاد الطفولةُ، كما تُستعاد القراءة فعلًا فاتنًا دائم العودة أبدي الرجوع. من خلال الطفولة، طفولة مارسيل بروست وقراءاته الأولى، تنفتح كلٌّ منها على الأخرى، تغذيها بالضوء وتستردّ تفاصيلها، الناس بمشاعرهم وحواراتهم، والمكان بمفرداته التي تُعلن عواطفنا وتكشف ما نُحب، وتكتم ما لا نُحب، كما لو كانت تنشر ثيابًا مبللةً.

غرفة مارسيل الطفل تكتسب جمالها من وجهة نظره بصدد انزلاق أشيائها بين دائرتين: من دائرة الراحة إلى دائرة المتعة، الأشياء تحفز خيال الطفل، تُعدّه لأدوار سيؤديها بأمانة وشغف. «الستائر البيضاء الطويلة التي تخفي عن الأنظار سريري الموضوع وكأنه في عمق محراب، أكوام الأغطية المتنوعة بين تلك المصنوعة من التافتا، الموشاة بالزهور، والمطرّزة، وأكياس الوسائد القطنية الرقيقة». يتحرّك السرير كما تتحرّك الغرفة، من حدود الواقع إلى رحابة الخيال. كلُّ شيء يتغير، الستائر ليست بالستائر الواقعية البيضاء، والسرير ليس بالسرير الواقعي، وهما ليسا متخيلين بالضرورة، فقد لعبت الذاكرة لعبتها باستعادة كل منهما على طريقتها، وأفاضت عليهما من سحرها. السحر الذي يضفي على الأشياء قداسةً كنسيةً وينقلها من واقعية اليومي إلى حلمية الذكرى.

حتى أصعب اللحظات وأقسى الأشياء تُمنح، عندما تستعيدها الذاكرة، ضربًا من السحر يجعل منها لحظاتٍ شفيفةً ويقرّب الأشياء البعيدة إلى النفس، لتحيا غرفة القراءة، في استعادة بروست، احتفالها وهي تشهد تفتّح العلاقات بين أشيائها. ولا تحضر الأيقونولوجيا بوصفها حقلًا تزيينيًّا يرعى حاجاتٍ آنيةً عابرة، في غرفة قراءة بروست، بل تشكّل مساحةً جماليةً تمنح السواكن حركةً، والصوامت صوتًا، وتقرّب بين المتباعدات لتعيش أشياءُ الغرفة احتفالها وهي تُطلق سعاداتها في الغرفة، تُنصت وتستجيب لكل شيء وهو يمضي ويتحوّل، يعيش أدوار حياته، يخرج من رداء العادي إلى أردية القداسة والخيال. فيكون الطفل حينئذٍ بضعةً حيّةً من المشهد، تقرأ وتتعثر وتسقط، تسقط معها صورة المخلّص دفعةً واحدةً.

القراءة تغيّر العالم، تُضفي عليه غلالةً سحريّةً وهي تطلق الأشياء مما يقيدها وتدفع بها في مسارات جديدة. «هذه الأشياء كانت تملأ غرفتي بحياة صامتة ومتنوعة، وبغموض أتوه معه وأقع تحت تأثير سحره في آن، وكانت تحوّل غرفتي إلى كنيسةٍ صغيرةٍ حين تعبر الشمس القرميد الأحمر الصغير الذي يعتلي النوافذ». وهنا تعيش غرفة القراءة حوارًا من نوع آخر، تحقق الأيقونولوجيا فيه حضورها الأمثل، إنه حوار الأعمال الفنية المختلفة، رائعة بوتيتشلي «الربيع» المقلدة، منحوتة المرأة المجهولة، صورة الأمير يوجين الرهيب والجميل بسترته الفاخرة، كلُّ عمل فني في الغرفة يرتفع بها طبقة أخرى من طبقات الخيال، حتى لو كانت الأعمال الفنية لا تتماشى مع أذواقنا ولا تشرب من مياه زمننا، إنها تحفزنا على الخروج من ذواتنا والغوص داخل شخوص يشبهوننا ولا يشبهوننا.

حضور ربيع ساندرو بوتيتشلي المقلّد، القادم من فلورنسا القرن الخامس عشر، المشعّة بأفكارها الجديدة، الفاتحة بوابات عصر النهضة بأسطورياتها العميقة وعناصرها المشفّرة التي تطمح لاستخلاص الإلهي من الدنيوي وهي ترنو للحياة الأبدية، لم يكن حضورًا صامتًا. كان صمت اللوحة يفيض بوساطة الحب وطاقته الكبرى، في تقابلات بليغة ومواجهات محكمة، تُكمل كلٌّ منهما الأخرى وتُعلي من أدوارها، فينوس آلهة الحب، مركز اللوحة وجوهرها. فينوس في وسط اللوحة، ليس في وسطها تمامًا، خلفها تصطف الأشجار قوسًا مكسورًا، ويحوم فوقها كيوبيد معصوب العينين مع القوس والسهم، لرسل الآلهة، ربات الحسن، حضور في اللوحة، إنها دوامات الجمال في هبوبه الآسر وفي احتفائه الرفيع بالحياة.

يُعنى مارسيل بروست وهو يتحدّث عن القراءة، بموضوعه المعتاد، مراقبة ما حوله والإنصات للأشياء وهي تُطلق أصواتها الخفيّة معبّرةً عن حياتها الخاصة، لتحيا بعدئذ في دواخلنا، بعضًا من حياتنا السرية، لتغدو، عندئذ، أشياءً منفصلةً عنّا، خارج أحاسيسنا وذكرياتنا، «كأننا نُحسُّ بأننا نحبس هذه الحياة السرية داخلنا، حينما نتّجه ونحن نرتجف لنسحب مزلاج الباب، ثم ندفعها على السرير وننام معها أخيرًا، ونتدثر بالملاءات البيضاء الكبيرة التي تغطي وجهنا، بينما تُقرع أجراسُ الكنيسة القريبة وتتناهى إلى أطراف المدينة كلِّها لتُعلن ساعات أرق المحتضرين والعشاق». تتداخل الحياتان وتتواشج أطيافهما، تغذّي كلٌّ منهما الأخرى بالوهم والخيال، حياة الداخل وحياة الخارج، وصولًا للتماهي والذوبان، حيث تؤثر الأشياء من حولنا في حياتنا الداخلية وتتأثر بها، بعد غرفة القراءة تؤدي جملة مثل «لم أكن قد أمضيت وقتًا طويلًا في القراءة في غرفتي عندما تحتّم عليَّ الذهاب إلى المتنزه الذي يبعد كيلومترًا من القرية»، وظيفتي الربط والتحوّل، بين عالمي الغرفة والمتنزه.

