بواسطة عبدالله السفر - كاتب سعودي | يناير 1, 2019 | نصوص
أيّها الربّان! في غير أوانها،
تُبتلَى بالحكمة.
جفت الأخشاب، وتوارت الأسلاب.
وَيْلَكَ! آزِرْ.
(«في سكّة التايهين». عاليًا، رفعَ صوتَ الأغنية ودلَّى قدميه في المعمعة).
يعتني بسخريته جيدًا كأعزّ الأولاد.
(يجب أن تستمر الحياة. يجب!).
تلك النافذة المواربة، يعرفها النسيم.
بخَفَرٍ يمرُّ بها، يقبض من العطر والزرقة ما سوف يتبختر به عندما يصل إلى الجبال.
نودِيَ إلى المزاد.
تداعَى الهِلْكةُ وبُسِطَتْ شجرةُ الزقّوم.
كالغصن مالت وانفلتت.
جفَّت الريحُ، والأرجوحةُ لها خشخشةُ حديقةٍ مهجورة.
امضِ يا قابضُ لإمرك. المنجلُ في يدك. أنت الحصّادُ والموسمُ تَلَعَ الرقبة.
الجمرةُ سائسُ الليل.
لا الكهف ملجأ ولا البحر مفر. ثمة رحابةٌ من تحتك. ثمّة نبعٌ. آه لو تعرف كيف تعود، وتضرب بقدمَيِ الطفل.
العطشُ الفاتن لغةُ الظل.
ارتشفْ برفق وأوغلْ في تؤدة.
المِسرجةُ تطوف.
حنانُ الضوءِ وهدأةُ الظلّ.
ما أكثر نُسَخك وما أقلّك.
يا أيّها الأمل! كن أعمى وأقبِلْ عليّ.
ما لهذا العمر يركض وفي قفزاتٍ وحشية؟
كم في هذا الفراغ من فردوس!
اعبرْ إليه. لا تخف ولا تتردّدْ.
تكلّمَ الرمادُ.
غابَ الاسم، وتفتّت الصورة.
يا خيرَ جليسٍ
أسألك ورقةً بيضاء
وهامشًا غيرَ معطوب.
الريشةُ على هواها وتدّعي الريح.
ملتاعٌ بجرّةٍ فارغة.
مَن يردُّ إليه ولو حفنةً من رمادِهِ الضائع.
وهل كانت حياتك غير هذه الطائرة الورقية؟
اشتبكتْ خيوطُكَ وقليلُكَ ينفد.
سُدًى منك كلُّ هذا التحديق.
إنَّ البرقَ لا يخيّم.
لا تلوموا الظل؛
فقد أدركتْ قلبَهُ التجاعيد.
«تفرق كتير»* طعامُ الليل وصلاتُه. نجمتُهُ العالية. فليستمرّ الليل. فليستمر.
——
*الفنانة نجاة.
من الخزانة المنقوبة في جدار الليل، تسلّلتْ «عشقت الليل»*؛ فـسِلتُ حتى آخر الأعضاء.
——
*الفنان طلال مداح.
هذا بابُ الليل. لا يَفتح إلا لحنجرةٍ عفيّة؛ تدير المفتاحَ وتدير بابَ الليل. اندلعتِ «الناس المغرمين»* تقتلعه اقتلاعًا.
——
*الفنان محمد عبدالمطلب
بواسطة عبدالله السفر - كاتب سعودي | مارس 1, 2018 | كتب
لا يفتأ الشاعر علي العمري يعود إلى جرح وجوده يحكه يقشره؛ يتركه ينث حياته المسمومة منذ تدلى رأسه منذ رفعه في سديم المعرفة ومنذ غاص في تربة الواقع وعانى صلف الحديدة الاجتماعية المدببة؛ تخمش شوكتها الجسد وتبرح فيه كائنًا تنبذه المدينة بصيارفها وحراسها حتى مقابرها. النبذ راغبًا فيه بما هو عزلة وتعبير عن مأزق وجود.. ومدفوعًا إليه بما هو فرد في مجموع مدحور إلى «منحدرات الحياة» وأقبيتها المعتمة. هيئتان من عيش اللاعيش تعلكانِ في كيان الشاعر على مر تجربته الشعرية، وفي كل جديد منها تتعمّق -تلك التجربة- وتزداد فداحة المأزق ظهورًا. كما تتجلّى في كتابه السادس شعريـًّا: «ذكرى شخص تظنّه أنت» (نينوى للدراسات والنشر، دمشق، 2017م).
