بواسطة لطف الصراري -كاتب يمني | نوفمبر 1, 2021 | نصوص
يبدو أني سوف أسهر هذا المساء برفقة دبور تائه. أقول لسلوى وهي تضع برطمان الشاي أمامي. لا أعرف من أين جاء ولا أين كانت وجهته، ولأسباب معروفة، لا أنوي سؤاله عن شيء ولا التصرف تجاهه بعدائية، إلا في حال تهور بمهاجمتي. في الواقع، حاول الطيران باتجاهي مرتين ولم يفلح، ثم عاد زاحفًا نحو النافذة واختفى وراء سترتي المعلقة على درفة النافذة الصغيرة.
قبل دخول الدبور التائه إلى الغرفة المبنية حديثًا، كانت الشمس لا تزال تمنح بطاريتي بعض الطاقة المتسربة بضآلة عبر لوح شمسي متوسط الحجم والجودة. غفوت بعد الغداء، وطالت الغفوة، على غير العادة، لما يقارب ساعة ونصف. بطبيعة الحال، لا علاقة لطول الغفوة بنوعية الغداء، بل بعدم كفايته، وبسهر متراكم منذ ثلاثة أيام لحراسة مخزن المعونات الغذائية في الجهة المقابلة لمسكني في مدرسة الخير. نعم اسمها «مدرسة الخير» وهي بعيدة من القرية التي استقر بي المقام فيها، أما مدير المدرسة الطيب، فلجأ إلى تقسيم فصولها بنفسه بين النازحين بعد أن اشتبكنا بالأيدي على اختيار الفصول في الطابقين.
في أثناء غفوتي تلك، رأيت ثعبانًا يدخل الغرفة من زاوية الباب العلوية. كنت في مهمتي المعتادة، أذرع الممر الطويل أمام الفصول جيئة وذهابًا، لتنظيم طابور الفقراء الممتد إلى الساحة. وعندما رأيت الثعبان، تجاوزت الطابور بسرعة مكنّتني من اللحاق به بينما كان لا يزال يزحف أعلى الجدار بحركة لولبية مفزعة. راقبته حتى وصل مقابل الزاوية التي أجلس فيها بمحاذاة الباب، ورأيته ينكمش داخل جلده متخذًا وضعية هجومية. انتبهت لصوت يحذرني من خلفي بالتزامن مع رشقة قوية بحجر إسمنتي من مخلفات بناء غرفة الحراسة؛ الغرفة التي ساعدني في بنائها المدير الطيب نفسه، ورئيس لجنة توزيع المساعدات الغذائية في المنطقة، مقابل عملي حارسًا لمخازن المعونات.
عندما التفتُّ إلى الخلف عرفت صاحب الصوت الذي حذّرني من وضعية الثعبان المتأهبة. كان الأستاذ أمين، مدرس الجغرافيا وعديلي في الوقت نفسه، وقد كان نصيبه ثلاثة فصول في الدور الثاني لسكن عائلته الكبيرة التي تتضمن أباه وأمه وثلاث شقيقات، لكن رميته لم تثن الثعبان عن القفز في الهواء وتنفيذ هجومه على متكئي. لا أعرف كيف مرّ الحجر بجوار رأسي في تلك المساحة الضيقة، لكنه كان حلمًا على أية حال. وبينما أبقيت عينيّ على الثعبان، جمع الأستاذ أمين المزيد من كتل الطوب الخرساني، وناولني اثنتين منها بحجم قبضته الصغيرة. رشقت الثعبان بالأولى، لكنه اختفى في ثنيات البطانية الملفوفة فوق المتكأ، ولذلك جلب الأستاذ أمين المزيد من الحجارة وبقينا نرشق البطانية حتى قفز الثعبان من داخلها، متسلقًا الجدار الخشن، وخرج من النافذة الوحيدة للغرفة.