غلالة الذاكرة السحرية

في الوقت الذي أبدأ بالتفكير بما أولى بروست من عناية، أراها كاملةً، لمحيط قراءته، داخل الغرفة وخارجها، وأهمل القراءة نفسها، يفاجئني بالسؤال: «ماذا إذن عن هذا الكتاب؟» كما لو كان يُنصت لهواجسي ويحاور ظنوني، لأكتشف أنه قد استغرق في قراءة رواية، متحدّثًا عن شخوصها «الذين منحناهم اهتمامًا وحنانًا يفوق ما نمنحه الأشخاصَ الحقيقيين المحيطين بنا». تملك الرواية أن تأخذنا من عالمي القراءة الداخلي والخارجي، بإشارات حياتيهما السريّتين لتُغرقنا في عالمها الحافل بالحياة ونهاياتها القاسية. كلُّ نهايةٍ قاسيةٍ بطبعها، أقول، كأنها لم تكن من صنع مؤلف، نهايات غريبة نزلت من السماء.

يخلص بروست لبيان تصوّر جون راسكين بصدّد القراءة في محاضرتيه «الكنوز الملكية» المقدّمة بفندق مدينة «روشهولم» القريبة من «مانشستر» في السادس من ديسمبر عام ألف وثمانمئة وأربع وستين، و«حدائق الكتاب» المقدّمة في الرابع عشر من الشهر ذاته، وقد هدف من تقديمهما إلى المساعدة في إنشاء مكتبة بمعهد روشهولم في الأولى، والمساعدة في تأسيس مدارس مدينة «أنكوتس» في الثانية. يبين بروست، خلافًا لما يراه روسكين، أن القراءة «ليست ملزمةً بأن تلعب في الحياة ذلك الدور البارز الذي يخصّصه لها روسكين». إنه يضع جانبًا قراءات الطفولة الساحرة «التي علينا أن نحتفظ بذكراها كما لو كانت ذكرى مقدسة»، وهو، هنا، يعرّج على الذاكرة، موضوعه الأثير، وينطلق منها لمناقشة القراءة، بما تلعبه الذاكرة من دور أساسي في مجمل أعماله.

وفي عمله «البحث عن الزمن المفقود» على نحو خاص، يشير ميشائيل مار إلى أن بروست «لم يمتلك كتبًا تقريبًا، لقد حفظها جميعًا في ذاكرته.. وعلى الأغلب كان الأدب الفرنسي برمته قابلًا لديه للاستدعاء من الذاكرة»(٢). إن عالم مارسيل بروست تغلّفه، على نحو شبه دائم، غلالة الذاكرة السحرية، هذه الذاكرة التي مثّلت آلية لاستدعاء أشباح عالم غارب ومنحتها الفرصة للحياة في عالم راهن.

وهو بذلك يتمكن من تأمل ماضيه بطريقة لا تخلو من احتفالية، «وقد أخذ الماضي فعلًا بواسطة واحد من أفعال الذاكرة اللاإرادية التي هي بوابات الواقع في منهج بروست»(٣). سيبنى عالم بروست وتتأسس رؤاه على طبقات من كشوفات الذاكرة، إنه عالم الذاكرة المرئي والمحسوس بكلِّ ما تقدّمه آليات الرؤية والإحساس من سبل لاستعادة العالم والشعور بتجاربه ومنها تجربة القراءة التي يضعها بروست موضع المساءلة. «إن ما تخلّفه القراءة بداخلنا على نحو خاص هو صور الأمكنة، وما كان يميّز الأيام التي كنّا نمارس فيها الفعل القرائي، والتي لم أفلت من تأثير سحرها، لذلك وجدتني وأنا أرغب في التحدّث عن قراءاتي الطفولية، أتحدّث عن كلِّ الأشياء ما عدا الكتب، ولكن قد تكون الذكريات التي جعلتني تلك القراءات أسترجعها قد أيقظت بداخل القارئ ذكرياته أيضًا».

يرى بروست تطابق أطروحة روسكين مع مقولة ديكارت «مطالعة كلِّ الكتب الجديدة تتماهى مع محادثة أكثر مؤلفي العصور الماضية صدقًا»، مؤكدًا «أن القراءة هي بالضبط محادثة مع أناس أكثر حكمةً بكثير، وأكثر إثارةً للاهتمام من أولئك الذين بمقدورنا أن نحظى بفرصة التعرّف إليهم من كثب»، ليبين، مقابل ذلك، أطروحته التي تنصُّ على أن القراءة ممارسة جوهرية من ممارسات الوحدة التي تمكننا من الاستمتاع بالقوّة الفكرية. وهو بذلك يضعف من كلِّ ما استند إليه روسكين في أطروحته؛ لكونه «لم يسع إلى البحث في كنه فكرة القراءة»، وقد عمل، بتصوّر بروست، على حكي ما يشبه أسطورة أفلاطونية جميلة، تاركًا مهمة التعمق فيها لذوي المبادئ المعاصرة.

ويُنهي جملته بتحديد أوجه التباين بين رؤيته ورؤية روسكين، فإذا كان بروست يعتقد «أن جوهر القراءة الأصلي يكمن في معجزة التواصل الخصب في خضم الوحدة»، فهو ينفي ما أسنده روسكين لها من دور اجتماعي ذي بعد محوري في حياتنا الروحية. الاعتراض الذي وجد تحققه في حديث بروست بما هيأ له من مدخل حياتي لن يستغني عنه في مجمل حديثه عن القراءة، حيث تبدو القراءة أكثر حميميةً وأشدّ فرديةً ضمن إطارها الحياتي الفاعل، كما تكون جزءًا من ذلك الإطار بوصفها نشاطًا حيًّا وفاعلًا بين نشاطات الحياة.

لحظات مفتوحة على الزمان

كمن يحلم، منتقلًا من لحظة إلى أخرى، يواصل بروست حديث القراءة مقتربًا أكثر من الكتاب الذي بين يديه، كما لو أنه يضعه في عين العدسة، مستعيدًا إياه من على بعد عشرين عامًا مرّت على قراءته. كلُّ ما تقدّم من حديث القراءة لم يكن سوى استعادة وتذكّر، تختلط فيهما الصور الذهنية مع الصور البصرية لتقدّم ضربًا من التواصل الحلمي الذي يسعى بروست للوقوف على تفصيلاته وتذوق زخارفه الكتابية الفارقة، لكي يمنح الروح لأوقات خلت، أليست الروح هي الذاكرة بتعبير أمبرتو إيكو؟ إنه يعمل على النظر باتجاه المستقبل بما تحفزه القراءة من لحظات انتباه تشكّل استعادتها حافزًا للانتقال في الزمن. الذاكرة بقدراتها العظيمة تعزّز قراءاتنا التي تكون ماضويةً فحسب، لحظات مفتوحة على الزمان، متاحة في آفاقه.

يتحدّث مارسيل بروست، متذكرًا الكتاب الذي انشغل بقراءته، الذاكرة ذات المدى البصري تُخبرنا بعنوان الكتاب، إنه «القبطان فراكاس» لتيوفيل غوتييه، مستعيدًا بعض جمله التي «تمنحه شعورًا حقيقيًّا بالثمالة». يلتقط جمل غوتييه التي تضيء أحاسيسه وتعبّر عن تصوراته، هذه التصورات التي يتوق بروست إلى معرفتها، كما في حديث غوتييه عن طبيعة الضحك التي لا يراها قاسيةً في حد ذاتها «إذ إن الضحك يميز الإنسان من البهائم، وهو أيضًا كما يتضح في «أوديسا» الشاعر الإغريقي «هوميروس»، امتياز الآلهة الخالدة والمبتهجة التي تعربد ضحكاتها فوق قمة الأولمب، خلال خلودها المرفَّه».

