التقنية الثقافية: مدركات الدراسات الثقافية الجديدة… وأبعادها
أكثر من دارسٍ يرى في الدراسات الثقافية أفقًا يتصل بممارسة تحليلية لا يمكن أن تنضب؛ لكونها تبقى مفتوحة على الثقافة التي تعد تكوينًا بنيويًّا في الإنسان، بل إن الدراسات الثقافية واعدة في قدرتها على نقد صيغ المجتمع الثقافية، وتحولاتها. ومع أن كلمة الثقافة شديدة التعقيد، ولكنها مع ذلك تبقى فعلًا يتصل بالإنتاج الإنساني باختلاف تمظهراته.
بدأت الدراسات الثقافية بوصفها مجالًا أكاديميًّا انطلق مع مدرسة «بيرمنغهام» في إنجلترا، بالتضافر مع جملة من الروافد والاتجاهات أو النسخ التي ظهرت في الولايات المتحدة وآسيا وأستراليا وفرنسا والهند، وغيرها، إلا أنها تبقى مجتمعة أسيرة مقولات عميقة تتصل بنقد متعالية السلطة، وأشكال التحيز، والإقصاء، كما نرى في تنظيرات المؤسسين «ريموند وليامز» و«لويس ألتوسير» و«ستيورات هال»، إضافة إلى مدرسة فرانكفورت، ومع أن هذه التوجهات بدت في وعيها أسيرة المنظور الماركسي الذي تعرّض للنقد على أيدي كثيرين، مع محاولات تجاوزه ضمن مقولات أخرى، لعل أهمها نظرية «لويس ألتوسير» حول البنيوية الماركسية، وغير ذلك من المحاولات، ولكن لا يمكن أن ننكر بأن حيوية الدراسات الثقافية تتأتى من قدرتها على أن تنبعث من جديد لتمسّ صيغ الطارئ من الأنساق، وإذا كانت منطلقات الدراسات الثقافية قد بدأت مع رصد تحولات الثورة الصناعية، وتشكل الطبقة الوسطى، ونموذج الهويات المتعددة، والصراع الطبقي، ثم ظهور تيار دراسات الهيمنة مع المفكر الماركسي الإيطالي «أنطونيو غرامشي» فإن القرن الحادي والعشرين قد بدا باعثًا على تحديات جديدة تتصل بالتقنية التي أحدثت اختراقًا في الوعي تجاه قيم الصراع الكلاسيكية وتجاوزها، ومن ذلك السعي البحث عن صيغ الثورة عبر الطبقة العاملة، ومن ثم تطورت العملية لتتصل بالهويات المتعددة، والأقليات الثقافية، ونزعات ما بعد الحداثة، حيث أمست التقنية تتخلل مناحي الحياة كافة لتمسي جزءًا بنيويًّا من ثقافة الإنسان، بما في ذلك معضلاته، والبحث عن حلول.
الهيمنة: معضلة مستمرة
ربما جاء ظهور التقنية الثقافية (العالم الافتراضي) بوصفها إحالة للمعضلة الجديدة ولكن ضمن سياق الدراسات الثقافية، إذ ينبئ عن نوع من الضبابية بدأت تحكم الإنسان، فعلى الرغم من الدور المشار للمنصة الرقمية في تقويض هيمنة مركزية ثقافة الإعلان القائم على سيطرة الدولة، فإنها بدأت تتشكل بوصفها أداة في أيدي المجموعات، وهنا ندخل في صعوبة التحديد، فالجماعات كافة التي دخلت في قطبية التنازع في الدراسات الثقافية -لنقل تجاوزًا- التقليدية طفقت تبحث عن قوالب جديدة تطول عملية التمثيل التي تعدّ أداة محورية في أدبيات الدراسات الثقافية، ولكن سرعان ما ظهرت إشكاليات عميقة تتصل بفكرة قوامها بأن الوجود الإنساني لم يعد صيغة متفردة على الرغم من الوجود الجوهري للذات، وما يتصل بها، غير أن منظومة الذكاء الاصطناعي قد بدأت تشكل نوعًا من التحدي، ولكن تكمن قيمة التقنية في أنها أصبحت في بعض تمظهرها السياقي جزءًا من فعل الهيمنة، وهنا نقترب من معاني الصيغ الرأسمالية، والعولمة في محاولة أن تجعل من العالم الافتراضي صيغة جديدة لإنتاج السلع، حيث يكون الإنسان جزءًا من أسس التكوين حسب النظرية الماركسية، ولكن هذا بات في وضعية ربما تتيح له التفرد من خلال إنتاج خطابات مضادة، وبهذا أمسى العالم الرقمي جزءًا من المشكلة والحل، وهو ما يقودنا إلى تأسيس عملية بحثية عميقة لفضّ هذا الاشتباك.