حين صحوت من تلك الغفوة الكابوسية، كان ابن الأستاذ أمين يناديني لأخذ صحن الكعك الذي أرسلته أمه لأختها. قبل أن أجيبه، خرجت سلوى من خلف الستارة القماشية المسدلة على باب الفصل الطويل، والتي تُخفي وراءها غرفة نوم وغرفة للأولاد ومطبخًا. نعم؛ هذه هي أقسام بيتي حاليًّا؛ فصل في مدرسة ريفية قسّمته بستائر من القماش الأبيض السميك تؤدي وظيفة جدران. أما غرفة الحراسة فهي لا تعدو عن كونها «دُشمة» كتلك التي يبنيها الجنود في مواقعهم العسكرية.
في المساء، أسهر هنا بالقرب من مخزن المعونات الذي لا يُفتح بابه سوى مرة كل شهرين. ومن ناحية عملية، مهمتي تقتصر على حراسة القفل، لكن ليس لي علاقة بأكياس القمح والعدس والسكّر وصفائح زيت الطبخ. نعم، هذه هي كل أصناف المساعدات التي ترسلها منظمات الإغاثة لإنقاذ الشعب من المجاعة، وهي تنفد من المخزن في ثلاثة أيام، ويتوجب عليَّ أن أخبر كل من يتأخر عن الحضور قبل السادسة من مساء اليوم الثالث، أن المساعدات نفدت. وبحلول مساء اليوم الرابع يحدث أحد أمرين: إما أن يأتي مجموعة من المسلحين لنهب ما تبقى من المعونات، أو يرسل المدير مجموعة أخرى من طرفه لنقلها إلى مكان مجهول. في الحالتين، أنفّذ تعليمات السلامة بحذافيرها؛ أدخل بيتي أو بالأصح فصلي، حتى يذهب الجميع، ثم أخرج إلى غرفتي، وبعدها تنتظم حياتي كما يليق بنازح عليه أن يلتزم الأدب وعدم التدخّل في غير شؤونه.
في بداية المساء ألهو مع أولادي الثلاثة قليلًا، ونلتهم أقراص الخبز الأربعة المخصصة للعشاء مع حبات العدس بعد أن تصنع منها سلوى حساءً مهيجًا للغازات. برطمان الشاي يجب أن يُملأ مرة أخرى، وأغصان القات التي يمنحني إياها بعض الطلاب الذين أعطيهم دروسًا في الكيمياء صباحًا تحت الشجرة المجاورة للمدرسة، ينبغي أن تُغسل بعناية من الغبار، ثم أجلس منصتًا لهسيس الليل وهوامه.
٭ ٭ ٭
تخرج سلوى مرة أخرى على إثر الضربات القوية بالعصا على جدار الغرفة. «مالك تِدَقْدِق، العيال فزعوا وعادهم إلا رقدوا». تقول، وأجيبها بإشارة من يدي إلى حافة النافذة، حيث الدبّور التائه يحاول التشبّث بسترتي المعلقة على درفة النافذة المفتوحة. همّت بأخذ العصا من يدي لتقتل الدبّور، لكني منعتها. «حاولت اقتله بس ولا ضربة أصابته. خليه، شكله تائه وعاد أجله ما وصلش». تستغرب سلوى من هذه الرحمة التي نزلت بصورة مفاجئة على قلب زوجها الذي يكره الدبابير والثعابين ويخاف منها أكثر من الضباع التي تحوم حول سور المدرسة كل ليلة.
اعتدت أنا وزوجتي أن نتسامر ليلًا في هذه الغرفة الضيقة، وإذا ما انتعشت رغبة أحدنا بالآخر نتعانق ونفعلها في هذه المساحة التي لا تزيد على متر ونصف، بدلًا من القيام بذلك بين الجدران القماشية جوار أولادنا. سلوى ترفض مسامرتي الليلة حتى أقتل الدبّور، وأنا مستسلم لنوبة التعاطف التي داهمتني تجاهه. يبدو هزيلًا مثل أسد مسنّ، وبعد عودة سلوى إلى داخل الفصل وإغلاق الباب الحديدي المتين، اختفى الدبور من حافة النافذة. أزيح السترة المعلقة بالعصا وأغلق درفة النافذة، ألتقط السترة وأنفضها على بلاط الممر الأبيض أمام الغرفة، لا فائدة. اختفى الدبّور، وسوف يفوتني تنفيذ خطتي في كسر الخوف من الدبابير بمساعدة هذا الدبور الهزيل. أعيد السترة إلى مكانها وأعود إلى متكئي، وأفتح الراديو الصغير على إذاعة صنعاء التي تبث «زوامل» حربية وأغاني وطنية، أحوّل شوكة الراديو إلى إذاعات أخرى لا أعرفها لكنها تبث أغاني عربية وأجنبية.