إن التقاط جملةٍ مضيئةٍ واحدةٍ من كتاب يبقي الكتاب حيًّا في الذاكرة، كما يبقي كاتبه، من خلال ما يستطيعه من كشوفات، «كنت أحبذ أن يورد في كتابه جملًا من هذا النوع، ويحدّثني عن أشياء بوسعي أن أستمر في معرفتها عن ظهر قلب، ومحبتها حتى بعد إنهائي لكتابه». إن الكتاب الذي ينجح في خلق حوار مع بروست، ومع كلِّ قارئ سواه، يمنحه طاقةً هائلةً حتى إنه يعدو «في الطرقات في كلِّ مرّةٍ أغلق فيها الكتاب بحماسة بعد إنهائي له، كي أفرغ الطاقة التي احتشدت بداخلي طوال مدة سكوني؛ لذا كنت أركض في الهواء النقي الذي يصفّر في أزقة القرية».

يتوجّه بعدها للحديث عن «خصائص الكتب المدهشة» من وجهة نظر قارئ محترف، بين الاستنتاجات والحافزات، مؤشرًا طبيعة الحكمة التي تُمليها علينا الكتب، إذ إن ما يسميه المؤلف «استنتاجات» يشكّل بالنسبة للقارئ «حافزات»، وما بينهما تعقد الصلة بين حكمتين: حكمة المؤلف وحكمة القارئ. في النقطة التي تنتهي عندها الأولى تبدأ الثانية مدعومةً بأمل القارئ بأن يحظى بالوصول إلى إجابات عما يجول في خاطره، في حين أن كل ما يستطيع المؤلفون أن يمدّونا به هو الرغبات، وذلك ديدن الفن على تعدّد مشاربه واختلاف حقوله. ما يوقظه المبدعون في دواخلنا يتماهى، أخيرًا، مع «تأثير الحب»، عبر جعلنا نرتبط- حرفيًّاـ ونمنح أهمية لأشياء لا تعدو أن تكون بالنسبة إليهم سوى تمظهرات لانفعالاتهم الشخصية.

إن ضوء القراءة يُضفي على ما يضيئه من الأماكن جمالًا تبدو معه في نظرنا «أكثر اختلافًا وجمالًا عن باقي المعمورة». وذلك ما يعدّه بروست انعكاسًا مختالًا للانطباع الذي خلّفته مخيلة مبدعها العبقري، إنه يتحدّث عما يتحقق في كتابته هو وما يُدركه القارئ ويؤخذ به. فرؤية الطفل بروست في «البحث عن الزمن الضائع»، تمنح عالم الأسرة المغلق وهي تجتمع في بيت عمته الكبرى ليوني، والبيت ذي الحديقة في مواجهة شارع القرية، حضورًا أخّاذًا لن يكون، في تصوّر بروست الكاتب، سوى انعكاس مخاتل لما ترسّخ في مخيلته من انطباع، وهو التجلّي الذي يقودنا نحو سحر القراءة ونرغب على الدوام في «أن نصل إلى أبعد منه، وهو في حدّ ذاته جوهر هذا الشيء الذي يدعى رؤيا».

وذلك كلّه يُسهم في منح القراءة أهميةً قصوى تكون معها «مدخلًا للحياة»، وهي إذا ما جعلناها منهجًا، ستكون (عتبة الحياة الروحية)، لتمضي من تلقاء نفسها إلى «المناطق العميقة في دواخلنا -تلك المناطق التي تبدأ فيها الحياة الروحية بالفعل- في الوقت الذي تحلّق عاليًا، تتسامى فوق اللحظة الراهنة، لتقدّم لجموع القراء أكثر من «حافز قادم من روح أخرى».

القراءة والكتابة والحقيقة

يمضي، بعد ذلك، للحديث عن قدحة القراءة التي تُشعل ظلام الغابة، القدحة التي يتوصل إليها العديد من الكتاب عبر «قراءة صفحة من كتاب جيد قبل أن يشرعوا في الكتابة»، تضيء القدحة مساحة الخيال بين إيمرسون (1803- 1882م) وأفلاطون، وبين دانتي (1265- 1321م)، وبين كثير من الكتّاب. القراءة، بهذا التصوّر، تحقّق ارتباطًا أمثل مع الكتابة بعد أن تغدو عتبةً لعوالمها ومفتاحًا سحريًّا لبواباتها العظيمة الموصدة، البوابات التي تنفتح على أعماق كلٍّ منّا ولم نكن نعرف طريق الوصول إليها. وذلك التجسيد الأمثل لجملة بروست بصدد تأثير القراءة في حياتنا الروحية، لنكون، حال وصولنا إليها، في «راحة جسدية وروحية مثلى»، تأتينا مثل هبة بعد بحث طويل متصل في جهات الحقيقة وتشعباتها، الحقيقة التي يرى بروست أنها تظل «بعيدةً ومخبأةً داخل مكان يصعب الوصول إليه»، ليشير إلى «بعض المستندات السرية، وبعض المراسلات غير المنشورة، وبعض المذكرات التي تكشف أسرارًا غير متوقعة».

يأخذنا حديث القراءة، عند هذه النقطة، إلى ما يبدو خفيًّا ونادرًا وذا منحى شخصي من ضروب القراءة، كلُّ ضرب منه طبقة مغلقة على أسرارها، وكلُّ قراءة، بالمقابل، تتكتم على أسرار طبقاتها، حتى لو بدت بلا طبقات ولا أسرار، فالمسافتان بين خيالات الكاتب والورقة، وبين الورقة وخيالات القارئ، تخبئان وتكشفان كثيرًا من الأسرار وصولًا للحقيقة التي لا تنبع، كما يرى بروست، من داخل الروح المتعبة، «بل توجد ضمن أوراق مطوية ومحفوظة في دير يقع بهولندا، وإنه لكي نتمكن من الوصول إليها علينا أن نتعب ونعاني، لكن ما سنبذله في سبيلها لن يكون سوى جهد مادي».

أفكّر مليًّا بجملة بروست، وبالقراء المحترفين العظام، آلاف من القراء المحترفين العظام، وهم يختبئون في الجملة ويتمترسون خلف كلماتها كما تختبئ الأسرار عادةً وتتمترس خلف الكلمات. تهبّ عليهم رياح العصور وهم مأخوذون بما بين أيديهم من صفحات، صفحة تلو صفحة، تُضيء وجوههم أنوار الكلمات لحظة تتكشف لهم المعاني وتتضح الدلالات، جيش من قراء لا أول له ولا آخر، يرفعون وجوههم وينظرون من فتحات أبراج مراقبة قديمة منصوبة على سور ممتد يضيع حداه في ضباب كثيف، يفوتني أن ألمح بينهم الوجوه الصخرية لقرّاء كتاب الطبيعة القدامى، في مروري الخاطف كأني أتطلّع إلى المشهد من منطاد وأشعر بالرياح الباردة تضرب وجهي بينما تتراءى لي وجوه أرسطو، وابن رشد، وابن عربي، وديكارت، وهيغل، وماركس، ونيتشه، وفرويد، وفوكو، ولا أدري إن كنت رأيت في مثل خطف الضوء وجهي بورخس والمعرّي، أو خيل إلي أني أراهما يقطعان إنصاتهما مائلين برأسيهما ويرنوان من فتحتين متجاورتين. تنفلت الوجوه سريعًا من المشهد وتغيب من مجال الرؤية، ولا يبقى سوى رنين جملة مارسيل بروست وهو يتحدّث عن الأوراق المطوية المحفوظة في دير هولندي.