في كتابه «الدراسات الثقافية» يفرد «سايمون دورينغ» فصلًا للبحث في هذا التكوين الطارئ، فهو يرى أن الإنترنت أو الشبكة العنكبوتية لا تأتي بوصفها ثقافة جديدة فحسب، إنما هي أداة تستوعب أنظمة الاتصال كافة، ويضيف أن دراستها لا يمكن أن تكون سهلة المنال من ناحية الآثار الاجتماعية، لكون الدراسة تخلد بشكل مطلق إلى الفعل التنبئِيّ والتأمل (ص 228)، ولكنه يبحث في قدرة (الويب) على أن يشكل أداة للبحث عن العدالة والمساواة، وهنا نرى كيف يمكن أن يشكل هذا مجالًا خصبًا أو واعدًا للدراسات الثقافية لكونه يمكن أن يُدرس في اتجاهين متضادين بحيث تتحول هذه الأداة إلى سلاح للهيمنة من ناحية، ومن ناحية أخرى تتحول إلى أداة للتقويض، والمقاومة.
التقويض المستمر
لعل مبحث علم الاجتماع من أكثر المجالات التي أطلقت جدلًا بخصوص هذا الشأن؛ ولهذا نرى أن علماء الاجتماع شرعوا أيضًا ببحوث في التعالق بين الرقمي وبين علم الاجتماع، كما نرى في كتاب علم الاجتماع الرقمي تحرير «كيث أورتون- جنسون ونيك بريور»، حيث يبحث عن مظاهر التداخل بين الرقمي والإنسان ضمن التشكيل الجمعي، فيدرس العلاقات الحميمية، وتأثيرات النوع، والجندر، والخيال وعدم المساواة، والتعليم، والإعلام، وغيرها كثير من القضايا التي تدرس في إطار واقعية حضور الشبكة العنكبوتية، ولكنها تبقى في حدود الإنسان، وانعكاس هذا الطارئ على ما يتصل به.
على الرغم من ظهور مظهر فعل الاستنساخ الآلي كما يذكر «آرثر أسا بيرغر» في كتابه النقد الثقافي حيث تتخذ المظاهر كافة طابعًا استنساخيًّا بما في ذلك كتل المعلومات والصور، ولكنها أيضًا تستنسخ معها الوعي بتجليات أو مبادئ ربما تتعرض دومًا للحذف والزيادة، وهو نسق تقويضي لمقولة ربما شكلت مركزًا للزمن وأصالة العمل كما الوجود، فعملية الاستنساخ ربما تحيلنا إلى ما بحثه «والتر بنيامين»، ويتحدد بوجود الهالة التي تميز كل عمل أصلي، أو تلك الأصالة للأعمال التي تبدو متفردة، ولكن ألا يمكن أن نعدّ الأعمال الأصلية جزءًا من مركزية الهيمنة، وإنهاء محاولات تجاوز الأصل أو هي عملية نزع الطابع المقدس عنها! وهو ما يعني أن كل شيء قد تعرض لمحاولة سلب هرميته أو تعاليه في الوعي الكلي للإنسان، حيث يوضح «أسا بيرغر» في هذا السياق تعليقًا على نظرية «والتر بنيامين» وأثرها، من حيث فكفكة الطبقات العميقة للسيطرة والهيمنة، أو تجاوز المعنى الفردي للفن، ووظيفته حيث يقول: «وبذلك فإن تطور المعاني المختلفة للاستنساخ الآلي يعني تحولًا كبيرًا في وظيفة الفنون، التي أصبحت مرتبطة بالاعتبارات الاقتصادية والمسائل السياسية، فالفنان –بصفة عامة- لم يعد يبدع نتيجة رؤية داخلية، وإنما أصبح الفنان أو (الفنانة بطبيعة الحال) مسترشدًا بالقول الاجتماعي، أو بأذواق جمهور المتلقين المتاحة، فالأفلام من هذا المنظور، لم تعد مجرد فن للتسلية، وإنما أصبحت مرتبطة بالحركات الجماهيرية السياسية، وتستخدم كذلك كأدوات في المعركة الأيديولوجية». (ص 111-112).
تحديات طارئة
ولكن يبقى السؤال الأهم هل يمكن أن نعد الشبكة جزءًا من نموذج الصراع الأزلي القائم على البحث عن خيارات تقويض الهيمنة، التي تتخذ مظاهر كثيرة ضمن بنية الإنسان بوصفه كائنًا اجتماعيًّا! ربما لا يمكن النظر إلى الشبكة بوصفها وعاءً حالمًا للوعي الإنساني، إنما هي تسهم بصورة أو بأخرى في تشكيل تعريفه الجديد، ولكن هذه المعضلة تكمن في أن الهوية -من وجهة نظري- من خلال النمط الإلكتروني تبقى هوية غير صلدة، ربما تقترب من مصطلح «زيغمونت باومان» لتكون هوية سائلة لكونها يمكن أن تُشيّد بعيدًا من التجسيد أو المرجعية الواقعية.