لا أحسب كم مرّ من الوقت وأنا أتعارك مع شوكة الراديو، فوقت النازحين طويل، وهم يفرحون كلما انقضى بسرعة. أضع الراديو جانبًا، فأسمع حركة خلف النافذة لا تبدو أنها لحشرة. ربما ثعبان، أقول في نفسي، وأركز ضوء الكشاف على النافذة؛ لا الدبور التائه موجود ولا الثعبان خرج من حلم القيلولة. أخرج من الغرفة لإلقاء نظرة على النافذة ومحيطها من الخارج؛ لا شيء أيضًا. أعود إلى متكئي وأركز ضوء الكشاف على مكان جلوسي أولًا؛ أيضًا لا يوجد شيء. وفي اللحظة التي يساورني فيها الشك من كون الدبّور التائه ليس دبّورًا حقيقيًّا، بل روحًا تائهة، يظهر سرب دبابير زاحفًا على السترة المعلقة فوق درفة النافذة.
بواسطة لطف الصراري -كاتب يمني | سبتمبر 1, 2020 | مقالات
لم يُكتب الكثير عن المفكر اليمني عبدالباري طاهر. وعلى العكس من ذلك تمامًا، ربما تعد مقالاته عن رواد الفكر والفن والأدب والنضال الحقوقي والسياسي، بالمئات؛ عربًا كانوا أم يمنيين. لا أعرف هل يشعر كل من يكتب عنه بأي قدر من المهابة؟ ذلك النوع من المهابة غير المهيمنة، لكنها تحضر مع كل كلمة يكتبها أحدهم عن شخصية جليلة لا يختلف فيها اثنان ممن يعرفونه، وبخاصة من يعرفونه بأية درجة من القرب.
يعرف كثيرون عبدالباري طاهر، الكاتب والصحفي والناشط المدافع عن الحريات والسلام. لكن هذه المعرفة تتضاءل، وبخاصة وسط جيل الألفية وربما وسط الجيل السابق لهم، عربيًّا، لكونه مفكرًا مهتمًّا بالسياسي والثقافي والفني والحقوقي والديني والمدني، وما إلى ذلك من حقول المعرفة التي خاضها خلال مسار اكتساب مخزونه منها، ونشاطه فيها؛ لذلك أردت الكتابة عمّا أظن أن قليلين جدًّا يعرفونه، أو يهتمون بمعرفته، عن عبدالباري طاهر الإنسان، وبعض تداخلاته مع صفاته في المجال العام. لكن بشكل رئيسي، سأكتب قصة تعرفي إلى واحد من الرواد القلائل، الذين تنبعث الألفة والحكمة من أصواتهم وملامحهم، بحيث يشعر من يقابله لأول مرة، أنه يعرفه منذ زمن. بقي هذا الشعور يتزايد عندي على مدى أربع سنوات من التواصل معه صوتيًّا فقط؛ عبر الهاتف.
تزامنت معرفتي به مع بداية عملي في الصحافة؛ فقد دخلت إلى «مهنة المتاعب» هذه عبر مهام محرر ثقافي بصحيفة «حديث المدينة» التي صدر عددها الأول في 30 مايو 2009م. حينها كنت أعرف عبدالباري طاهر من تصدّر كتاباته الثقافية والسياسية والتاريخية، على صفحات الصحف اليمنية، وبخاصة الأهلية والحزبية. غير أني لم أكن أعرف شيئًا عن موسوعيّته في الشعر والثقافة الشعبية، إلى أن أرسل عددًا من المقالات تعليقًا وإضافةً على كتاب الدكتور عباس السوسوة: «المُشَعْطَطات السبع». ومؤخرًا فقط، عرفت أنه دخل عالم الصحافة قبل سنتين من مجيئي إلى الدنيا.