أفكّر أن من الواجب علينا التدقيق فيما تحتويه مطوية الأوراق، إنها الحقيقة ولا شيء سواها، وعند الحقيقة يكون صوت بروست قادمًا عبر الوهاد فليس الوصول إلى الحقيقة بالأمر الهيّن القريب المنال، إنها الثمرة الطيبة المرّة لشجرتي التعب والمعاناة، «لكن ما سنبذله في سبيلها لن يكون سوى جهد مادي؛ إذ إن فكرنا سيكون إذ ذاك غارقًا في راحة ساحرة».

للحقيقة في تصوّر بروست جرس عميق صليله مدوّخ، كما لو كان قادمًا من أعماق البحر، وهي بالنسبة للمؤرخ محض مؤشر ودليل، ليس حديث بروست عن الأدلة التي توصلنا إليها قراءاتنا دليلًا للوصول إلى الحقيقة المطلقة، إنها أدلة قديمة محضة مخبأة في بطون الكتب، وهي بالطبع ليست سوى مدخل لحقيقة أخرى، كأننا حين نتحدّث عن الحقيقة التي توصلنا إليها القراءة نتحدّث عن اللعبة ماتريوشكا، فكلُّ حقيقة تتجلّى لأذهاننا تقود، وتخبئ، وتشير لحقيقة سواها، ما إن نصل إلى ما نتوهم أنه آخر الحقائق، أصغرها وأجملها وأقربها إلى اليقين، حتى تُشرق حقيقة أخرى، تبقى مضيئة في أذهاننا أبد القراءة.

قراءة العقول السامية

الكتّاب الكبار أيضًا يدخلون حديث مارسيل بروست، في الوقت الذي يلجون فيه مجتمع الكتب، في الأوقات التي يكونون فيها على اتصال مباشر بكتبهم، زاوية مضادة أخرى يتحدّث فيها عن علاقة «العقول السامية» بالقراءة، إنهم ضرب رفيع من «الشغوفين بالقراءة»، وهي مناسبة للحديث عن الرجال العظماء الذين يقاسمنا كلٌّ منهم عيبًا من عيوبنا. إنها العيوب التي تنزلهم من عليائهم وتجعل منهم أناسًا عاديين وتقرّبهم إلينا أكثر.

لكن بروست يتساءل «إذا لم يكن هذا العيب في جوهره ميزةً معروفةً»، ملتفتًا لفيكتور هيغو (1802- 1885م) وموريس ماترلينك (1865- 1949م)، وآرثر شوبنهاور (1788- 1860م). هيغو وهو يحفظ مقولات (تاست) و(جوستان)، ليكون «بإمكانه إذا ما اعترض أحد أمامه على شرعية مصطلح ما، أن يُثبت فروعه وانتسابه وأصله اللغوي، عبر اقتباسات تنمُّ عن إلمام حقيقي»، وماترلينك الذي يؤكد، بالمقابل، على خطر الإلمام الكبير، وكذلك هوس «عشق الكتب». هذه المخاطر التي تهدّد الإحساس المرهف أكثر بكثير من الذكاء. يُستحضر بعدها شوبنهاور «مثالًا عن العقل الحيوي الذي يحمل بخفّة أضخم القراءات».

عيب شوبنهاور، بحسب بروست، أنه لا يُدلي برأي من دون أن يدعمه باقتباسات عدة، لكن النصوص التي يذكرها ليست سوى أمثلة، تلميحات متوقعه تنبثق من لا وعيه، اقتباسات لم تلهمه البتة، على سبيل الحجة. وهنا لا أستطيع أن أبعد صوت نانسي هيوستن من ذهني بسخريته اللاذعة، وهي تقرأ «بابا عدم»، إن مراجعة صاحب مقولة «السعادة الوحيدة هي ألا تولد»، لا تكون بغير حسِّ السرية، إن ما لا تقاربه العقول العظيمة «هو أننا لسنا «كلَّ شيء» ولا «لا شيء»، بل «فضاء للتبادلات»، فرد يعيش تحولات دائمة، لم يرث الحياة فقط وإنما اللغة والطقوس والتقاليد والمعارف أيضًا»(٤).

إن سخرية هيوستن بمنزلة مقابلة درامية لما يميّز تفكير شوبنهاور من جدية في تناول الموضوعات التي تكون المعاناة في صلبها، قويةً وحاضرةً، ولا يمكن استبعادها، وسواء «كنا نتفق أو نختلف معه، فإن لديه برهانًا له نتائج بعيدة المدى فيما يتعلّق بالقيمة التي يمكن أن تتعلّق بالوجود الإنساني»(٥). ومن كبار الكتّاب ينتقل بروست للحديث عن الصداقة، فالقراءة في نهاية الأمر صداقة مع كاتب وكتاب، وهو يراها على نوعين: الصداقة تجاه الأفراد، والصداقة مع الكتب.

 ومن الغريب أن يرى الأولى «تافهةً مهما رُوعِيَتْ»، بينما تكون الثانية في تصوره صادقةً على الأقل لكونها ارتباطًا مع شخوص خياليين وكتّاب راحلين أو غائبين، وهي في العموم، متحرّرة من «كلِّ الصفات البشرية التي قد تُضفي قبحًا على الصداقات الإنسانية». هكذا يكشف بروست في حديث قراءته، من دون قصد، عيبًا بشريًّا من عيوبه الشخصية في الوقت الذي يتحدّث عن عيوب الكتّاب الكِبار.


هوامش:

(١) مارسيل بروست، عن القراءة، ترجمة سلمى الغزاوي، دار الهجّان، البصرة 2021م، المستلات الواردة في القراءة من هذه الترجمة.

(٢) ميشائيل مار، فهود في المعبد، ترجمة أحمد فاروق، أبوظبي للثقافة والتراث (كلمة)، 2009م: 20.

(٣) جيرمين بريه، مارسيل بروست والتخلّص من الزمن، ترجمة نجيب المانع، دار الرافدين ط2/ 2019م: 9.

(٤) ناتسي هيوستن، أساتذة اليأس، النزعة العدمية في الأدب الأوربي، ترجمة: وليد السويركي، أبوظبي للثقافة والتراث (كلمة)، 2012م: 61.

(٥) كريستوفر جاناواي، شوبنهاور، مقدمة موجزة، ترجمة وشروح: سعيد توفيق، المجلس القومي للترجمة، القاهرة 2019م: 130.

