الفن للناس وليس لحكّامهم
عندما كنت أُسأل في صغري عن معنى الالتزام، كان السؤال يربكني وأحسَب أن إجابته هي أن الفنان الملتزم يكون منتميًا لحزب، وما يتكلمه فنّه هو تعبير عن مبادئ هذا الحزب، لأكتشف مع الزمن أن حزب «الإنسان» هو الحزب الوحيد الذي تنطلق منه الفنون جمعاء فتصبح أغنية أو موسيقا أو لوحة أو كتاب… وعليه فإن مفهوم الالتزام في الفن هو معنى وأبعاد، هو مرآة شعب ولسان قضية محقّة. والقضايا يمكن أن تكون في هذا السياق سياسية، اجتماعية، حقوقية تخصّ وتؤثّر مجرياتها في حياة شعب بأكمله. أما المعضلة فتكمن عند انقسام الشعب إلى أقسام تتناحر على أحقية مطالب كل قسم منه، في هذا المقام يقف الفنان شبه عاجز عن الانحياز لقسم من هذه الأقسام.
طبعًا هناك مسلّمات وثوابت كوجوب انحياز الفنان إلى قضايا مثل العدالة ورفع المظالم ووأد الحرب وإنهاء الاحتلال، لكن كيف نستطيع تحديد هذه المسلّمات والثوابت في معارك وحروب شعب واحد انقسم على نفسه! فنجاهر بموقف مساند لقسم قَتَل وآخر قُتِل! مَن مِن القسمين هو الظالم المعتد؟ ومن المظلوم الذي قُتِل ويُقتل؟ لا أتكلّم هنا عن أنظمة بعينها، لكن قلّما يُبرَّأُ نظام من كوارث تحصل فوق أرض حكمه. وللأسف، إنّنا وُلدنا في كنف أنظمة وُجِدت لترهبنا وليس لتنهض بنا وترعانا.
ذهول الفن الملتزم
الفن الملتزم اليوم في حال ذهول أمام هول ما يقترفه بعضنا إزاء بعض في البلد الواحد.. نسمح لحرب بدأت مع احتلال فلسطين أن تتوالد حروبًا تستنزف كل شراييننا في المشرق والمغرب. ينادي الفن الملتزم بمدن فاضلة فيهب نفسه لسلام وزهد منشودين ويقول: أحِبّوا، كونوا بعضكم لبعض وليس بعضكم ضد بعض، قولوا سنبني ولن نهدر الوقت والعمر والطاقة في حروب بمجملها خاسرة. فالمجازر دوّارة لا تستقرّ، هي يوم في دياري ويوم آخر في ديارك… هو حاجة للارتقاء وللقبض على أواصر الحياة، عازفًا لحنًا جميلًا وراسمًا وجهًا جميلًا وماسحًا تعبًا أو دمعة عن عيني موجوع.. وإذا لم يكن كذلك فهو ليس بفن، فلنصنّفه في خانة أخرى وندرجه تحت أسماء مختلفة؛ لأن الفن يخصّ الإنسان، هو للناس وليس لحكامهم.. ننتج فنونًا لنحيا، لنأمل ولنجمّل حياة قصيرة ليست معبّدة أساسًا بالورد. فنوننا تلطّف الحياة فلنبقها ملتزمة. شاع طويلًا ولا يزال أن الفن الملتزم هو كناية عن أغنية تتغنّى بالوطن حصرًا.. لكن ذاكرتي حافلة بأغانٍ ذات مضمون عاطفي بحت بأصوات عربية عديدة ممّن يُعَدّ فنّهم فنًّا ملتزمًا. ولطالما تغنّى صوتي بأغاني الحب والنقد والسخرية والحرية والوطن أيضًا. وهو أمر يفضي إلى القول: إن الفن الملتزم لا تحدّه أغنية مرتبطة بحدث أو مناسبة وإنما هو أبقى.. لأنه ليس فنًّا مناسباتيًّا بل يصنع الحدث حينًا ويواكب الحدث أحيانًا، ويحيا بعد الحدث في كل حين.
يسقط فنانو المناسبة
يسقط كثر ممن يقدمون أنفسهم كفنانين ملتزمين بلعبة المناسبة أو اللحظة المواتية لقطف نجاح يعتقد أنه يطل على صهوة حدث قوي أو مناسبة مدوّية.. ويغفل كثر آخرون من هؤلاء عن كون الالتزام خطًّا طويلًا وعن كونه كذلك سيرة وتجربة عميقة، وليس مجرد إطلاق عشوائي لأعمال يعتقد أنها «ستضرب»؛ لأنها اقتنصت مناسبة أو حدثًا يدغدغ قلوب الجماهير، والهدف الانتشار والإرضاء السريعين. الخلق والإبداع هما محرّكا الفنون كلّها، ويتيحان القراءة الجيدة لما يسبق الحدث السياسي ولما يواكبه ولما يليه. ولا يعنيهما بأي حال قطف ثمار بأي ثمن ولا صهوة مناسبة أو ضوضاء حدث؛ لأنهما القيمة التي تعطي الفنون ألقها.. ولتكريس هذه الحقائق ولإنصاف مفهوم الالتزام ثمة حاجة أكيدة لرؤية إعلامية مواكبة تنصفه تقديمًا وانتشارًا.. فهو وعي وجب نشره وتعميمه وإعطاؤه أولوية؛ لأنه يتصل بكل مجالات الحياة، لتنهض هذه المجالات والاختصاصات الكثيرة الأخرى وترتقي.. يحتاجه العالِم ليتسع خياله، ويحتاجه العامل للتلطيف من وقته، والمقاوم يحتاجه لتقوية شعوره بالعزيمة والصمود، والمؤمن يحتاجه لاستكمال طقوس هدأته، والمحب يحتاجه لشحن العواطف، ويحتاجه المتألّم لبلسمة جراحه… فلا نختصره في أغنية وطنية حصرًا أو غزليّة حصرًا أو…
نريد موسيقا تحترم مشاعرنا وتتغنّى بها كيفما كانت.
نريد أغنية يرقص القلب على أنغامها قبل القدمين والغريزة.
كنت وكان صوتي في صلب هذا المفهوم وسنبقى.