مسار النظرة العربية إلى دولة إسرائيل
كان الفيلسوف اليهودي الرئيس في العصور الوسطى موسى بن ميمون (ت1204 ميلادية) طبيبًا عند صلاح الدين الأيوبي في القاهرة. عندما سقطت مدينة غرناطة، آخر قلاع المسلمين بالأندلس، عام 1492م لم يُطرد من هناك فقط المسلمون بل اليهود أيضًا حيث انتشر الأخيرون في المنطقة الممتدة بين المغرب والعراق. من هنا أخذ اليهود الشرقيون لقب (السفارديم) أي الذين تعود أصولهم إلى يهود شبه جزيرة إيبيريا أي إسبانيا والبرتغال. في عام1937 كان 69% من مجموع أعضاء غرفة تجارة بغداد بصنوفها الخمسة حسب الملاءة المالية من اليهود منهم ثمانية من خمسة وعشرين من أصحاب الصنف الأول. كان اليهود وقتها يشكلون 2، 6% من مجموع سكان العراق (نبيل عبدالأمير الربيعي: «يهود العراق والهوية الوطنية»، موقع «الحوار المتمدن»، عدد 20/12/2017م). في مصر عام 1942م كان البنك العقاري المصري، وتملكه ثلاث عائلات يهودية مصرية: سوارس ورولو وقطاوي، يتحكم في مصير مليون فدان من الأرض أصحابها مدينون للبنك، وقد كانت نسبة اليهود عام 1951م في إدارة الشركات المساهمة المصرية هي 18% فيما هم بنسبة 04% من مجموع السكان، وقد شهدت البورصة المصرية ثلاثة رؤساء يهود لها بين العشرينيات والخمسينيات (www.faroukmisr.net/farouk_economy.htm).
يمكن أن يعطي ما سبق صورة عن وضع اليهود في البلاد العربية كان أفضل، حتى ليس فقط في الاقتصاد والاجتماع بل أيضًا في الحرية الدينية، من وضعهم في أوربا حيث المذابح التي طالتهم بدءًا من مذبحة مدينة كيشينيف في روسيا عام 1903م بتحريض من وزير داخلية حكومة القيصر ومن الكنيسة الأرثوذكسية وصولًا إلى مذابح هتلر، من دون ذكر موجة العداء لليهود في فرنسة في أثناء قضية دريفوس في العقد الأخير من القرن التاسع عشر. كان وعد بلفور عام 1917م ثم الانتداب البريطاني على فلسطين عام 1920م بداية لتوتر مع اليهود في فلسطين لم ينعكس حتى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بتقسيم فلسطين (29 نوفمبر 1947م) ومن ثم قيام دولة إسرائيل عام 1948م على يهود البلدان العربية. تحول التوتر في أغسطس 1929م إلى ثورة، عندما رد العرب على اقتحام الصهاينة لحائط البراق (حائط المبكى) في ذكرى ما يقولون: إنه «تدمير هيكل سليمان»، تحولت إلى اشتباكات عربية- يهودية قتل فيها مئات من الطرفين وتركزت المواجهات في القدس وفي مدن أخرى مثل صفد وحيفا. كان شهر أغسطس 1929م فاصلًا في فلسطين لكن التوتر العربي- اليهودي لم ينعكس خارج فلسطين إلا عند نخب سياسية وبخاصة ضمن العروبيين والإسلاميين. كان وقع ثورة 1936م الفلسطينية المضادة ضد البريطانيين واليهود أكثر تأثيرًا عربيًّا لكنها لم تقلب رأسًا على عقب الوضع اليهودي الاجتماعي في البلاد العربية، وهو شيء لم يحصل منذ قيام دولة إسرائيل سوى يوم الجمعة 14 مايو 1948م والحرب العربية- الإسرائيلية التي أعقبتها، وبالتدريج حسب كل بلد عربي.
النظرة العربية إلى دولة إسرائيل 1948- 1967م
في مقابلة بعدد 12 يونيو 1970م من مجلة «لايف» يقول جورج حبش ما يلي: «لقد شعرت بالإهانة في أحداث 1948م فقد أتى الإسرائيليون إلى اللدّ وأجبرونا على الفرار. إنها صورة لا تغيب عن ذهني ولا يمكن أن أنساها.. لقد كان أمرًا فظيعًا. ما أن ترى ذلك حتى يتغير عقلك وقلبك… يجب على الإنسان أن يغير العالم، أن يعمل شيئًا (ما)، يجب أن يقتل إذا اقتضى الأمر». بعد قليل من نكبة فلسطين قام جورج حبش الذي كان طالبًا فلسطينيًّا يدرس بالجامعة الأميركية في بيروت بتأسيس (كتائب الفداء العربي) ثم (حركة القوميين العرب) عام 1951م. كانت الكتائب عنيفة وتورطت في أعمال عنف ضد من عدَّتهم تفريطيين مع إسرائيل منها محاولة اغتيال العقيد أديب الشيشكلي بدمشق عام 1950م. لم تكن الحركة عنيفة لكنها رأت أن السلاح هو الطريق الوحيد لتحرير فلسطين عبر أنظمة عروبية رأت في عبدالناصر ونظامه قدوتها حتى هزيمة 1967م، التي عاد من دروسها جورج حبش لـتأسيس (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين) بعد ستة أشهر من الهزيمة الحزيرانية، في طريق فلسطيني- عربي بعيدًا من الأنظمة لتحرير فلسطين و«كل فلسطين».