الكاتب والكتابة والتجربة الإنسانية

الكاتب والكتابة والتجربة الإنسانية

تستعيد مارغريت دورا معنى أن نكتب مستجيبين، في كلِّ مرةٍ يتجدّد فيها فعل الكتابة، لنداء عميق، تُسهم الحياة بتعميق حضوره ومنحه من القدرة ما يحرّره من محدودية الأثر، لتكون الكتابةُ توجهًا لإنتاج الحياة والانشغال بها، واصطفاءً بليغًا لإشاراتها يملك أن يُحيل الإنسان لمساحات مضيئة شاسعة، أو يرتفع به للأزمان الأولى للذاكرة البشرية، فـ«أن أكون وحدي مع الكتاب الذي لم أكتبه بعد، هو أن أكون ما زلت في الإغفاءة الأولى للبشرية»؛ إذ تتآزر الموجودات لحظة الكتابة، في سبيل تحقيق مجهولية الكاتب، وملاعبة غيابه شبه الكامل، حيث لا تبدو في قلب عملية الكتابة ثمة حياة خاصة، مثل ذلك ما يدوّنه بول أوستر في «ثلاثية نيويورك»، راصدًا القدرة الاستحواذية للكتابة، فـ«الكتابة عمل انعزالي يستولي على حياتك. وبمعنى من المعاني فإنه ليس للكاتب حياة خاصة به، حتى حينما يكون هناك فإنه ليس هناك حقًّا».

إن ما يرصده أوستر هو ما تسعى مارغريت دورا إلى التقاطه والارتفاع به مضيئة من حياتها الخاصة جانبها القصيّ، ذلك الذي يتكشف بالعزلة مستعادًا على نحو بليغ. إنها تخلق في كلِّ مرّةٍ عزلتها منفصلةً عن كلِّ شيءٍ ومتوحدةً معه في آنٍ، فالعزلة هنا وجه فاعل من وجوه استعادة السؤال وتأمين الطرائق المثلى، والشخصية بوصف أدق، لاجتياز النفق. إن للعزلة والمجهولية معنًى مضاعفًا يمدّ، مثل مياه جوفية، تصوراتنا عن الكتابة بالحياة، ويوطد أفعالنا، فيكون بمقدورهما أن تحققا فاعليتهما في تأمين حضور الكاتب وتجديد وعيه، ومن ثم رفد قدرته على النظر إلى التجربة الإنسانية بتدفقها وحيوية عناصرها، فتكون العزلةُ بذلك رديفًا لمراقبة الأثر، والمجهوليةُ حضورًا، إنهما بمعنى ما، تنشدان معًا أهدافًا بعيدة تُضيء في قلب التجربة.

يقتضي تأمل سؤال العلاقة، وتلمّس مختلف وجوهه، توجّهًا مبدئيًّا لوعي العملية الكتابية نفسها، بوصفها وظيفةً أخرى تقترحها الحياة لمراقبة حركةٍ خفيةٍ فيها، ففي حال توجه الكتابة لإضاءة ما هو مضاء فعلًا، مرصود ومتعيّن، مكتشفٌ، بجملة أخرى، وممارس، تَعْمِدُ عبر فاعليةٍ خاصةٍ إلى خلقه من جديد، فمن مسافة فاصلة، عميقة وضيقة مثل نفق سريّ، تتشكل العلاقة القديمة بين متلازمين: الكتابة والواقع، إذ تملك هذه الثنائية، بما تقترحه وتديم من خلاله اقتراح حياتها، من تقنّعٍ ومراوغةٍ وانفلات أن تستحكم على نحو دائم بأفعالنا، طقوس كتابتنا -حيث لا طقوس تُستعاد دائمًا- مؤثِرة طرقًا لا نهائية، مرئية مرّةً ولا مرئية مرّات، للوصول إلى أهدافها، الممكنة منها والمستحيلة؛ إذ تكاد تكون الكتابة نفسها واحدةً من اجتراحات الممكن البشريّ لرصد ما يحيطه، وما يتفتق داخله من مستحيل.

إنها الشكل الأصعب للمهمة، فما معنى أن يكون الأدب -حسب بارت- واقعيًّا قطعًا، من حيث إنه لا يتخذ إلا الواقع موضوعَ رغبةٍ، وهو، في الآن نفسه، دونما تناقض، ليس بالواقعي؛ لأنه يعتقد أن الرغبة في المستحيل أمر ممكن؟

إن استعادة سؤال العلاقة بين الكتابة والواقع ما زالت تمثل سمة من سمات العملية الإبداعية التي تتعدّى بقوة حضورها إمكانية الوقوف المجزوء على كلٍّ من طرفي العلاقة، في سبيل ملاحظة حيوية كلٍّ منهما في إثراء السؤال، وقدرتهما على استعادته خصائص النص وخصائص الواقع، إلى ما يحدّد تلك العلاقة من أثر منجز، عند كلّ مواجهة بينهما، قراءته لمستويات الفكر وآليات مواجهته وتلقيه للواقع والنص في وقت واحد. إن الفكر، بدوره، لا ينفصل عن الواقع أو النص ولا يتعالى عليهما في سبيل معاينة الواقعة الأدبية واستجلاء كوامنها، إنما يُقدم، عبر تعدّد وجوه تلك الواقعة وامتداد آفاقها، معالجاته لفاعلية العلاقة وحساسية مظاهرها.

موعظة المرمر العريق

إن التوجّه لقراءة الواقع بوصفه منظومةً نصيةً يستعيد، على الدوام، صوت مايكل أنجلو وهو يخترق صلابة الصخر، مثلما يخترق ركام القرون ليُلقي بموعظة المرمر العريق حيث الفكرة الكامنة أبدًا، في قلب الصخر، وحيث اليد؛ يد الفنان الخبيرة تمتدّ مستجيبةً لسحر الرخام، مشكِّلةً مرأًى جديدًا للمسافة الحرجة بين النص والواقع. إن القابلية الحركية للمسافة تمثل وجهًا آخر يملك أن يقترح أثر نصٍّ بعينه، فهو ينظّم، قبل ذلك، حساسية العلاقة وهي تتسع أو تضيق بين نقطتين، ففي الوقت الذي تمثل فيه نقطة التجريد إمكانية نظر النص إلى مراياه الخاصة، تُعلن نقطة التسجيل، قابلية النص التي تشفّ معها النسائج النصية إلى الدرجة التي يكون بمستطاعنا، على نحو يسير، إبصار ما يقع وراءها من شظايا الواقع، إنها تغيب عندئذ، مغيرة تدرّج وظائفها في سلم الرسالة، فتدفع (الشعرية) خارج أولويات المقاصد الأدبية في سبيل تحقيق أهداف تظلُّ على الدوام وراء إمكانية النص الأدبي على النظر
إلى مياهه الخاصة.

إننا نواجه، في محاولة منتظمة للنظر، طريقتين لاستعادة الواقع وضبط وحداته لاستنباط ما تنطوي عليه من دروس وعبر، تَعْمِدُ الطريقة الأولى لتنظيم الوقائع الحياتية بوصفها حوادث، كبرى أو صغرى، بمقدورها إذا ما شُكّلت بأنساق معينة أن تُفضي للكشف عن أنفسها، وكشف ما يصبُّ فيها وما ينبعث منها، من شبكة علاقات تمثل على الدوام مقومات الظاهرة وعوامل إنتاجها. إن الوقائع هنا تُنتقى لتمثل تأريخًا محدّدًا يظلُّ أمينًا لمجرى تراتبي متوالٍ، تتقدم السوابق فيه على اللواحق، ويسلّم الأجداد فيه وصاياهم للأحفاد.