وهنا نستحضر ما ذكرته «موسوعة الدراسات الثقافية» بخصوص قدرة «السايبورج»، وهو مصطلح يحيل إلى الإنسان الذي اشتدت قواه الجسمانية بسبب المعدات التقنية، أو ذلك الذي يتكون من مكونات عضوية وبيو-ميكاترونية، إذ يتحقق في هذا السياق انزياح بسيط، حيث يمكن للشبكة العنكبوتية أن تؤثث الإنسان بهوية مفارقة، كما يمكن أن تمده بالأقنعة اللازمة، كما يمكن أن تثير –أيضًا- تحولًا نفسيًّا، يتجاوز الطابع المادي، حيث تتيح الشبكة أداة قوة لكونها لا تميل للمواجهة بطابعها التقليدي المبني على التحقق من الهوية كما في الواقع، وهنا يمكن أن نبحث في تحولات الشبكة التي انتقلت من البنيتين العسكرية والأكاديمية في الستينيات، لتشمل مناحي الحياة كافة ولكن ضمن بناء ينعت بالجذر لطابعها المتشعب.
وهذا ربما يثير قلق كثيرين نظرًا لطبيعة هذه الصيغة التي يمكن أن يتحول الإنترنت من خلالها إلى أداة بأيدي المقاومين والثائرين، كما يثير القلق تجاه من يعمل على الاستبعاد أو الإقصاء أو الاستغلال التجاري الفائق، ومع ذلك تبقى هنالك مجموعات غير قادرة على الوصول إلى هذه الأداة، وهو ما يثير كثيرًا من الأسئلة حول فكرة العدالة التي باتت في معرض اختبار حقيقي لهذا الطارئ على التاريخ البشري، وإذا ما نظرنا في صلب هذه التحديات فإنها من وجهة نظري تبدو تجسيدًا أو تكرارًا لمحوريات بنيوية تاريخية متأصلة في الوعي البشري، حيث يبقى الإنسان جزءًا من عملية التسليع، ونتاج المنظومة الرأسمالية كما فكرة العدالة، والإقصاء، والتمايز الطبقي، والعرقي والجنسي، ولكن ظهرَت الإنترنت بوصفها فضاء آخر يمكن أن يستهلكنا، ولكن الأخطر أن يسهم في تغريب الإنسان الذي فقد أو يفقد النزعة الإنسانية التي انقسم الباحثون حول جوهريتها واستمراريتها.
وهنا لا يمكن إلا أن نستعيد قيمة المحاكاة حيث تنهض الإنترنت على محاكاة الواقع، واختزاله، وتقنينه، وتعديله، وهذا ربما يجلب كثيرًا من الأضرار كما عبرت عنها مقولة المدينة الفاضلة لأفلاطون تجاه الفنون والآداب، غير أن مخاطر محاكاة الواقع تكمن في أنه يقع في منطقة أو فضاء آخر صعب التحقق منه، ولكن كما يذكر «ديلوز وغوتاري» فإن أحد أهم مخرجات الإنترنت تتلخص في قدرتها على تقويض النزعة الخطية المستقيمة للتفكير الغربي، بعد أن هيمن هذا النهج لقرون طويلة على نمط التفكير بوصفه نمطًا مركزيًّا، وهنا تكمن إحدى فضائل الإنترنت لكونها أدّتْ إلى تقويض جزء كبير من الأسس المركزية في تاريخ الأفكار الغربية، ونعني من حيث الفلسفة، كما الآلية التي يمكن أن نرى من خلالها ذواتنا، فثمة قيم جديدة من الاتصال والانفصال كما عملية التطور المستمر، وتلك التفرعات شديدة التعقيد التي تميز عالمنا اليوم.
وهكذا فإن هذا الاستناد الهائل القائم على تحولات الإنسان ربما يقودنا إلى عالم ثقافي يختزل فقط التمكين الرقمي، الذي بات مع أزمة كورونا أكثر تجلّيًا لكوننا بتنا نتقن الممارسة شيئًا فشيئًا، وبتنا نتعلم أن نستغني أو نتخفف من أدوات الواقع ربما لكونه يحتوي على إكراهات، أو لكونه أكثر كلفة، لنتوجه بوعي أو من دون وعي نحو عوالم موازية، لا على مستوى الفرد والعلاقات فحسب، إنما على مستوى اكتشاف إمكانية دحر تحقق الوجود الفعلي للحياة، من حيث التواصل التقليدي، وترتيب صيغ هذا الوجود بناءً على هذه المستجدات. إن اكتشاف إمكانية تحقق قيم الاستبدال قد يدفع إلى تهاوي كثير من الفلسفات، والرؤى والقناعات التي ربما باتت محل تساؤل.