يمكن لمسيرة الدكتور حبش بين (النكبة) و(الهزيمة) أن تكون نموذجية في تقديم صورة عن النظرة العربية إلى إسرائيل: فلسطيني يدرس في الجامعة الأميركية ببيروت صدمته تجربة اقتلاع الصهاينة اليهود له من أرضه ليذهب إثر ذلك نحو تجربة عنيفة ثم إلى منظمة عروبية أصبح لها فروع في أغلبية الأقطار العربية من أجل تشكيل حركة عروبية منظمة تستقطب الشارع ثم أنظمة للوصول إلى اقتلاع إسرائيل. لم يكن جورج حبش رغم إعجابه منذ 1949م بتجربة ماو تسي تونغ الذي وصل آنذاك للسلطة في الصين قادرًا على التلاقي مع الشيوعيين العرب الذين كانوا خاضعين لأوامر موسكو التي قبلت بقرار تقسيم فلسطين وكانت من أول من اعترف بدولة إسرائيل. تشارك البعثيون والناصريون مع (حركة القوميين العرب) في النظرة إلى إسرائيل التي كانت نظرة اقتلاعية وليست تسووية، وعندما تجرأ الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة عام 1965م ودعا إلى القبول بتسوية مع إسرائيل على أساس قرار التقسيم عام 1947م واجه عاصفة عربية، في الشارع وأغلبية الأنظمة، من الشجب والتنديد والرفض والاستنكار.
نظرة 1967-1993م
عقب الهزيمة نصح الرئيس عبدالناصر الملك حسين بالقبول بأي تسوية يستعيد من خلالها الضفة الغربية، ثم سارع الاثنان في يوم 22 نوفمبر 1967م بالقبول بالقرار 242 الذي يقول بمبدأ «الأرض مقابل السلام»، وهو ما كان يعني الاعتراف بدولة إسرائيل. في عام 1968م صدر الميثاق الوطني الفلسطيني عن منظمة التحرير الفلسطينية الذي قال بدولة ديمقراطية علمانية تضم العرب واليهود على كامل أرض فلسطين، وهو ما عنى تراجعًا عن مطلب إرجاع المهاجرين اليهود إلى فلسطين لمواطنهم الأصلية وهو ما كان نغمة عرب 15 مايو 1948م – 5 يونيو 1967م. في عام 1974م أقر المجلس الوطني الفلسطيني برنامج النقاط العشر، من خلال تحالف ياسر عرفات زعيم حركة فتح ونايف حواتمة زعيم الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، الذي قال بالسعي لإقامة سلطة وطنية فلسطينية على أي أرض محررة من فلسطين. عارض جورج حبش ذلك وقام بتأسيس «جبهة الرفض». كانت القاهرة ودمشق في ذلك العام قد عقدت اتفاقيتين لفصل القوات مع تل أبيب.
لم يعترف الفلسطينيون عام 1974م بالقرار 242، لكن عدّت (النقاط العشر) طريقًا ضمنيًّا إلى ذلك حسب «جبهة الرفض». كان الرئيس المصري أنور السادات من أكثر المشجعين في خريف 1974م، ضد إرادة الأردن وسوريا، على إصدار قرار مؤتمر القمة العربية بالرباط بوصف «منظمة التحرير هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني»، وهو ما عدّ ليس بعيدًا كترابط دلالي عن (النقاط العشر) التي أقرها المجلس الوطني الفلسطيني بجلسة انعقدت بالقاهرة في مايو 1974م. وقف ياسر عرفات ضد زيارة السادات للقدس عام 1977م، وإن كان ليس من دون دلالة أن يعلن الرئيس المصري نيته بالزيارة بخطاب في مجلس الشعب المصري في أثناء حضور الزعيم الفلسطيني، ووقف ضد (اتفاقيات كامب دافيد)، لكنه عندما طرح الرئيس الأميركي ريغان خطته لحل النزاع العربي- الإسرائيلي، عام 1982م في اليوم التالي لخروج عرفات من بيروت إثر الاجتياح الإسرائيلي، كان جواب عرفات على مشروع ريغان هو (لعم) في المجلس الوطني الفلسطيني المنعقد بالجزائر بعد أشهر. عندما خرج ياسر عرفات من حصار طرابلس في لبنان في الشهر الأخير من عام 1983م، توجه إلى القاهرة كاسرًا الحصار العربي على مصر إثر(كامب دافيد).