أما الطريقة الثانية فإنما تكون بالتوجيه الواعي للمباني الحكائية، بمقدرتها على إدراك مرجعها والتقاط وحدات دقيقة من مجرى الوقع العظيم، وتنظيمها بالطريقة التي يكون بمستطاعها الإفصاح عما لم يسجله التاريخ، وما لم ينتبه الأجداد لأدواره الحاسمة. من هنا، ومن منظور بنيوي، تكون (وقائع الحياة بالنسبة إلى التاريخ كالقصة إلى العقدة. التاريخ يختار حوادث الوجود وينظمها، والعقدة تختار حوادث القصة وتنظمها. ففنُّ القصة، إذن، أوضح في إعادة التنظيم المصطنع للتتابع التاريخي الذي يخلق قصة في العقدة). وهو ما يدفع القصة على نحو واضح، لاجتناب الطرق المستقيمة الآمنة في سعيها لاستبصار ما يقع خلف العادي واليومي والمألوف، ما يشققه وينّشقّ عنه، مقترحةً من الطرق الدالة لوعي الواقع وإعادة إنتاجه ما يدفعها لكي تكون مدار قراءات لا منتهية.

استعادة فاعلية الأثر

ولما كان الواقع مركزًا مهمًّا لإنتاج النصوص، وتنظيم قدرات كتّابها على استعادة فاعلية الأثر والقادر على الامتداد لتفاصيل التجربة الإنسانية باتساع آفاقها واقتراح سبل إنتاجها، كان لنا أن ننظر لوجوه العلاقة بوصفها منظومةً تسعى إلى إدراك مستويات العملية الإبداعية وتلمّس خصائصها، مثلما هي فاعلة في اقتراح مستويات النص، تحديد طبقاته المرئية وغير المرئية، باشتباك علاقاته الحضورية والغيابية، وبما ينطوي عليه مظهراه التركيبيُّ والدلاليُّ، بما يمنح علاقات التشكيل والبناء سمتها الحركية، المتغيّرة، داخل حقل كتابي معين، فتملك أن تُضيء خصوصية ارتباطها مع مرجعها الواقعي من خلال ما يلحظ من وعي لاستثمار حركة عناصره، إنها تفتح وقتئذ للأدب مجالًا للتحوّل، والتغيّر، والتنويع، في انتقالة حيّة من المعلوم إلى المجهول، بما يمكّننا من استعارة جملة ناتالي ساروت وهي تتأمل حيوية الانتقال الدائم من المرئي إلى المخفي بوصفها (ما يجعل الأدب، كسائر الفنون، في حالة تحوّلٍ مستمر).

إننا في الوقت الذي نتوجّه فيه لمعاينة النصوص وملاعبة احتمالاتها نُعلن مقاصدنا في استعادة إنتاج علاقتها الحرجة، عبر فاعلية القراءة، مع خزانة مراجعها وفحص تواريخها الشخصية، وهي تولد وتنمو لتقيم علاقاتها غير المنتهية مع ما حولها، لتوفير فرصةٍ جديدةٍ لمعاينة السؤال: هل نَعْمِدُ، عندما نسعى لتجديد سبل النظر إلى النص الأدبي، إلى تجديد وعينا لإشكالية العلاقة بينه وبين الواقع؟

إننا نُديم، بإمكانية ما، حساسية المسافة الفاصلة، مثلما نُديم فاعلية السؤال في الامتداد إلى الواقع الذي لا يكون من دون النص إلا واقعًا موحشًا، أفرغت عصور التجربة الإنسانية شرايينه من دماء المفاجأة والترقّب. إن النص نفسه يظلُّ على الدوام بحاجة إلى ما يجدّد فيه دفق تلك الدماء، فهو يخضع، بوصفه كائنًا من دم وخيال لاشتراطات الحياة، ويضمحل بانسحابها عنه، فإن كلَّ عملٍ جديدٍ كما تؤكد ناتالي ساروت «بمجرد ما يتم استيعابه واستهلاكه، يغيّر الواقع الذي نعرف، فيُصبح جزءًا من ذلك الواقع المرئي الذي لم يعد يُغري بالاستكشاف»=. إنه يُطلق بذرته لاستكشاف آخر تتواصل عبره متوالية الأثر الأدبي مثلما تُستدعى فيه قابليات الواقع بوصفه شبكة واقعات صغرى، تتواشج في نسج المرئي، تلك التي يعمل الأدب على تحسّس قوة الحياة في جذورها، وهو يسعى لتجديد نظرته للتجربة الإنسانية بما يقترحه من طرائق للوعي، والمحاورة، والتشكيل: وعي التجربة، وإقامة الحوار معها، ومن ثم تشكيلها في منظومات لغوية.


هوامش:

(١) مارغريت دوراس، الكتابة، ت: هدى حسين، سلسلة كتاب شرقيات للجميع (26)، القاهرة 1996م، ص 28.

(٢) روبرت شولز، البنيوية في الأدب، ت: حنا عبود، اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1984م، ص: 97.

(٣) ناتالي ساروت، الرواية والواقع، ت: رشيد بنحدو، الموسوعة الصغيرة، بغداد 1990م، ص 24.

(٤) م. س، ص: 25.

إلياس فركوح: حلم الكُتاب المستحيل

إلياس فركوح: حلم الكُتاب المستحيل

مشهد 1

حدَّثَني عن الشجرة، كان رحيل مؤنس الرزاز الفاجع قد أنبت شجرةً غريبةً في داخله، الشجرة التي أخذت تكبر مع كلِّ رحيل، لكنها منذ رحل أمجد ناصر، قرينه البدوي، صارت غابةً، أسمع حفيف أوراقها في حديثه عن أمجد مثلما سمعته في حديثه عن مؤنس، وما يعنيه رحيل كلٍّ منهما بالنسبة له، أدخل عليه في «أزمنة»، أراه مفترشًا أوراقه، وبخطه المنمنم يواصل الإجابة عن رسائل مؤنس القديمة، بعد عقود من رحيله.

– الموت لا يقطع الرسائل ولا يوقف الأحاديث!

قال بصوت خفيض، كأنه يخاطب نفسه.

– إنها المشاريع التي لا تخطر على بال، يا صديقي.

أجبته.

بعد أقل من عام، وصلتني إلى البصرة نسخة من كتابه وقد سمّاه «رسائلنا ليست مكاتيب»، إنها الرسائل التي تعدّت كونها مكاتب، وفي إهدائها كتب، بحرف مائل أنيق، عن الموت الذي لا يقطع الأحاديث.