قراءات معمقة في الراهن اليمني
عندما انتقلتُ من تعز للعمل في صحيفة «الأولى» بصنعاء، أواخر عام 2010م وبداية 2011م، ظل الهاتف وسيلة التواصل الوحيدة بيننا. تشرّفتُ باستقبال مقالاته واتصالاته لكي يتأكد من وصول كلِّ مقال. كتب في «الأولى» طيلة أربع سنوات ونصف السنة، وأتذكر ذلك الهمّ العام والإنساني الطافح منها، ومن قراءاته المعمقة في الراهن السياسي والاجتماعي والثقافي…، وما ينذر به من ملامح المستقبل القريب والبعيد لليمن.
كان اليمنيون حينها يعيشون المرحلة الانتقالية التي أعقبت ثورة فبراير 2011م، بقلوب على الأكف خشية ما سيوصلهم إليه واقع الصراع وانهيار النظام السياسي للبلد. وكانت آمال المفكر الحكيم، في دولةٍ مدنيةٍ ومستقبلٍ مشرق، تتشبّع بنسبةٍ متزايدةٍ من حذر وحيرة الحليم. ذلك الحذر من الإفراط في الحلم، في بلادٍ يتجه بها قادتُها وفرقاؤها، وكثيرٌ من نخبتها، ونخب المجتمع الدولي، نحو هاويةٍ لا يرون منها سوى الحافة؛ بينما يرى، هو وقليلون جدًّا من أصحاب البصيرة المستنيرة، قتامةَ الهاويةٍ التي لا يعلم قرارها سوى الله وحده.
أحيانًا، كان يأتي صوته على الهاتف منقبضًا؛ لكن حجم الإرادة التي تدفعه تبدِّد ذلك الانقباض بين كلمةٍ وأخرى. لم تسلبني كثافةُ العمل الماحقة للوقت والجهد، قدرة الإحساس بالألم الذي كان يتسرّب من صوته في بداية الكلمة ويختفي في نهايتها أو العكس. حدث ذلك منذ تعرفتُ إلى نبرة الألم في صوته يوم التفجير الإرهابي الذي حصد أرواح أكثر من مئة جندي في ميدان السبعين، عام 2012م. يومها شاهدتُ رقمه في شاشة الهاتف، وتوقعتُ أنه سيخبرني عن مقالٍ أرسله أو بصدد إرساله. وعلى غير عادته، لم يبدأ المكالمة بالسؤال عن «الحال والصحة والأولاد»؛ بل سأل مباشرة: «هل علمتَ بمجزرة اليوم؟». كان الحزن والألم يُثْقلان صوته، وهو يتأسّى على الجنود الذين تطايرت أشلاؤهم، وعلى ضياع هيبة الدولة، متسائلًا بقلقٍ عن ملامح مستقبلِ بلدٍ ينزلق نحو العنف بتلك الوتيرة.
مقارعة اليأس وتفشي ثقافة الحرب
عندما أصابت انعطافة الحرب، في مارس 2015م، أصواتَ الكثيرين من الصحافيين والكتاب والمثقفين بالاحتباس، لم يتعالَ صوتُ عبدالباري على الحدث الصادم. لكنه لم يستغرقْ وقتًا طويلًا، لكي يستوعب الصدمة. نهض بسرعة ليقارع اليأس وتفشي ثقافة الحرب. طالما ناهض العنف؛ وها هو يكرِّس سنوات نضجه المعرفي والسياسي لمناهضة الحرب وترويج «نداء السلام»، والإسهام في إعادة النظر بشأن الكثير من سرديات التاريخ العربي والإسلامي.
ليس لديّ الكثيرُ من المشاهد البصرية لأتذكرها مع العم عبدالباري، إن جاز لي مناداتُه هكذا؛ ذلك أن معرفتي به إلى الآن، يكاد يغلب عليها الطابعُ السمعي. يعرف صوتي وأعرف صوته على الهاتف من دون عناءٍ؛ لكنْ عندما نتقابل، وقليلةٌ هي المرات التي تقابلنا فيها، يكون عليّ، في كل مرةٍ، التعريف بصاحب اليد الممدودة لمصافحته. ربما طول المدة بين اللقاء والآخر هي السبب في ذلك.