العزلة للشاعر علي العمري ليست خيارًا شعريًّا وطريقة في القول ومنهجًا في الكتابة، إذْ إن من يعرف العمري عن قرب يجد كم هو ناءٍ عن صخب الحياة ومعتركها اليومي. إطلالاته شحيحة إن لم تكن في غاية البخل. يكاد أن يكون منسحبًا من الحياة الاجتماعية والثقافية حتى إن سوّلت له نفسه الحضور في عالم التواصل الاجتماعي فإنما يحضر حضور الغريب غير الماكث إلا قليلًا وسرعان ما يترك صفحته معلّقة ببياضها في العالم الافتراضي المشحون بالحركة والكلام والضوضاء التي تجعل العمري ينفر ذاهبًا إلى هدأته؛ باحثًا «عن كهفٍ» يلائمُ عزلته وتأملاته بعيدًا من الحشد الذي هو غيابٌ كامل؛ كتلة صمّاء؛ أدوار تكرارية؛ أقنعة متناوبة.. بوهمِ الحريّة وبوهمِ الحضور. وبهذا الاستعداد والتكوين ينكتب النص صدًى لحياة وسبْرًا للمضايق المشعور بها تصدَّعُ وتنثغر وتتعالَى من الداخل بصورةٍ محسوسة مجسّدة. تحقُّقٌ يرتسمُ في الطويّة والملامح والمحيط بإشعاعات الباطن الكابية: «أشعر بروائح قلبي المنتنة، وفي صدري مراعٍ مجدبة».. «أينما أتحرّك يصطادني فخٌّ، فأنا مضطهد وزنزانتي قدريّة أكثر مما أتصوّر».. «عيني تقول أشياء تجرحني، مع كلِّ لفتةٍ أرى كم حياتي جافّة وآيلة للسقوط».
إنّ حسَّ التجافي والنفور، والابتعاد من الضوء وطلب الظل في أكثر أشكاله نأيًا وعزلة: «يحيا بقيّة عمره بهاجس البحث عن كهف».. «سأظلّ أحنّ لكهفٍ يتراءى لي في الضباب»؛ وهو ما يزكّي ويربّي الكآبة شارةً وجدارًا. بها يفصل نفسه عن بلاهة المشهد وتمثيليّاته الزائفة، وهي العنوان الذي يجابهُ به ويردّ.. متصلّبًا ومضاعِفًا من سماكة الجدران. الستارة الغليظة تبقيه بعيدًا ومراقبًا يشحذُ حذره ومعلنًا انتباهه: «أمّا كآبتي فسأظلّ أمرّنها لئلا تترهّل، أحتاجها شفّافةً».. «كآبتي مطرقةٌ تقرع أجراسها ناحيةَ القلب».. «أقفُ لأتخيّل وجهي كالحًا في دعايةٍ لترويج الكآبة».. «تعتّمُنِي الكآبة». فتترسّبُ ـ تلك الكآبة ـ وتنتج معادلَها ودالّها الوجودي الدائم الذي يعكس الاضطراب الداخلي والموقف من شبكة العثرات يتردّى فيها وتطبق عليه؛ ليتقلّب في حالته تغزوه نوبات الغثيان تباعًا: «غثياني مزمنٌ» ليتخبّطَ في قيئه وفي نثار بصاقه كنوعٍ من الدفاع الهشّ، وإن يكن شديد التعبير، عن منحةٍ ضاق بها وعن هديّةٍ باتت غير مقبولة.
يعمل «حطّابُ روحِه» على تشظية ذاته، فيسجر عليها في تنّور غضبه الموّار والمتلاهب جرّاء ما يمرّ به وما يلقاه. يتخفّف من عالم الحضور. يتخلّص من وطأة الشخص وعلامات اشتباكه بالحياة. ينحو نحو «ارتطام عظامه بالعدم»؛ فلا وجود له ولا ثمّة ما ينبئ عن أثرٍ متروك. انزلاقٌ تام إلى الكهفية والشبحيّة: «أتوارى قدر ما أستطيع ولا أظهر إلا خفيفًا، لأمرّ كالظلّ بلا أثر».. «أتذرّعُ بالعزلة، تحرسني رغبةُ أن أظلّ مجهولًا لأتوارى في حجراتٍ ذهنية».. «طولَ حياتي أعيش/ بحتميّة كوني غائبًا/ غيابَ من يحضر ولا يراه أحد».
الفرد الذي يحيا عزلته ويعمّق منها، هو ذاته من يندغم بضمير الجماعة واحدًا منهم حاملًا -مثلهم- همَّ الحياة وتكاليفَها وأعباءَها اليوميّة. يرزحون جميعًا تحت ظلٍّ عاصفٍ وفاتكٍ سبق أن عرض له الشاعر في فلذاتٍ وسطورٍ من كتابه الشعري الرابع «أبناء الأرامل»؛ لها وقْعُ المخرز وأثرُ الكي. وهذا ما يستعيده هنا بصيغةٍ تضمرُ الحرقة ذاتها ثم تفشيها في مشهدٍ قياميٍّ مفزعٍ يتفصّد بالبؤس وعبوس النهايات: «حياتنا نحملها كالتهمةِ على ظهورنا».. «دائمًا نحيا في الرمق الأخير متأهّبين للموت كما لو أن حياتنا مجرّد احتضارٍ طويل».. «سنلهثُ إلى أن نتساقط جيفًا على الطريق». ومن هنا، ليس غريبًا أن يكون مفتتح الكتاب نصًّا مؤشّرًا ومضيئًا بـ«ضدّ»ــــيّاتٍ حاسمة نحو الذات وامتداداتها وضمن الدائرة الاجتماعية؛ يكتبها مجلّلًا بسوادٍ ثابت ينساب في الكتاب شأن مصيرٍ لا بدّ من الارتطام به: «أكتبُ بحسِّ الجنازةِ والمعزّين في آنٍ».