مشهد 2

لم يكن إلياس فركوح ( 1948 – 15 يوليو 2020م) صاحب دار أزمنة، ناشرًا عابرًا، قاربت الصنعة بينه وبين الكتاب فامتهن نشره وتوزيعه، بل كان عاشقًا فريدًا من عشاق الكتاب، متطلعًا للأجمل
والأكثر إبداعًا في صناعته. في معرض فرانكفورت للكتاب في عام 2004م، المناسبة التي سعدتُ بصحبته فيها أول مرّة، كنا نتجول بين أجنحة دور النشر العالمية،
نتوقف أمام كلٍّ منها، يسحب كتابًا ويتصفحه بصمت، يقرّبه من وجهه كأنه يستنشق عطره، بعد أن أنهينا جولتنا غادرنا الأجنحة متوجهين لكافتيريا المعرض، حينها تحوّل صمته إلى بوحٍ مثقلٍ ببعد الأمل: متى نصل بالكتاب العربي إلى هذا المستوى؟ أمل يُدرك استحالته في واقعنا الذي يزداد تراجعًا كلما تقدم الزمان، لكنه، مع ذلك، بقي مسكونًا بحلم الكتاب المستحيل.

مشهد 3

صلة إلياس، ساردًا نوعيًّا، بالكتابة، حققت له موقعًا متقدّمًا في الكتابة العربية الحديثة، فلم تكن الحداثةُ لديه ناتجةً عن رغبة آنية أو هوى عابر، بل كانت ذهابًا نحو التخوم البعيدة للتجربة الإنسانية، بدفقها المستمر ودأبها المتصل، حداثةُ الكتابة لديه تتعدى ما هو زائل وعابر ومنقضٍ، لتعبّر عن شغفها بالمضي نحو الجوهر البعيد في أعماق الإنسان، وهو يعيش كفاحه المستمر من أجل المشاركة في إنتاج معنى ما للوجود، أتقدّم خطوة فأقول: كتابة إلياس تُنتج صيغتها من (الكاتب الملتزم)، حيث يتجلّى الالتزام لديه إسهامًا كليًّا في البحث عن الإنسان، ضمن مساحة مضبوطة هي مزيج فاعل من الأدب والحياة؛ لذلك كان الإنسان في مشروعه السردي، مناسبةً لتجديد الكتابة واحتمال عناءاتها، من هنا نظر إلياس إلى كلِّ ما حوله بوصفه إنسانًا قيد التحقق والأمل؛ المدينة، والكتاب، واللوحة، والصورة الفوتوغرافية، والأغنية، جميعها يذوب في فكرة الحداثة، ويعود لينبثق من جديد إنسانًا يشرب من نبع الحرية الزاخر النقي، وهو ما كان يدعوه لتصوّر مشروعه الكتابي، على اتساعه وتنوّعه، نوعًا من (الشهادة) غير المنقطعة وغير المحكومة بظرف، إنما المنقادة لطموحها في إنتاج نص يستجلي ما عاش من تجارب وما تخيل من أحلام.

مشهد 4

لسان صامت يوقظ سؤالًا، ونظرة ساخرة. بين اللسان والنظرة، ومن خلالهما، ينسج إلياس فركوح قولًا في معنى الكتابة ومعنى الوجود، وجود الكاتب الذي يتأسس على وجود الخيّاط وينبثق عنه، في محاولة لاستعادة الفعل الخلاق ومبادلة الوظائف بالدخول إلى الكتابة من سمّ الإبرة وقد (نتشت) وميض عيني الأب الذي كان يمتهن الخياطة النسائية، لتضيء عيني الابن، دورة واسعة من ظلام ونور، ترعاها حيرة موصولة تكتب لوعة الابن أو تخيطها، بين موت هنا وهلاك هناك.

وهي العناصر التي ستؤسس كتابة إلياس فركوح عوالمها عليها، وتنظم تحولات حكاياتها، مثلما ستبني على أرضها معمارها السردي بين أمكنة وأزمنة وحكايات تتباعد حينًا وتتقارب أحيانًا، ممتدة على مساحة تفيد من حيوية المرجع، على اختلاف أشكاله، وفاعلية الوثيقة وهما يعيشان، مع كل حكاية حياة جديدة، فلا تعد، عندئذ، مراجع صامتة أو وثائق تحيا أسيرة وقائع تاريخية معلومة، بل تجد مع زمنية السرد إطارها المبتكر الذي يمكّن كلًّا من المرجع والوثيقة من إنتاج قول مغاير عما ارتبط به، وأحال إليه خارج مجال الكتابة السردية واقتراحات قراءتها.

إن الدورة، وهي ترتجح بين ظلام ونور، والحيرة، وهي تتواصل في نسيج الحكايات وتوجّه مساراتها، والموت الحاضر أبدًا في مجرى وقائعها، تعمل جميعها على نسج تفاصيل مشروعه السردي وتنظيم حركتها بما تبتكره من وشائج، وما تعمل على توليده من أسئلة.

ثورة الشباب في العراق: رمزية الحدث وحدود الصراع

ثورة الشباب في العراق: رمزية الحدث وحدود الصراع

في الوقت الذي انشغل فيه العديد من مثقفي العراق بتوصيف ما يحدث، هل هو ثورة، أو حراك، أو احتجاج، أو انتفاضة بسبب الفساد الحكومي المستشري، وفقدان الوظائف، وغياب الخدمات الأساسية، التي شكلت أهم العوامل المحركة للغضب الجماهيري، والطبيعة السلمية المرادفة لكل من تلك التوصيفات، حدودها وأساليب عملها ومدى تأثيرها؛ واصلت جموع بشرية شابة كتابة تاريخها الخاص في الشارع العراقي الذي لم يكن تفجره فجائيًّا، بعيدًا عن مخاوف الآباء الذين أنهكتهم الحروب والملمّات، وأخذتهم الدروب التي سلكوها بعيدًا عن نظام صدام حسين ونزواته المهلكة كلَّ مأخذ، عزيمة الأبناء تأتي على الدوام بما هو خارج الحسابات وفوق التوقعات، وذلك بالضبط ما حدث في ثورة أكتوبر العراقية، فالحاجة المتفاقمة لتوظيف مئات الآلاف من الخريجين الذين يعانون ويلات البطالة، وتردِّي الخدمات الأساسية في البلاد عامة، فضلًا عن الفساد الذي أصبح سمة مُعلَنة من سمات إدارة الدولة، الآفة التي حوَّلت العراق في سنوات قليلة من دولة تنموية ذات خطط فاعلة إلى دولة فاشلة ينظر لها عالميًّا بكثير من الريبة والازدراء، لم تَعُدْ تلك الأسباب وحدها عوامل التحول الدرامي للوضع العراقي، وإن كانت تملك تأثيرًا حاسمًا فيه، إن ملاحظة مقدار الهدر المالي منذ سقوط نظام صدام حسين في التاسع من نيسان 2003م حتى تاريخ الاحتجاج الذي يقاربُ الأربع مئة وخمسين بليونًا، الرقم الذي يبدو أقرب إلى الخيال وغالبًا ما وصف بأنه رقم فلكي، وهو المبلغ الذي يمكن إذا ما أُحسن استغلاله أن يرتقي بأحوال قارة بكاملها، ناهيك عن أحوال بلد بحجم العراق، مع تعطيل شبه كامل لمنظومة القانون، ذلك ما يبدو منطقيًّا وحقيقيًّا تمامًا، فكيف يمكن التلاعب بمثل هذا المبلغ مع وجود قانون فاعل؟