أتذكّر اتّصاله التحفيزي بعد أن قرأ، في عام 2013م، فصلًا منشورًا من روايةٍ لم أُكملْها ولا يبدو أني سأكملها قريبًا. أبدى استعداد الهيئة العامة للكتاب، التي كان يرأسها حينها، لطباعة الرواية فور اكتمالها. وعندما أخبرتُه أن إنجازها سيتأخر، طلب مني إحضار نسخٍ من مجموعتي القصصية الأولى إلى مكتبة الهيئة لشرائها بسعرٍ تشجيعيّ. ولأني أنفر من البيع التشجيعي، تأخرتُ في إحضار النسخ لما يقارب السنة، رغم تذكيره المستمر لي بالأمر. تحرجت من إخباره بسبب تأخري، لكن كان عليّ أن أخجل من نفسي وأذهب بالنسخ. حين دخلتُ مكتبه، كان عليّ التعريف لأول مرة بصاحب اليد الممدودة لمصافحته، في أول لقاء وجهًا لوجه.
عندما بدأنا التحضير لإطلاق موقع منصة «خيوط» على الإنترنت، لم ينقطع الاتصال بيني وبين الأستاذ المفكر، الذي لا تزال تتملّكني الرهبة كلما سمعت صوته. شدة تواضعه وبساطته الدقيقة في الحديث، تولد مثل هذه الرهبة الأليفة. غالبًا ما أتلعثم أثناء حديثي معه؛ بسبب تلك البساطة والألفة والثقة، في صوته.
نخلته الشهيرة عمرها 36 سنة
آخر مشهد بصري لي مع الأستاذ عبدالباري، كان في يونيو الماضي. زرته في منزله وتوقفت أمام نخلته الشهيرة. كانت المرة الثانية التي أراها فيها، بعد الزيارة الأولى برفقة الصديق محمد عبدالوهاب الشيباني. انتابني الفضول لأسأله عن قصة النخلة، فردّ بالإحالة إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «النخلة أم».
في عام 1984م، طلب من أقاربه في قرية «المراوعة» في تهامة اليمن، أن يجلبوا له شتلة نخل. عمرها الآن ست وثلاثون سنة، وما زال يكرمها بالعناية، بينما تمدّ سعفها الوقور على مدخل البيت وجزء من الشارع الضيق. بعد شهرين، أستدرك بسؤاله عما تعنيه له هذه النخلة، فيأتي صوته مختصرًا بكلمة واحدة: «الكثير». ولـ«الكثير» هذه عبق رياح جالبة لمطر بلا صواعق؛ فقط برق كثير ورعود آتية من بعيد؛ عبر الزمن الممتد من عام 1946م، حين كان طفل الخامسة ذاهبًا في يومه الأول إلى كتّاب (مِعلامة باللهجة اليمنية) قرية «المراوعة» في محافظة الحديدة باليمن. سيحفظ القرآن ويتلقى الدروس الأولى في الفقه وأصول الشريعة.
وفي الخامسة عشرة، ترسله عائلته لدراسة علوم الدين في مكة؛ أبرز حواضر الحجاز. هناك يدرس علوم الشريعة واللغة العربية والبلاغة والنحو والصرف حتى منح درجة الإجازة. في مدرسة الحرم ومدرسة الفلاح بمكة، درس على أيدي أساتذة التعليم الديني حينها؛ علوي المالكي، ومحمد المشاط، ومحمد نور محمد الأمين، وعبدالله سعيد اللحجي. التحق أيضًا بالمدرسة الصولتية، التي يتذكر بوضوح أن مؤسستها كانت أميرة هندية، وأنه كان للمدرسة استقلال مالي وإداري.