كان إعلان قيام الدولة الفلسطينية من قبل المجلس الوطني الفلسطيني بالجزائر عام 1988م مرفوقًا بالاعتراف بالقرار 242 وإن كان مع إشارات لقرار التقسيم وحق العودة. كان مؤتمر مدريد عام 1991م اعترافًا من كل دول الجوار العربي لإسرائيل بالدولة العبرية وفق منطوق القرار 242. تمثل الفلسطينيون في مدريد بوفد مشترك مع الأردنيين لكنهم دخلوا في مفاوضات سرية مع الإسرائيليين أنتجت اتفاقية أوسلو في 13 سبتمبر 1993م. بين تاريخين، أي (هزيمة يونيو) و(أوسلو)، جرت مياه كثيرة تحت جسر النظرة العربية لإسرائيل، كانت أساسًا في الجو الرسمي العربي. لم يعد الحبيب بورقيبة في وضعه الذي كان عام 1965م، ولكن تجربة التطبيع مع إسرائيل في مصر بعد الاتفاقية المصرية- الإسرائيلية عام 1979م التي تضمنت علاقات كاملة بين دولتين دبلوماسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا وسياحيًّا أظهرت أن المجتمع المصري بأغلبية كاسحة لم يكن قابلًا للتطبيع مع (الإسرائيلي).
نظرة 1993-2017م
في عام 1967م وقعت هزيمة ليست الأنظمة العربية المشتركة في الحرب الحزيرانية فقط أمام إسرائيل إنما أيضًا وقعت هزيمة نظرية التعويل على الأنظمة من أجل تحرير فلسطين. كان منظر ياسر عرفات يوم 13 سبتمبر 1993م وهو يوقع اتفاقية أوسلو في حديقة البيت الأبيض مع إسحاق رابين تعني إخفاق سلاح (الفدائي الفلسطيني) بعد ستة وعشرين عامًا من محاولة تحويله بديلًا ضد إسرائيل بدلًا من سلاح الجيش النظامي العربي. كان لهذا أثر بعيد في النظرة لإسرائيل في المجتمعات العربية.
في (حقبة ما بعد أوسلو) أصبحت النزعة التسووية مع إسرائيل أقوى بين كثير من المثقفين العرب بالقياس إلى النزعة الرفضية الاقتلاعية لإسرائيل. لم تظهر واضحة غلبة النزعة التسووية في جسم المجتمعات العربية سوى في الضفة الغربية وفي قطاع غزة. على الأرجح إنها كنزعة للتسوية مع إسرائيل هي غالبة في مصر رسميًّا وفي المجتمع ولكن مع رفض التطبيع عند الأغلبية الاجتماعية، أي أن يكون (سلام الحاكم) وليس (سلام المجتمعات). في الأردن لم يُظهِر مقاومة رفضية جدية لاتفاقية وادي عربة مع إسرائيل عام 1994م سوى في وسط الإسلاميين والعروبيين وبعض اليساريين، فيما كان هناك قبول بين الليبراليين وعند الماركسيين المتحولين في زمن ما بعد السوفييت نحو الليبرالية بالتسوية مع إسرائيل، وعلى الأرجح قبول فكري عندهما بالتطبيع لو كان الجو الاجتماعي يسمح. جو لبنان يشبه جو الأردن. في سوريا هناك جو رسمي لم يتجه رغم مفاوضات جرت بجولات عدة نحو عقد اتفاقية تسوية مع إسرائيل ولكن في المجتمع، باستثناء الليبراليين وماركسيين تحولوا نحو الليبرالية، هناك جو اجتماعي قوي رافض للتسوية والتطبيع مع إسرائيل. في العراق هناك قبول كردي بإسرائيل يظهر في المجتمع وفي أحزاب سياسية كردية دشنَ فيها جلال الطالباني إقامة علاقات مع إسرائيل منذ 1963م لصالح الملا مصطفى البرزاني عندما كان الأول ما زال عضوًا في المكتب السياسي للحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة البرزاني. كان مثال الآلوسي وأحمد الجلبي، وهما علمانيان من السنة العرب ومن الشيعة العرب، نموذجين لسياسيين عراقيين جاهرا علنًا بعلاقتهما بإسرائيل وباللوبي الصهيوني في واشنطن، ولكنهما كانا في حالة ضعف من حيث الامتداد الاجتماعي.
استنتاجات: في عام 1922م حذرت صحيفة التايمز البريطانية من عواقب زرع دولة يهودية في وسط إسلامي على المصالح الغربية. ماتت الليبرالية العربية بتأثير هزيمة 1948م وانطفأت النزعة العروبية، التي صعدت قوتها في الخمسينيات والستينيات، بتأثير هزيمة يونيو 1967م التي أعقبها مدّ صعود الحركة الإسلامية في عموم العالم العربي تقريبًا. كانت حركة الماء الاجتماعي العربي في غير حركة الأنظمة العربية التي اتجهت للتسوية مع إسرائيل. هذا واضح في مصر والأردن. كان ياسر عرفات يمثل جسمًا اجتماعيًّا أكثريًّا في الضفة والقطاع وهو يوقع اتفاقية أوسلو، لكن تفشيل الإسرائيليين لأوسلو جعله، هو وخليفته محمود عباس، في مأزق الذي يخرج بخُفَّي حُنَيْن من عملية التسوية.