إن غياب القانون جعل الفساد قانونًا سائدًا، له أعراف ونظم وآليات، في دولة يقوم نظام الحكم فيها على المحاصصة بين الطوائف التي شرعنتها سلطة الحاكم الأميركي للعراق بول بريمر، وأقامت بموجبها آلية حكم أُريد له أن يكون وطنيًّا بآليات ديمقراطية، وهو الذي أنتج بدوره دستورًا أُسس على مبدأ المصالح المشتركة، كل ذلك وكثير غيره عمل على إدامة الغضب في نفس المواطن العراقي وهو يلمس وبشكل يومي غيابًا كاملًا لدولة المؤسسات، وإحلال دولة الأحزاب وميليشياتها بديلًا منها، ذلك الغضب الذي أخذ يتفجر بشكل دوري في بغداد ومحافظات الجنوب، البصرة خاصة، منذ عام 2011م؛ بسبب حالة المدينة القريبة الشبه بعراق مصغر، فهي المصدر الأساس للنفط العراقي وصاحبة الموانئ البحرية والمنافذ البرية على العالم، وهي في الوقت نفسه مدينة الفساد الأولى التي تعيش على بنية تحتية مهدمة وانهيار في مؤسساتها التي أصبحت مملوكة على نحو شبه كامل للأحزاب؛ لذلك صار من المعتاد أن تتفجر الاحتجاجات في البصرة على نحو سنوي، في فصل الصيف خاصة حيث يصل معدل درجات الحرارة إلى الخمسين، وهو الوقت الذي تكون حاجة المواطن للخدمة الكهربائية على أشدها مقابل تهاوي قدرة الدولة على توفير اليسير منها، الصيف في البصرة موعد تقديم القرابين البشرية أمام إصرار الحكومة على إبقاء الحال على ما هو عليه، فالفساد لم يعد مظهرًا عارضًا يمكن معالجته بتقديم مسؤول رسمي أو أكثر إلى القضاء، وإنما هو كتلة جهنمية صلبة، حاكمة متحكمة، أنتجت خلال أكثر من عقد ونصف شبكات كبرى من اللصوص والمنتفعين التي أنتجت بدورها دولتها الخاصة، وليس لمؤسسة السلطة الحاكمة في العراق سوى مهمة وحيدة تتمثل في إدارة منظومة الفساد، وتوزيع الوظائف والأدوار بين الفاسدين، فكلُّ شيء يدور فيما يشبه العلن وفي وضح النهار، على مرأى ومسمع من الشعب الذي بقي خارج الخطط والحسابات، لكن للجيل الفتي حساباته وأهدافه الواضحة، وهو جيل ولد معظم أبنائه بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003م، وعاش سنواته في ظل تردي مؤسسات الدولة وانحسار أدوارها، وشهد على نحو يومي مظاهر الطبقية الجديدة التي لا تخفي ثراءها الفاحش السريع فاصلًا بين طبقتين؛ طبقة المالكين المتخمين وطبقة المعدمين!

كل تلك العوامل راكمت أسباب الغضب في نفوس الشباب العراقيين، فكانت بمثابة ذاكرة احتجاجية تغذي الرفض في نفوس الشباب، فكلُّ يوم يمرّ يحمل مدخولًا إضافيًّا فاحشًا لثروات الفاسدين ويحمل، بالمقابل، ما يقوي الغضب ويديم أسبابه في النفوس.

إن ثورة أكتوبر الشبابية أعلنت قوانين جديدة لإدارة الدولة في العراق تتوافق مع طبيعة الحراك وديمومته، أهمها التأكيد على قوة اللاعب الوطني الذي لم يجد ما يستند إليه في التعبير عن غضبه واحتجاجه غير معنى الوطن والوطنية، فكان شعار الثورة المركزي «نريد وطنًا» يختزل ضروب المواجهة بين قوى الفساد التي لم تُحسن تقدير التغيير الحاصل في الوعي الشاب بعيدًا عن محاذير الآباء وتوجيهات الأحزاب ذات الصبغة الإسلاموية التي انخرطت تحت خيمة الفساد وأسلمت قيادها لرموزه وأركانه. لم يعد الأمر، بعد ذلك كله، سوى مواجهة رمزية بين وطنين، وطن كهل أنهكته سياسات التبعية وآليات الفساد، ووطن فتي وجد تحققه الفعلي في ساحات التحرير على امتداد خارطة العراق؛ إذ شكّل الصعود لأعلى عمارة المطعم التركي بالنسبة للشباب العراقي الثائر، ارتقاءً على اللحظة الراهنة في سبيل تغييرها، فعل الصعود أصبح قرينًا للحرية، مطلبهم الأساس الذي لا ينفصل عن هدفهم بتحقيق حياة كريمة آمنة تليق بهم، وذلك ما يمكن أن تقوله مواجهة العمارة/ الجبل لنصب الحرية، المنجز الفني الأهم في العراق على امتداد ستين عامًا، في حين يعمل رموز السلطة على قتل الزمن العراقي وتحنيطه بسوءاته جميعًا، إن استعادة الوطن بالنسبة لجموع الشباب قد تحققت بالفعل، منذ اللحظة التي بدأ فيها شباب الحراك يفكرون بتأمين فاعلية حراكهم وإدامة تأثيره وقد أدركوا، مع إصرار حكومة الفساد على البقاء لأطول وقت ممكن، أنهم مقبلون، على سياسة المطاولة وكسب الوقت؛ إذ تراهن الحكومة على تهاوي قوة الاحتجاج وانحسار طاقته، لكن إرادة قادة الميليشيات، المُحْتَمِين بعباءة السلطة، لها خيارات أخرى، وهي الخيارات التي يمكن إدراك طبيعتها مع تصاعد أرقام الجرحى والشهداء في صفوف الشباب، من هنا كانت المواجهة الرمزية سبيلًا فاعلًا لقوى الشباب في توجيه خيارهم نحو حياة أفضل مركزها ساحة التحرير بحضورها الرمزي في الحياة العراقية عامة، وفي عمارة المطعم التركي التي طالما استغلت السلطة موقعها المركزي لتصفية التظاهرات السابقة، لكن المبادرة الشابة هذه المرّة أسقطت خيار السلطة لتتحكم القوى الثائرة بالمكان وتحيله من مبنى مهجور معتم إلى عراق مصغر يتوفر على سبل الحياة كافة، وفي القلب كان للمرأة على اختلاف تخصصاتها موقعها الفاعل، إنه الموقع الذي اختارته لها إرادة التغيير مقابل موقع التابع الذليل الذي أرادته لها السلطة وثقافتها، ثورة الشباب في العراق استعادت كثيرًا من المفاهيم من تحكم السلطة وأعادت إحياءها، هذه السلطة التي تبدو اليوم عارية، منزوعة القدرة، بلا بوصلة تهديها لسبيل الخروج من كارثة طالما وصفتها بالأزمة العابرة.