سيعود الأستاذ عبدالباري طاهر للتدريس في مدرسة المراوعة في السنوات الأخيرة لنظام الإمامة في الشمال اليمني. وبالتزامن مع بداية تشكل النظام الجمهوري في اليمن، ولكن بدولتين مستقلتين، كان الشاب عبدالباري يمارس مهام موجه تربوي في المدارس الحديثة بمدينة باجل حتى عام 1966م. في السنة التالية، التحق بالمؤسسة العامة للتجارة الخارجية والحبوب في الحديدة، وفي المدينة نفسها سيكتب في مجلة الكلمة التي أسسها محمد عبدالجبار سلام، وسعى عمر الجاوي لتزويدها بمطبعة خاصة جاء بها من عدن- كما أخبرني محمد عبدالوهاب الشيباني. وفي السنة نفسها، سينتقل إلى صنعاء، محتفظًا بعمله في مؤسسة التجارة الخارجية، وبشغفه المعرفي وتوقه لنهضة أممية للعدالة وللشعوب. في عام 1974م، يدخل العمل الصحفي عبر صحيفة الثورة، ثم عدة مطبوعات حكومية وأهلية وحزبية، يمنية وعربية.
وبالرغم من غزارة كتابته، فإن ما جمع منها لا يتعدى ثلاثة كتب جميعها صدر بعد عام 1990م: «اليمن.. الإرث وأفق الحرية»، و«اليمن في عيون ناقدة» و«فضاءات القول». إنه واحد من المفكرين العرب، العابرين للأديان والقوميات، الذي يخبرك صوته وكلماته وهيئته السبعينية الحيوية، أنك أمام قامة معرفية وإنسانية كبيرة؛ واحد من أولئك الذين لم يكتفوا بالتوق لسلام العالم بكل تنوعه الديني والإثني، بل يعملون من أجله.
بواسطة لطف الصراري -كاتب يمني | نوفمبر 1, 2018 | نصوص
نهض عمر من فراشه قبل طلوع الشمس. كانت تلك إحدى عاداته الثابتة إلى ما قبل أربعة أشهر، حين كان هو وشقيقه التوأم ينامان متجاورين. نادته أمه ليخرج من غرفته ويتناول الإفطار مع رجال وأصدقاء العائلة، لكن صوته أتى من خارج البيت؛ «شابع يامّه الله يحفظك». تقدمت بضع خطوات من الصالة الصغيرة ودخلت غرفتها متتبعة مصدر الصوت. «شابع من متى يا بني؟ حتى العشاء ما تعشيت». «إلا أكلت آخر الليل يامّه…». أطلّت من نافذة غرفتها مثلما كانت تفعل حين كان يلعب هو وأخوه تحت شجرة الليمون. «اليوم معك امتحان يا بني. اصطبح وروح المدرسة». «لا يامّه الله يحفظك. أشتي أرُوح معاهم.» لكن الأم المكلومة أصرت على أن يذهب لأداء أول امتحان للثانوية العامة؛ «قد رحت معاهم يومين. اليوم روح المدرسة. يعلم الله يروّحوا بالجثة وإلا مثل كل يوم» .
منذ تلقت العائلة خبر مقتل شقيقه التوأم، أغدق عليه الجميع حنانًا فائضًا وحظي بضعف الاهتمام الذي كان يحظى به مع أخيه مجتمعَين. هو لا يريد حنانهم الغامر، بل يريد اللحاق بأخيه، وأمه فقط من تعوقه عن ذلك؛ فخلال أسبوع مضى، رأى لأول مرة، مشهدًا حيًّا لما يفعله الحزن بأم فقدت ابنها. كان ذلك كفيلًا بأن يجعله يستكين أمام غبنه وحزنه، ويستجيب لأوامرها؛ أوامر اختلطت بالدموع ونشيج يغيب في سلسلة من الغصص تتدفق بلا توقف. حين تفعل ذلك، يعرف التوأم الذي صار وحيدًا، أن عليه أن يهرع ليرتمي في حضن أمه المكلومة. في الواقع، كان هو من يحتضنها، تاركًا لعابها المتدفق مع النشيج الخابي وانكسار القلب، يسيل على رأسه.
حين بدأت بتكرار أوامرها له بالذهاب لأداء الامتحان، انتفض من تحت شجرة الليمون واتجه نحوها. كانت لا تزال تنتحب على حافة شاقوص النافذة عندما وضع يده على كتفها؛ «حاضر يامّه، بروح الامتحان». التفتت إليه واحتضنته، مغدقة عليه دعوات من شأنها أن تضيء طريق الأعمى. لم تتمالك نفسها لتبقى واقفة. حتى الجدار الذي ارتمت عليه لم يسندها؛ ليس فقط، بسبب الطلاء الزيتي الأملس أو لأنها ترتدي عباءتها السوداء ذات الملمس الزلق. كانت بالأحرى مفرغة القلب، وخائفة من أن تفقد ابنها الآخر أيضًا. حزن وخوف جعلاها أكثر هشاشة وترتدي عباءة الخروج طوال الوقت تحسبًا لأي طارئ.
قبل أن تفلت يديها من تطويق رأسه، أخذت تتشممه بأنفاس طويلة، وعاودتها نوبة النحيب. تعرّج صوتها وهي تخبره بأن لهما نفس الرائحة، نفس الصوت ونفس بنية الجسم… وما إلى ذلك من التشابهات. كان هو ينتحب أيضًا، لكن بصوت مكتوم. رفع رأسه من حضنها وقبّلها على رأسها، مؤكدًا ذهابه إلى المدرسة.
في دولاب ملابسهما المشترك، كانا يحتفظان بكل ما يخصهما من الوثائق الدراسية وغيرها من المتعلقات الشخصية. وبعد أن ذهب عمرو إلى جبهة القتال، ظل عمر يتابع إجراءات تقدمهما معًا للامتحان الوزاري الأخير. كان ينتظر عودة أخيه، ولم يتجرأ حتى على التفكير بلومه على تركه وحيدًا. وعندما طلبت إدارة المدرسة صورًا شخصية للطلاب، ذهب إلى الأستديو ومعه بذلة إضافية تخص عَمْرًا. وهكذا ضَمِن حصول أخيه على «رقم جلوس» يؤكد استمراره في الدراسة ويثبت هويته أمام لجنة الامتحان. ما تبقى من تلك الصور أعطاها لأبيه وأعمامه وأخواله الذين طلبوا منه توفيرها لأغراض تشييع جنازة توأمه الشهيد.
واقفًا أمام المرآة المثبتة على الدولاب الخشبي، غيّر ملابسه وأعاد ترتيب شعره السلس بالتسريحة نفسها التي طالما تشاركها مع توأمه. وفي الخارج، كان حشد من الرجال المسلحين يقفون أمام البيت؛ على أكتافهم بنادق كلاشينكوف ويحتسون الشاي بعد الإفطار في كؤوس بلاستيكية. إنهم يتأهبون للانطلاق في موكب واحد لليوم الثالث على التوالي، لجلب «جثمان الشهيد». الشهيد الذي مزَّقت جسده قذيفة أثناء جولة اشتباك شرسة، ولم يتمكن أحد من إخراجه من ساحة المعركة. «هو مش وحده. جنبه كثير شهداء نحاول إخراج جثامينهم. لكن بعضهم علينا جمع أشلائهم أولًا…» كان هذا مقتطفًا من خلاصة الرد الذي سمعه مع رجال العائلة خلال اليومين الماضيين. وأثناء مروره بين سيارات الموكب المتأهبة للانطلاق، كان يتردد ذلك الرد في رأسه كشظايا قذيفة. أكثر من عشر سيارات مغطاة بشعارات الحرب وملصقات مكبّرة لصورة الشهيد. لن يلاحظ أحد أن تلك الصورة ما هي إلا نسخة من الصورة المثبتة على وثيقتي دخول الامتحان لكلا التوأمين. الفارق الوحيد أن إحداهما بقميص وسترة، والأخرى بقميص فقط. أما كون الصورتين لشخص واحد، فهذا ما لن يخطر على بال. بالأحرى، لن يهتم لذلك أحد، ولا سيما أن قلوب الأمهات هنا لا تقوى على مشاهدة ما يذكّرهن بأولادهن الموتى. مضى التوأم الذي صار وحيدًا إلى الأبد، مستوحشًا كل طريق يمشي فيه بدون توأمه. وفي قاعة الامتحان، كتب اسمه في دفتر الإجابة: عمرو…